لبنان... سباق مفتوح مع الانهيار الشامل

بعدما بات في قلب المواجهة الأميركية ـ الإيرانية

لبنان... سباق مفتوح مع الانهيار الشامل
TT

لبنان... سباق مفتوح مع الانهيار الشامل

لبنان... سباق مفتوح مع الانهيار الشامل

يقف لبنان اليوم على مفترق طرق، حيث من المفترض أن يحدد خياره مصيره ككل بعدما وصل إلى «نقطة اللا عودة» على المستويات كافة، سواءً على: الصعيد السياسي بعدما فقد قسم كبير من اللبنانيين الثقة بالطبقة الحاكمة منذ 30 سنة، وخرجوا في انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. أو الصعيد الاقتصادي - المالي، بعدما انهارت عملته الوطنية، وتراجعت الموجودات بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي إلى حدودها الدنيا، ما بات يهدد الانهيار المالي بوقف دعم القمح والوقود والدواء. أو على الصعيد الأمني بعد انفجار مرفأ بيروت من دون تحديد أسبابه المباشرة حتى الساعة، وربط الملف بعجز واضح من الدولة على ضبط مرافقها الشرعية وغير الشرعية على حد سواء.
نجح لبنان، بل على الأصح الدولة اللبنانية، في تخطي «مطب» حكم المحكمة الدولية الخاصة المولجة بالنظر في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري ورفاقه. وبعدما كانت المخاوف كبيرة من ردّات فعل سلبية في الشارع في أعقاب إدانة أحد عناصر «حزب الله» بارتكاب الجريمة، مرّ هذا التحدّي المفصلي «على خير». وحصل هذا الأمر في ظل ترقّب قسم كبير من اللبنانيين ما إذا كانت السلطات المحلية ستتحرك فتحاول إلقاء القبض على سليم عيّاش، الشخص الذي أدانته المحكمة، خصوصاً، أن «حزب الله» يصرّ على رفض التعليق على الحكم واعتبار أنه - أي الحزب - غير معني بالمحكمة ككل.
جدير بالذكر أن عيّاش، أدانته المحكمة وحيداً، في حين برّأت 3 عناصر آخرين تابعين للحزب لنقص الأدلة الكافية للإدانة. وفي حين تؤكد مصادر مطلعة على أجواء «حزب الله» أن تسليم عيّاش لا يمكن أن يحصل، بل ولا مجال للنقاش به، تتساءل المصادر ذاتها في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، حيال كيف يمكن تسليم عيّاش بينما الحزب أصلاً لم يعترف ولا يعترف بالمحكمة ولا بأحكامها؟

فجوتان في حكم المحكمة الدولية
وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، يتحدث الدكتور شفيق المصري، الاختصاصي في القانون الدولي والمرجع القانوني والدستوري اللبناني، عن «فجوتين أساسيتين في قرار المحكمة الدولية، أولهما عدم تحديد مسؤوليات القيادي في (حزب الله) مصطفى بدر الدين في الجريمة، حتى ولو كان قد أعلن عن اغتياله في وقت سابق. أما الفجوة الثانية فهي تبرئة المتهمين الثلاثة أسد صبرا وحسين عنيسي وحسن مرعي، مع العلم أن نص الحكم كان قد أشار إلى أدوار لهم في موضوع الاتصالات. وبالتالي، فمجرد الاشتراك في جزء من العملية، حتى وإن كانوا لا يعلمون بالهدف النهائي، يحمّلهم مسؤولية، ولو لم تكن على مستوى مسؤولية الطرف أو الشخص الذي نفّذها».
ويشّدد الدكتور المصري على «وجوب قراءة الحكم بكامل حيثياته وليس حصراً بالفقرات الحُكمية، لأنه بذلك يرد بوضوح أن هدف الجريمة كان سياسياً، ويخصّ سوريا، خاصة أنه ورد في متن الحكم أن قرار اغتيال الحريري اتخذ بعد حدثين: الحدث الأول (مؤتمر البريستول الثالث) الذي شارك فيه رفيق الحريري وتقرر خلاله وجوب إخراج سوريا من لبنان. أما الحدث الثاني فلقاء الحريري بوزير الخارجية السوري وليد المعلّم وما تخلله من شكاوى على الوضع السوري في لبنان». ويضيف المصري: «يتحدث البعض عن مآخذ على المحكمة كونها لم تذكر بوضوح مَن قرر تنفيذ عملية الاغتيال، إلا أن المحاكم الدولية لا تستطيع إصدار أحكام بحق مؤسسة أو دولة باعتبارها تختص بمقاضاة الأفراد»، معتبراً أن الإشارة الواضحة إلى سوريا في الحكم بمثابة إدانة لها.
من ناحية ثانية، وفيما يترقب لبنان العقوبة التي ستعلنها المحكمة بحق المتهم الوحيد سليم عيّاش في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، يبدو أن إلقاء القبض عليه غير متاح، باعتبار أنه ومنذ صدور القرار الاتهامي لم يكن هناك محاولات جدية من قبل السلطات المحلية لتوقيفه. وفي هذا الإطار يقول المصري إن الأمر منوط حالياً بالحكومة التي سيصار إلى تشكيلها، وما إذا كانت حقاً تريد أن تُظهر للرأي العام المحلي والدولي أنها تقوم بمساعٍ جدية في هذا المجال. ويتابع: «كما أن المحكمة قد تحيل الموضوع بعد الإعلان على العقوبة إلى الإنتربول (البوليس الدولي) ليقوم بتعقبه واعتقاله. وهناك سوابق في هذا المجال بحيث تم إلقاء القبض على مدان من قبل إحدى المحاكم الدولية من خلال الإنتربول».

المرفأ: تخوف من إسقاط المسؤوليات السياسية
على صعيد آخر، لئن كان لبنان قد تخطى إلى حد بعيد تداعيات حكم المحكمة الدولية، بعد مخاوف من فتنة سنية - شيعية، فهو لا شك لن يتخطى قريباً آثار وتداعيات انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) الحالي الذي ذهب ضحيته عشرات القتلى وآلاف الجرحى.
إذ تتواصل التحقيقات، التي لا تزال تكاد تكون محصورة بالمسؤولين الأمنيين في المرفأ وبإدارته المدنية. وهذا، في ظل إعلان أكثر من طرف سياسي أساسي في لبنان انعدام ثقته في أي تحقيق محلي، والمطالبة بتحقيق دولي لا تبدو طريقه معبّدة في ظل إعلان رئيس الجمهورية ميشال عون، وحليفه أمين عام «حزب الله»، السيد حسن نصر الله، عدم موافقتهما عليه.
ما يُذكر، أنه حتى الساعة أصدر فادي صوّان، المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، عدداً من مذكرات التوقيف الوجاهية، أبرزها بحق مدير عام الجمارك بدري ضاهر، ومدير استثمار المرفأ حسن قريطم. ولا يزال صوّان يركّز في تحقيقاته على جانب التقصير والإهمال الذي أدى إلى بقاء مادة «نيترات الأمونيوم» موضوعة طيلة 7 سنوات داخل العنبر رقم 12 إلى حين انفجارها. أما النظر في أسباب الانفجار، فيؤجله صوّان إلى حين تسلمه تقارير خبراء المتفجرات، خصوصاً الخبراء الفرنسيين وفريق مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي آي) اللذين يساعدان لجنة التحقيق اللبنانية.
في أي حال، يخشى كثيرون من حصر المسؤوليات بملف انفجار المرفأ بالمسؤولين الأمنيين، وألا تطال القضاة الذين كانوا على علم بالموضوع، وكذلك الوزراء المعنيين. وهنا يوضح العميد المتقاعد الدكتور محمد رمّال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن هناك «أكثر من جهاز أمني يتولى أمن المرفأ، إضافة لسلطة مدنية تقوم بإدارته، إلا أنه تبين أن هناك مراسلات بين الأمنيين والإدارة المدنية، كما السلطات القضائية، ما يستدعي التحقيق مع عدد من القضاة، وبخاصة قضاة الأمور المستعجلة، لأنه في نهاية المطاف فلا سلطة للأمنيين للتصرف بالموجودات في المرفأ. وهم لا يقومون بأي شيء في هذا المجال إلا بإشراف وبقرار من القضاء المختص». ومن ثم، يشير الدكتور رمّال إلى «الخشية من حصر المسؤوليات بإدارة المرفأ والأمنيين تجنباً لتوسيعها... فتطال السلطة السياسية والوزراء المعنيين، وهنا نتحدث عن وزراء الأشغال والنقل ووزراء المال. وعلى سبيل المثال، مع قرار توقيف مدير عام الجمارك يجب أن يكون هناك تحقيق فوري مع وزراء المال باعتبار المديرية العامة للجمارك تتبع في نهاية المطاف وزارة المال».
ولكن يبدو أن السلطة السياسية لن تتمكن من التهرب من مسؤولياتها في كارثة المرفأ، نتيجة الضغط الشعبي الكبير؛ إذ يُتوقع أن يدلي عدد من الوزراء بإفاداتهم على سبيل المعلومات أمام المحقق العدلي، على أن يُصار، في حال توافرت خلال التحقيق أدلة على ارتكاب أي منهم جرماً متلازماً للقضية، إلى تحويل الوزير المستجوَب إلى مُدَّعى عليه. أما إذا كان الجرم غير متلازم، فيحيل الأوراق إذ ذاك إلى النيابة العامة التمييزية للنظر بأمر الادعاء وإحالته إلى المرجع المختص.

الحكومة المقبلة مؤجلة حتى الانتخابات الأميركية؟
في هذه الأثناء، تجري التحقيقات في ملف مرفأ بيروت بغياب حكومة فاعلة قادرة على الضغط باتجاه تسريع الإجراءات والتدابير الواجب اتخاذها.
إذ إن الكارثة التي أطاحت بحكومة الدكتور حسان دياب وحوّلتها إلى «حكومة تصريف أعمال» لا يبدو أنها ستشكل حافزاً كافياً للقوى السياسية لترحيل خلافاتها والترفع عن مطالبها، وبالتالي، السير بخطى سريعة في عملية تشكيل حكومة تضغط القوى الدولية لتكون حيادية وتلتزم بالإصلاحات السياسية والاقتصادية.
وراهناً ترفض «قوى الثامن من آذار»، بقيادة «الثنائي الشيعي» («حزب الله» و«حركة أمل») وحليفها رئيس الجمهورية، السير بحكومة من المستقلين، وتصرّ في المقابل على «حكومة وحدة وطنية» من السياسيين. وهذا هو ما ترفضه قوى المعارضة، خصوصاً رئيس تيار «المستقبل» بزعامة الرئيس سعد الحريري، الذي يُعدّ المرشح الأوفر حظاً لتولي الدفة الحكومية. وهذا الوضع، يعني فعلياً أن عملية التشكيل لن تكون ميسّرة رغم كل ما جرى ويجري تداوله عن «طبخ» تسوية إقليمية - دولية ستمكّن من إنجاز التشكيلة الحكومية قبل الزيارة الثانية المرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.
الدكتور سامي نادر، مدير معهد «الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية» في بيروت، يبدو متشائماً بخصوص ولادة حكومية قريبة. إذ رجّح نادر خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «تواصل حكومة دياب (تصريف الأعمال)، أقله حتى موعد الانتخابات الأميركية المقبلة في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل». ويعتبر نادر أن قرار تشكيل الحكومة «بات في ملعب إيران والولايات المتحدة الأميركية، فواشنطن تنتظر من طهران أن تأتي إلى طاولة المفاوضات للبت في كل الملفات العالقة ومن بينها الملف اللبناني، إلا أن الأخيرة لن تأتي إليها قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، لا سيما في ضوء استطلاعات الرأي التي تشير إلى تراجع حظوظ الرئيس دونالد ترمب بعد تفشي جائحة (كوفيد - 19)».
ويلفت الدكتور نادر في تصريحه إلى أن ما يُحكى عن مبادرة فرنسية وعن تسوية إيرانية - فرنسية ستؤدي لولادة قريبة للحكومة أمر غير دقيق؛ إذ إن الطرف الأميركي هو الممسك بالملف اللبناني، في حين أن الدور الفرنسي مجرّد مُسهِّل ودور واسطة حصراً. ويشدد الخبير الاستراتيجي اللبناني على القول إنه لا إمكانية لنهوض لبنان إلا من خلال حكومة مستقلة عن الطبقة السياسية، تواكب الكارثة الإنسانية التي نتجت بعد انفجار المرفأ وعملية إعادة إعمار بيروت، وتنكبّ جديّاً على وقف الانهيار الاقتصادي وهو ما لا يمكن أن يحصل من دون مساعدة دولية، ونجاح المفاوضات مع «صندوق النقد الدولي». ويختتم ملاحظاته بالقول: «أما حكومات الوحدة وطنية أو حكومة الخديعة، أي حكومات التكنوقراط التي تمسك بها المنظومة السياسية من الخلف، فلن يُكتب لها النجاح، وأصلاً يرفضها المجتمع الدولي».

الانهيار المالي يهدد فرص حصول اللبنانيين على القمح والدواء
> في خضم المجابهة الإيرانية - الأميركية وانصراف القوى السياسية الداخلية في لبنان إلى محاولة تحسين شروطها، يتواصل الانهيار المالي في البلاد... ولقد بلغ فعلاً مستويات غير مسبوقة مقابل ارتفاع جنوني في معدلات الفقر والبطالة.
الخبير المالي والاقتصادي وليد أبو سليمان بشير في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أن «أي فراغ في إحدى المؤسسات الدستورية، سيؤدي بطبيعة الحال إلى تدهور الأوضاع، فكيف الحال إذا كانت المؤسسة التنفيذية هي التي تشهد الشلل وهي المسؤولة عن إدارة المفاوضات مع (صندوق النقد الدولي)؟!».
ويتابع أبو سليمان قائلاً: «لبنان اليوم بأمسّ الحاجة لنجاح هذه المفاوضات، وبأسرع وقت، من أجل وضع البلد على سكة الإصلاحات والنهوض وإعادة هيكلة الدين». ويلفت إلى أن «نجاح هذه المفاوضات لا يعني حصراً الحصول على دعم الصندوق البالغ نحو 8 مليارات دولار أميركي، وإنما يعني أيضاً فتح الأبواب أمام مؤسسات دولية أخرى قد تقدم الدعم أو القروض للدولة اللبنانية. وهذا، من دون أن ننسى أن الصندوق طرف ذو صدقية للسير في المفاوضات مع الدائنين بعدما تخلف لبنان عن سداد دينه الخارجي. وبناءً عليه، فإن تحوّل الحكومة إلى مجرد (حكومة تصريف أعمال) سيضع الدولة في حالة شلل تام، وكلما امتدت في الزمن، تكبدنا خسائر أكثر».
الخبير أبو سليمان يعتبر أنه رغم أهمية الإجراءات والقرارات التقنية «فإنها لم تعد ذات جدوى، إذا لم يتم التوصل إلى تفاهم سياسي جذري من شأنه أن يساعد على الإنقاذ، من خلال تأليف حكومة قادرة على ترميم الثقة مع الداخل ومع الخارج. للعلم هذا الخارج بات معنياً بالملف اللبناني بكل تفاصيله، ولا سيما في ظل ما يحكى عن عقوبات قد تطال بعض الشخصيات اللبنانية». ثم يستطرد: «لا يمكن للحكومة الجديدة أن تكون امتداداً للسياسات السابقة، خصوصاً إذا كان هناك من نية جدية لمخاطبة الخارج. وبالتالي فإن الحل السياسي هو انطلاقة الألف ميل».
وأخيراً، رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما إذا كان لبنان على موعد مع مزيد من الانهيار في سعر صرف الليرة، جزم أبو سليمان بذلك «ما دامت الإصلاحات لم تُقرّ، وما دام دخول الدولار إلى السوق اللبنانية مقنّناً، حيث صارت الاستثمارات الخارجية وكذلك تحويلات المغتربين شبه معدومة، في حين يعاني التصدير من إشكالات بنيوية، منها تعطيل المرفأ وامتناع الصناعيين عن إدخال دولاراتهم إلى السوق اللبنانية بسبب انعدام الثقة». ثم أردف قائلاً إنه «إذا لم تحصل إعادة نظر لميزان المدفوعات، فمن الطبيعي أن يتدهور سعر صرف الليرة. وهذا ما نلاحظه عبر بعض التلميحات والتسريبات التي تفيد بأن (مصرف لبنان) لن يستطيع الإبقاء على دعم المواد الأساسية، أي النفط والأدوية والقمح لأكثر من ثلاثة أشهر إضافية. وبالتالي ما لم يُتخذ أي قرار بشأن الأسر الأكثر فقراً في لبنان، فالخشية الحقيقية أن تزداد حالة الفقر بنسب ملحوظة قد تصل إلى أكثر من 70 في المائة... وكذلك سيرتفع التضخم بنسبة 50 في المائة كل شهر، وبالأخص أن هناك كثيرين من اللبنانيين الذين يستفيدون من الدعم الذي يؤمنه (مصرف لبنان)، ولا ننسى أن الاحتياطي بالعملات الأجنبية في مصرف لبنان ينخفض بوتيرة سريعة جداً ومخيفة».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».