من بين مجموع الرسائل التي ضمَّنها الرئيس الفرنسي حديثه لمجلة «باري ماتش»، ونُشِرت أمس، ثمة واحدة رئيسية لافتة للنظر تتناول كيفية تعاطي الاتحاد الأوروبي مع تركيا؛ فإذا كان الجدل، بل التوتر، بين باريس وأنقرة واضحاً وضوح الشمس، فإن نوعاً من الخيبة يظلل كلمات إيمانويل ماكرون ويدفعه هذه المرة لوضع النقاط على الحروف، ليس فيما يخص «التهديد» التركي الذي سبق أن أشار إليه، أكثر من مرة، بل بالنسبة إلى ما يراه من «ميوعة» في ردة الفعل الأوروبية إزاء ملف بالغ الأهمية يخص الاستقرار في المتوسط ومصالح الاتحاد.
اختار ماكرون توجيه سهامه قبل ساعات فقط من وصول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى حصن بريغونسون المطلّ على مياه المتوسط من أجل اجتماعات عمل تتناول ملفات متنوعة، من أهمها الملف التركي وطموحات أنقرة النهمة؛ فميركل وحتى نهاية العام الحالي ترأس مجلس الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تتحمل مسؤولية رئيسية، إضافة إلى تمتع ألمانيا بالثقل الأكبر في علاقة الأوروبيين بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وأخيراً، لأن ألمانيا، حتى اليوم، تبدو مترددة في مواكبة الرئيس الفرنسي إلى ما يريده من سياسة متشددة في التعاطي مع أنقرة لأسباب؛ أهمها اثنان: الأول، أن ألمانيا تستضيف أكبر جالية تركية في أوروبا، وبالتالي فإن برلين لا تريد استفزاز أنقرة. والثاني، أن ميركل غير راغبة بتاتاً في تكرار ما حصل في 2015، عندما فتحت تركيا حدودها للاجئين والنازحين الذين تدفقوا على ألمانيا بمئات الآلاف.
وفي السنوات الأخيرة، فقدت ميركل كثيراً من شعبيتها بسبب «كرم» سياستها، وجاءت العمليات الإرهابية التي تورّط فيها لاجئون من أفغانستان وسوريا وتونس، وأخيراً العراق، لتزيد من النقمة عليها، ما يدفعها هذه المرة إلى الحذر.
في كلامه للمجلة الفرنسية، يبدأ ماكرون بـ«توصيف» الوضع؛ فهو يرى أن الرئيس رجب طيب إردوغان «ينتهج سياسة القوة، وهي سياسة توسعية تمزج بين المبادئ القومية والإسلاموية، وهي غير متوافقة مع المصالح الأوروبية». وأكثر من ذلك، فإنه يعتبرها «عاملاً يزعزع استقرار» المنطقة والمتوسط.
وانطلاقاً من هذا التوصيف، يشدد الرئيس الفرنسي على أنه «يجب على أوروبا أن تتصدّى لهذه الأمور وجهاً لوجه وأن تتحمّل مسؤوليتها»، نافياً عن نفسه أن يكون من دعاة التصعيد مع تركيا. وعند هذا الحد، يصل ماكرون إلى بيت القصيد حين يعلن أنه لا يؤمن بـ«الدبلوماسية العاجزة»، في إشارة واضحة إلى الدبلوماسية الأوروبية. ولمزيد من الإيضاح، فإنه يقيم خطاً فاصلاً بين هذه الدبلوماسية التي لا تعطي نتائج وما قامت به فرنسا، بناءً على طلبه باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، بإرسال قوة دعم عسكرية لليونان لمواجهة التهديد التركي. ولخص ماكرون ذلك بجملة: «لقد بعثنا بإشارة تبين أن التضامن الأوروبي ذو معنى».
يتعين فهم هذه الكلمات الأخيرة على ضوء إسراع ماكرون بإرسال طائرتي «رافال» وفرقاطة وحاملة طوافات إلى المياه اليونانية للتعبير عن دعم باريس لأثينا في مواجهة الاستفزازات التركية المتمثلة بقيام أنقرة بإرسال سفينة مسح جيولوجي تواكبها قوة بحرية كبيرة إلى المياه اليونانية، في إطار التنقيب عن الغاز.
وسبق أن قامت تركيا بالشيء نفسه قبل أربعة أسابيع. إلا أن تدخل ميركل حمل إردوغان على «تجميد» التنقيب بانتظار محادثات بين أنقرة وأثينا. وعاود إردوغان الكرة قبل أيام مرسلاً سفينة المسح بالمواكبة نفسها ومحدداً الفترة الزمنية التي ستعمل فيها في المياه المتوسطية التي ترفض أنقرة اعتبارها يونانية.
ما يغيظ ماكرون بطء ردة الفعل الأوروبية؛ فقد قرع ناقوس الخطر بالنسبة للسياسة التركية في ليبيا ولم يلقَ جواباً. وطالب بعقوبات اقتصادية على أنقرة، وحتى اليوم ما زال الاتحاد الأوروبي عاجزاً عن التوصل إلى موقف موحد، ما يعيق اتخاذ تدابير تتطلب الإجماع. كذلك، شكت باريس من تصرف القطع البحرية التركية إزاء الفرقاطة «لو كوربيه» في 10 يونيو (حزيران) الماضي، عندما كانت تقوم بمهمة أطلسية في إطار عملية «سي غارديان». وجل ما حصلت عليه كان قبول أمين عام الحلف الأطلسي بتحقيق داخلي لم تُرضِ نتائجه باريس التي علّقت مشاركتها في العملية المذكورة.
ولاستكمال الصورة، تتعين الإشارة إلى الموقف النقدي الذي تلتزم به باريس إزاء ما تقوم به أنقرة في سوريا والعراق ولبنان، وخصوصاً اليوم في ليبيا ومياه المتوسط، لتدعو إلى «الحزم» في التعاطي معها، ولأنها تعتبر أن الامتناع عن الرد سيشجعها على المزيد. ولكنها تعي أن «مفتاح» الحل موجود في واشنطن التي تغضّ الطرف عما تقوم به تركيا، باعتبار أن سياساتها «تجابه» تنامي النفوذ الروسي، وهي المسألة الغالبة على التفكير العسكري والاستراتيجي الأميركي.
ثمة استحقاقان قريبان ترغب باريس في استغلالهما لدفع الأوروبيين لمواقف أكثر تشدداً: الأول هو اجتماع وزراء خارجية الاتحاد في برلين في 28 الحالي، للنظر في المقترحات التي سيقدمها وزير الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل، الذي كُلّف منذ يونيو الماضي بتقديم سلة مقترحات للضغط على تركيا التي تهدد مصالح عضوين أوروبيين، هما قبرص واليونان. ويطالب هذان البلدان بقوة بهذه العقوبات. إلا أن الانقسامات الداخلية حالت حتى اليوم دون اتخاذ القرار المناسب. والاستحقاق الثاني هو قمة الدول الأوروبية المطلّة على المتوسط التي دعا ماكرون إلى عقدها نهاية الشهر أو بداية سبتمبر (أيلول).
عقب حادثة 10 يونيو التي كادت تتطور إلى اشتباك بين الفرقاطة «لو كوربيه» والقطع البحرية التركية، سارعت باريس، على لسان رئيس أركان جيوشها، إلى التأكيد أنها «لا تريد الدخول في مواجهة مسلحة» مع تركيا في مياه المتوسط. وبينما يتهم الأتراك ماكرون بـ«الهروب» من مشاكله الداخلية بالتصعيد معهم، فإن باريس ترى أن سياسة إردوغان الخارجية سببها الصعوبات الداخلية السياسية والاقتصادية التي يواجهها في الداخل، والانشقاقات داخل حزبه، وقيام أحزاب منافسة خارجة من الرحم نفسه الذي خرج منه «التنمية والعدالة» الحاكم.
والثابت اليوم أن التوتر بين باريس وأنقرة سيستمر ما دامت بقيت أسبابه قائمة. والحال أنه لا شيء يشي بأن إردوغان سيعمد إلى مراجعة سياسته أو سيتخلى عن طموحاته، رغم أنه يثير التوتر ويهز الاستقرار. كما أن المؤشرات تدل على أن ماكرون مستمرّ في التصويب على سياسات يعتبرها مضرة لمصالح بلاده ولمصالح أوروبا بوجه عام.
ماكرون يرفض «الدبلوماسية العاجزة» مع تركيا
ماكرون يرفض «الدبلوماسية العاجزة» مع تركيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة