كيف يعمل المبدعون؟

الروتين الإنساني عندما يكون اختياراً

كيف يعمل المبدعون؟
TT

كيف يعمل المبدعون؟

كيف يعمل المبدعون؟

كتب فرانز كافكا، المحبط من مكان إقامته ووظيفته اليومية، في رسالة إلى فيليس باور في عام 1912: «الوقت قصير، وقوتي محدودة، الوكالة بمنزلة رعب مقيم، والشقة صاخبة، وعندما يعجز المرء عن ممارسة حياة ممتعة وبسيطة عليه أن يحاول الانفلات باعتماد مناورات مرنة». كافكا هو واحد من 161 عقلاً ملهِماً وملهَماً -من بينهم روائيون وشعراء وكتاب مسرحيون ورسامون وفلاسفة وشعراء، وسينمائيون، وعلماء رياضيات، سُجلت طقوسهم اليومية في كتاب (طقوس يومية... كيف يعمل المبدعون) الصادر عن دار «المدى»، تأليف ماسون كاري، وترجمة خالد أقلعي. هؤلاء المبدعون عملوا في مواجهة عقبات لا تعد ولا تحصى (بعضها مسبب ذاتياً) وطوروا مجموعة رائعة من العادات المحسوبة، لإنجاز عملهم كل يوم من وقت الاستيقاظ في وقت، وشرب كميات كبيرة من القهوة إلى المشي اليومي الطويل والقيلولة المحددة بدقة. وعادات غريبة وغير مألوفة وأخرى نمارسها كل يوم.
ينوّع المؤلف مصادر أخباره، فتارة يعتمد شهادات الأقارب، وتارة روايات كتّاب السير، وتارة ثالثة الحوارات التي أجراها المبدعون أنفسهم، والمنشورة في مجلاّت، أو المبثوثة عبر برامج إذاعية أو تلفزيونية، كما هو الحال مع المؤلف الموسيقي بنيامين بريتن. كما أنه ينوّع العينات التي يشتغل عليها، إبداعياً وتاريخيا ً أيضاً؛ فالباحث يجمع ما بين أسماء إبداعية مشهورة عاشت في حقب تاريخية قيد الحياة.
فتوماس وولف يقف في المطبخ، مستخدماً الجزء العلوي من الثلاجة كمكتب، ويمضغ جان بول سارتر أقراص كوريدران (مزيج من الأمفيتامين والأسبرين)، حيث اعتاد تناول 10 مرات الجرعة الموصى بها يومياً. وكان ديكارت يحب البقاء في السرير، وعقله يتجول في النوم «من خلال الغابة، والحدائق والقصور المسحورة، حيث عاش كل متعة يمكن تخيلها».
أما جون تشيفر فكان يرتدي بذلته الرسمية الوحيدة ويدخل المصعد بمعية رجال آخرين في طريقهم للعمل؛ غير أن شيفر يواصل نزوله إلى غرف القبو الضيقة، حيث يخلع بدلته، ويشرع في الكتابة إلى حدود منتصف النهار وهو يرتدي ملابسه الداخلية، وحسب؛ ثم يعود ليرتدي ملابسه من جديد، ويصعد إلى المطعم ليتناول وجبة الفطور. بعد ذلك، يظفر بيوم حرّ، وغالباً ما يوقظ ابنته الصغيرة لترافقه في جولة طويلة عبر أحياء المدينة وشوارعها.
أثبتت الروتينات الثابتة أنها أداة لا غنى عنها للفنانين من جميع الأنواع، من جورج ساند (التي كانت تكتب طوال الليل مدعومة بالشيكولاته والتبغ) إلى ديفيد لانش الذي يتناول خمسة، أو ستة، أو سبعة فناجين قهوة، بكثير من السكر ليجعله «ينطلق بألف كيلومتر في الساعة». وكان ترومان كابوت، باتريشيا هايسميث ومارسيل بروست، يعملون في السرير، بطعامهم المفضل والكحول والسجائر. بينما يحتفظ سورين كيركيغارد، كما يذكر سكرتيره، بخمسة أزواج من فناجين القهوة وأطباقها، وكان يختار الفنجان الذي يشرب منه الفيلسوف اليوم. فيما كان بيتهوفن يعد فنجان القهوة خاصته لنفسه بعناية خاصة حيث يحرص على وضع 60 حبة في الكوب بدقة.
يعرض هذا العمل، إذن، كيفية تعامل المبدعين مع الزمن، ولطبيعة الطقوس التي تحكم علاقتهم بالكتابة، كما يتوقف عند بعض العراقيل والصعوبات التي يواجهونها في «تدبير» الوقت داخل بيئاتهم ومحيطهم، الاجتماعي والمهني، وما هي الحلول التي بدت لهم ناجعة للتخلص من ثقل الزمن وضغوط الحياة اليومية؛ فمنهم من ينتظر حتى ينام الأطفال ليكتب، ومنهم من يركب جهاز مسجل في سيارته لربح الوقت، ومنهم من يكتري مكتباً أو شقة بعيدة عن مقر سكناه هروباً من الضجيج، ومنهم من لا يتناول في اليوم أكثر من فنجاني قهوة... ولكنهم يلتقون جميعاً في سعيهم إلى حماية أوقات يومهم من التبديد، واجتهادهم في البحث عن سبل الكتابة.
يقول المؤلف ماسون كاري: «عنوان الكتاب هو طقوس يومية، ولكنني ركزت في الحقيقة، في أثناء كتابته على الروتين الإنساني. هذه العبارة تتضمن شيئاً طبيعياً ومتداولاً كتابته، بما في ذلك حضور فكري: فاتباع روتين يعني من ضمن ما يعني تحريك المرشد الآلي. لكن روتيننا اليومي هو في حد ذاته اختيار، أيضاً، أو سلسلة من الاختيارات. يمكن أن تصبح، في الأيادي المناسبة، آلية معيار مرهفة من أجل استثمار مجموعة من الموارد المحدودة: (الزمن) أكثر الموارد محدودية، وكذلك قوة الإرادة، والانضباط الذاتي، والتفاؤل».
ويستحضر المؤلف فقرة من نص كتبه ف. س بريتش عام 1941، ينوه فيه بالجدية الرائعة للمؤرخ الإنجليزي الكبير إدوارد جيبون: فعلى الرغم من إكراهات خدمته العسكرية، نجح جيبون في إيجاد الوقت الكافي ليواصل إبداعه العلمي، شاحناً نفسه بحماس خلال المسيرات العسكرية، ومحصلاً لعلوم اللاهوت داخل خيمته قديماً أو حديثاً. وعن ذلك يقول بريتش، في النتيجة هي أن كل الرجال العظام يتشابهون، لا يتوقفون، ولا يضيعون ولو دقيقة من وقتهم.


مقالات ذات صلة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

ثقافة وفنون «سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

«سيدة البحار السبعة»... الحُب في زمن اللعنة

لطالما اقترن الرقم «سبعة» بخصوصية سِحرية في مُخيلة سرديات البِحار، فحكايات السندباد البحري وأسفاره السبعة تُحيلنا إلى متاهات البحور التي لا تنقطع حبائل غرابتها

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

شللي
شللي
TT

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

شللي
شللي

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر. من الصعب نسيانُ فرسان الرومانتيكية: شيللي وشيللر وكولردج وكيتس ووردزورث. تراجعت مفاعيل الرومانتيكية كثيراً في عصرنا بفعل مؤثرات العقلنة العلمية وسطوة الثورات التقنية المتوالية التي تتطلب عقلاً منضبطاً يتحرك بخوارزميات صارمة. بالنسبة لي صارت المرات القليلة التي تُعرَضُ لي فيها مفردةُ «الرومانتيكية» أو مشتقاتها اللغوية تذكّرني بكِتاب «رومنطيقيو المشرق العربي» لحازم صاغية الذي اختار مفردة «رومنطيقيو» بدلاً من «رومانتيكيو» في عنوان كتابه. المثيرُ أنّ أغلب أساطين الرومانتيكية العربية على صعيد السياسة والأدب نشأوا في حاضنة «الجامعة الأميركية في بيروت»، ونعلم جميعاً أنّ الفلسفة المعتمدة في الحياة الأميركية هي البراغماتية التي طوّرها وأنضجها ويليام جيمس، وهي أبعد ما تكون عن الرومانتيكية ومفاعيلها المتشعبة على الصعيدين الفردي والجمعي.

تتجوهر المعضلة الرومانتيكية (التي قادت بعض كبار الرومانتيكيين إلى الانتحار) في تغليب الخاص على العام. لكلٍّ منّا منخفضاته السيكولوجية وتحليقاته المتوهّجة. أحد الموضوعات الإشكالية هو تشخيص ومعرفة مناطق الاشتباك بين الخاص والعام: هل ما نعانيه نتاجُ توعّكاتنا الشخصية أم هو ردّة فعل لما يحصل في العالم، ولو حصل الاشتباك بين الخاص والعام (وهو حاصل بالتأكيد حدّ الصراع القاسي المفضي لنتائج مؤلمة) فكم هو حجمُ منطقة الاشتباك؟ هذه التشخيصات ليست يسيرة، وقد يحصل أن يتداخل الخاص والعام بطريقة مؤذية، وربما نكون نحنُ أحد الأطراف الساعية للنفخ في هذا الاشتباك على طريقة رومانتيكيي القرن التاسع عشر الذين تلذّذوا بمعاناتهم كلّما رأوها تتضخّم ككرة نار جهنّمية. ما أتمنّاه أولاً وقبل كل شيء أن لا يغرق أي شخص ذي ضمير حي في لجّة منطقة الاشتباك بين العام والخاص، وسواء حصل هذا الغرق بطريقة قصدية أو مُتوهّمة. لا يمكن فصل الأوهام عن كثير من ألوان معاناتنا النفسية لأنّ سلوكنا اليومي ليس سوى تمثّل ذهني شديد الخصوصية لما نراه في العالم وعن العالم، وهذه الرؤية مطبوعة ببصماتنا الذهنية والنفسية المتفرّدة كفرادة بصمات أصابعنا.

الحياة عملٌ شاق. ليست هذه العبارة محض عنوان يصلح لكتاب - مثل كتاب البروفسورة كيران سيتيا (Kieran Setiya) المنشور عام 2022 - بل هي قناعة تعززها الخبرة اليومية المتواترة. العالم مكان شديد الخطورة للعيش فيه والتعامل معه. هذه ليست تخريجة رومانتيكية أنتجتها حسّاسية أخلاقية مترفّعة. في العادة أتساءل، وكنوعٍ من التجارب الفكرية المثيرة: لو أنّ إنساناً رفيع الأخلاقيات، معروفاً بصرامة اعتباراته السلوكية، تركناه يتعامل مع البشر لساعة من الزمن - ليس أكثر- هل سيعود بعد هذه التجربة بالمواصفات الرفيعة التي كان عليها؟ لا أظنُّ ذلك.

الحياة عمل شاق، والعالمُ مكان يطفحُ بالسيئين أكثر بكثير من نظائرهم المخالفين لهم في الصفات. هذا ليس اكتشافاً جديداً، إنّه حقيقة أزلية. قد تدفعنا هذه الحقيقة إلى الخراب النفسي والظلام العقلي والشعور بالخواء المطبق؛ لكنّ أحد الامتيازات الكبرى التي تُحسَبُ لنا هي معرفتنا بهذه الحقيقة؛ ومع هذا نبقى محافظين على مخزوننا الاستراتيجي من الطاقة الروحية النشيطة والفاعلة والمؤثرة.

كيتس

ليس من المروءة أو الإنصاف تحميلُ أنفسنا عبء المعضلة الأخلاقية في هذا العالم. من الواجب أن نعرف أفاعيل الشر في العالم؛ لكن من السذاجة - فضلاً عن عدم الجدوى - أن نتعامل مع هذه الأفاعيل بالطريقة الرومانتيكية المعهودة التي قرأنا عنها. يجب وضعُ حدود صارمة قدر الاستطاعة بين الخاص والعام. المعضلات العالمية أو حتى الإقليمية ليست حكاية حب على شاكلة روميو وجولييت. ما هو ألعنُ من العبء الأخلاقي هو التصارع بين العقل - الضمير: هذه الثنائية التصارعية لا تقلّ شأناً في مترتباتها الأخلاقية والفلسفية عن معضلة الثنائية الديكارتية العقل - الجسد التي ظلّت أحد الأعمدة الجوهرية في المقاربات الفلسفية منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى اليوم. لماذا نحمّلُ أنفسنا هذا العبء الأخلاقي باهض التكاليف؟ لا أقول هذا من باب تسكين الروح القلقة المحمّلة بالنزوع الإنساني الفائق؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا أنّ خسارة أرواحنا لن تضيف شيئاً ولن تصنع فارقاً سوى زيادة مناسيب القباحة في هذا العالم، وليس هذا بالأمر المقبول في سياق المحاججة المنطقية الباردة أو في سياق مواجهة الشر وما تستلزمه من تفكّر وتسبيب للنتائج المتوقّعة. التعامل برومانتيكية فائضة في موضوعات ساخنة عالمية النطاق من حيث المؤثرات والنتائج مَهْلَكَةٌ مؤكدة. ربما سمعنا بمتلازمة القلب الكسير (Broken Heart Syndrome). الحَزَنُ الشديد والمفاجئ قد يدمّرُ قلب المرء ويورده موارد الموت المحتّم. هذا ما حصل لرومانتيكيي القرن التاسع عشر، وهو ما يمكن أن يحصل لأي فرد منّا عندما لا تتوازن الجرعة البراغماتية المطلوبة لديه في التعامل السلوكي اليومي مع حجم ردة الفعل الأخلاقية.

حتى لا أبقى في نطاق الأعالي التنظيرية سأتناول مثالاً مؤثراً على كامل مساحة العالم ولكل البشر بعيداً عن اعتبارات الزمان والمكان والجغرافية المحلية: الأغذية المعدّلة وراثياً (Genetically Modified Crops). لماذا لجأ العالمُ لهذه التقنية الثورية في زيادة غلّة المحاصيل والحفاظ عليها من التلف؟ لكي يستطيع إطعام المليارات المتزايدة من البشر، ولولا هذه التقنية لحلّت بالبشرية مجاعة كارثية رهيبة. صحيحٌ أنّ مذاقات الأطعمة لم تعد مثلما كانت. صارت الطماطم والقرنبيط وسواهما من الفواكه والخضراوات أشكالاً هندسية بديعة لكنها تفتقدُ إلى المذاق الأصيل للثمار غير المعاملة وراثياً. هذا جزء من التضحية التي يجب أن نقبل بها حتى لا يجوع مليارات البشر في العالم. إنها موازنة براغماتية دقيقة بين اللذة الشخصية والمصلحة الجمعية. لا تخلو كل فعالية عالمية النطاق من تحقيق مصالح لبعض الأطراف (شركات، حكومات، أفراداً أثرياء...)؛ لكنّ الحقيقة البيّنة أنّ الأغذية المعدلة وراثياً أنقذت البشر من مجاعة مهلكة. من الأفضل دوماً أن نؤكّد الحقيقة المركزية ولا نتغافل عنها بالتركيز على موضوعات جانبية سلبية مقترنة بكلّ فعالية بشرية. هكذا هي بعض حقائق الحياة التي نعيش. من هذه الموضوعات السلبية - مثلاً - أنّ الأغذية المعدّلة وراثياً قد تتسبب ببعض العلل وأنواع من السرطانات عقب عشرين سنة من تناولها المفرط. لنفترض صحة هذا الرأي. كم هي نسبة الإصابة؟ يقولون إنها لن تتعدى الواحد بالألف. أتساءل: لو امتلكتَ مصباح علي بابا السحري وعرفتَ أنّ «فلاناً» من البشر سيصابُ بالسرطان بعد عشرين سنة، ولو خيّرتَه بين السرطان أو الموت جوعاً، أيهما تظنُّ سيختار؟ أظنّ أنّ موتاً بعد عشرين سنة بمعدة ممتلئة أفضل من موت آني بشع بمعدة جائعة. برغم هذا ثمة فائض من الرفاهية ما زلنا نمتلكها، إذ يمكن لمن يريد أن يتبضّع أغذية عضوية بتكاليف تبلغ في العادة أربعة أضعاف تكاليف الأغذية المعدلة وراثياً. هل بعد كلّ هذه الرفاهية في الخيارات المتاحة نتحسر على عصر كنّا نأكل فيه طعاماً عضوياً؟ إنها رومانتيكية فائضة من مخلفات العصر الرومانتيكي الذي رأى في الآلة تحطيماً لروح الإنسان، وتناسى أنّ الآلة (التقنيات بمعنى أعمّ) هي التي رفعته في مرتقيات أعلى مقاماً على المستويين المادي والرمزي. يبقى على المرء أن يصمّم مقاربته الشخصية لبلوغ حالة التوازن بين العام والخاص.

الحياة الشخصية منحة مباركة وهِبَةُ ثمينة يجب أن نعيشها ولا نفرّط بها تحت أي شعار إنساني أو آيديولوجي، أو تحت ضغط أثقال نفسية وعقلية رهيبة ناجمة عن التصارع بين متطلبات الفضاء الخاص واشتراطات الحياة في الفضاء العام.

لم أكنْ واعياً بوجود الشر لأنني لم أكنْ أغادرُ المنزل

بورخيس

أتمنّى ألا نكتفي بتحويل منخفضاتنا النفسية - المتوقّعة بين حين وآخر - مرتفعاتٍ تسعى للتخوم البعيدة. ما أتمنّاه هو فضّ اشتباك صارم بين الخاص والعام، وأن تستعيد أرواحنا وعقولنا المنهكة من فرط التفكير غير المنتج ألقها وتوهجها بعيداً عن مؤثرات الإجهاد والإنهاك. لن نكسب شيئاً لو خسرنا أنفسنا. سنخسر حينها أنفسنا ومن نحب وما نحب.

تبدو الرومانتيكية الفائضة خصيصة شخصية تستمدّ مغذياتها من نقص المعرفة والخبرة. عندما يصبح المرء تجسيداً للمثال البورخسي (بمعنى المثال الذي حكى عنه بورخيس) حيث المرء يفضّلُ الانكفاء على معرفته السابقة وخبرته القديمة فحينها تتفجر فيه ينابيع الرومانتيكية التي قد تدفع صاحبها للغرق، ومعها تغرق كلّ أحلامه وتطلعاته. لا أظنّ أنّ من الحكمة غضَّ الطرف عن «الشر الذي في العالم» والانكفاء في منزل لا نبارحه، ويطيب لنا فيه رسمُ صورٍ عن العالم كيفما نشاء.

الحياة ميدانُ تسوياتٍ مستديمة، وما لم ننجح في إدامة تلك التسويات بمزيج متوازن من الرغائب الشخصية والإحساس البراغماتي المتناغم مع معادلات الواقع - أو غير المتصادم معها بعنف في أقلّ تقدير- فسننتهي إلى النهاية المفجعة التي انتهى إليها «رومانتيكيو المشرق العربي» وأجاد حازم صاغية في وصف مآلاتها الحزينة.