حين يتحول الوطن والمنفى إلى لوحات فنية

نظّم المتحف البريطاني بلندن معرضا مشتركا لـ5 فنانين ينتمون إلى منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهم منى السعودي من الأردن، وعبد الله بن عنتر من الجزائر، وجنان تولون، وإيبك دوبن من تركيا، وميراي قصّار من لبنان. وقد جمعهم موضوع واحد هو المنفى وتداعياته على الناس المنفيين قسرا أو اختيارا.
تشترك الفنانة الأردنية منى سعودي مع الفنان الجزائري عبد الله بن عنتر في توظيف بعض النصوص الشعرية للشاعر الفلسطيني محمود درويش في أعمالهما الفنية، الأمر الذي منحهما قوة مضمونية واضحة في التعاطي مع ثيمتي الوطن والمنفى، من دون التضحية بالمقومات الفنية والجمالية للعمل الفني، الذي هيمن عليه عنصران رئيسيان، وهما الرسم التخطيطي والمنحى الحروفي «الكاليغرافي» الذي احتل مساحة واسعة من لوحات منى سعودي على وجه التحديد، بينما انحسر كثيرا في أعمال بن عنتر إلى جملة واحدة ذات صيغة استفهامية، أو عنوان لمجموعة شعرية مستقرة في ذاكرة القرّاء الجمعية. ومنى سعودي واحدة من أشهر النحاتين في الوطن العربي. وُلدت بعمان عام 1945، وتعيش في بيروت حاليا. ونظرا لولعها المبكر بالنحت تحديدا فقد أخذت رسوماتها أشكالا نحتية في الأعم الأغلب. عرض القائمون على هذا النشاط 4 لوحات للفنانة منى سعودي، إحداهما تضم بوسترين في إطار واحد أنجزته لمناسبة يوم الأرض الذي يصادف في 30 مارس (آذار)، كما أتاح موقع المتحف لمتصفحيه إمكانية مشاهدة مجموعة أخرى من الأعمال الفنية لمنى سعودي، من بينها عمل نحتي شديدة الدقة والرهافة والإتقان يحمل عنوان «الأرض الأم».

* تكوينات مُرهفة

* تنضوي لوحات منى السعودي كلها في هذا المعرض تحت عنوان واحد هو «تحية إلى محمود درويش» لكن مضامينها تختلف بحسب القصائد الموظّفة في هذه الأعمال الفنية، ومن بينها اللوحة المستوحاة من قصيدة «الأرض» التي اختارت منى سعودي هذه الأبيات الآتية التي يقول فيها درويش:
«أنا الأرض
والأرض أنتِ
هذا نشيدي
وهذا خروجُ المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل النبات يغطّي مساميره وقيودي
وهذا صعودُ الفتى العربي إلى الحلم والقدس»
أبعاد هذا العمل 100 × 70 سم وهو منفّذ بالطباعة الحريرية على الورق أسوة ببقية الأعمال المعروضة.
لم يخرج العمل الثاني عن موضوع قصيدة «الأرض»، لكن المقاطع الموظفة هنا تختلف عن سابقتها حيث تبدأها منى سعودي بالبيت الآتي: «وفي شهر آذار تستيقظ الخيل سيّدتي الأرض!»، إضافة إلى أبيات شعرية أخرى متداخلة تصعب قراءتها أحيانا، وهي تحيط بالكائن الأنثوي من دون أن تتخلل تكوينه المرهف.
لا تختلف تقنية العمل الثالث كثيرا، فقصيدة «شجرة العاشق» تلتف على التكوينين العلوي والسفلي حيث تستهل منى لوحتها ببيت مقطوع لا يكتمل معناه ما لم نضِف له السطرين المغيّبين قسرا وهما: «قد قالت لي الأيام:
اذهب في المكان»
ثم تليهما الأسطر الـ3 الآتية:
«تجد زمانك عائدا في موج عينيها
فقلت: الجسم لا يكفي لنظرتها
وهذا البحر...»
إلى آخر هذه القصيدة التي أوحت للفنانة منى سعودي بأن ترسم شكلين متضامين يتحدان مع التكوين العلوي ليشكّلا في خاتمة المطاف شجرة العاشق التي أشرنا إليها قبل قليل. أما الملاحظة الأخيرة التي يمكن أن نسوقها في هذا المضمار هي أن الأعمال الـ3 المتبقية والمعروضة على الموقع الإلكتروني للمتحف مستوحاة من 3 قصائد أخرى لمحمود درويش، وهي «الرمل» و«نشيد إلى الأخضر» و«تلك صورتها» و«هذا انتحار العاشق»، ولا تُشكل هذه المقاطع الشعرية إلا جزءا يسيرا من اللوحات التي هيمنت عليها التكوينات التخطيطية النحتية مع سيادة واضحة للفراغات البيضاء على سطوح اللوحات التصويرية.
تتميز تجربة الفنان الجزائري عبد الله بن عنتر بتنوّعها وثرائها، فهو مهتم بالتراث الجزائري والموسيقى المحلية والعالمية من جهة، كما أنه رسام وحفار ونحات من جهة أخرى، وأكثر من ذلك فهو شاعر وقد أصدر مجموعتين شعريتين، كما أنجز الكثير من الكتب الفنية التي تجمع بين الخط والصورة المرسومة بالحبر الصيني والألوان المائية. تقتصر مشاركة بن عنتر على كتاب فني يحمل عنوان «العصافير تموت في الجليل» لمحمود درويش أيضا، وقد نفذه بالحبر الصيني وبتقنية التنويع على اللون الواحد ودرجاته المتعددة. يحتوي الكتاب على 30 ورقة كبيرة قياس 25.5 ×22 سم لكن كل واحدة من هذه الأوراق مقسمة إلى 3 أقسام مطوية تضم الرسومات والمقاطع الشعرية التي أوحت له بتنفيذ هذه الأعمال الفنية.
وجدير بالذكر أن أسلوب بن عنتر يميل إلى التجريد أكثر من ميله إلى التصوير التشخيصي أو الواقعي. كما أنه «يتقن الإنصات إلى لوحته»، حسبما يقول، فثمة رنين موسيقي ينبثق من قلب الألوان المحتفية بوحدتها بعيدا عن الضجيج المفتعَل والبهرجة الفارغة.

* منطق الطير

* اشتركت الفنانة اللبنانية ميراي قصّار بعملين فنيين لا غير ينضويان تحت عنوان واحد، وهو «تحية إلى جوتو». وكلا العملين مريح لبصر المتلقي؛ فثمة تقشف واضح في التكوينات والألوان، الأمر الذي يمنح المشاهد فرصة كبيرة للتأمل والغوص في عمل فني لا يُغرقك بتفاصيله وإنما يكتفي بتزويدك ببعض المفاتيح أو الشيفرات السرية التي تقودك إلى جوهر العمل الفني ومضمونه الذي يراهن على الكثافة وشدة التركيز، كما هو الحال في هذين العملين المتقشفين، حيث يبدو في العمل الأول رجل لا يظهر منه إلا قدماه وكفاه ورأسه، وثمة 3 خطوط ممتدة من الرأس إلى أعلى المثلث الأيسر من اللوحة متخذا شكل منقار كبير، فيما يأخذ رأس الكائن البشري المموه قليلا شكل العين السوداء ليُحيلنا هذا التكوين إلى «منطق الطير»، الذي اشتغل عليه فريد الدين العطّار.
تكرر ميراي في لوحتها الثانية التنويع على الفكرة السابقة بتقشف أكبر لا يتيح لنا سوى النظر إلى رأس غارق في السواد ويدين مرفوعتين من غمار اللون الواحد. قد لا تبدو فكرة النفي أو المنفى واضحة في هذين العملين، لكن المتلقي سيحتاج بالتأكيد إلى معرفة بعض المعلومات عن «منطق الطير» والرحلة الشاقة التي تقوم بها آلاف مؤلفة من الطيور المتنوعة التي تلقى حتفها في الطريق، ولا يصل منها إلى حضرة إله الطير «السيمرغ» سوى 30 طيرا.
يقوم مشروع الفنانة التركية إيبك دوبن على فكرة الهجرة القسرية التي اجتاحت العالم في القرن الـ20، وسوف تظل قائمة طالما أن هناك إنسانا يسعى على وجه البسيطة. يضم الكتاب الفني 10 صور مؤلمة مُلتقَطة من أرض الواقع للمهاجرين أو المقتلعين من جذورهم في لحظات مؤثرة لمغادرة بيوتهم وأوطانهم أو عبور الحدود وما تنطوي عليه من مخاطر جمة. لقد أضفت إيبك دوبن لمسات فنية «طفولية» على هذه الصور التي تتمحور حول 3 موضوعات رئيسية، وهي الهوية والعنف والهجرة القسرية. لا بد من الإشارة إلى أن الفنانة إيبك دوبن قد خضعت لدورات تدريبية في علم الاجتماع والعلوم السياسية التي رفدت هاجسها الفني في التصوير وإنجاز الكتب الفنية التي تلامس حياة المهاجرين وترصد معاناتهم اليومية في بلدان اللجوء.

* النفي الجسدي

* ربما تكون الفنانة التركية جنان تولون هي الأوفر حظا في هذا المعرض لأن القائمين على هذا النشاط الفني قد وافقوا على عرض 33 لوحة مؤطرة على جدار واحد. وقد تقف شهرتها وراء هذه الموافقة، فهي واحدة من أشهر الفنانات التركيات المعاصرات، وهي معروفة بأعمالها الفنية ذات التكوينات الهندسية التي تنطوي على أبعاد درامية مثيرة، كما أنها تعالج ثيمات الهجرة الاختيارية أو الاقتلاع القسري. لا تقتصر موضوعات تولون على النفي الحقيقي، وإنما تمتد إلى النفي المجازي إن صح التعبير، فلقد أُصيبت هذه الفنانة في سن مبكرة من حياتها بمرض شلل الأطفال الذي أقعدها في مستشفى بفرنسا على مدى 10 سنوات، فلا غرابة أن تتناول ثيمة نفيها عن جسدها الخاص بها الذي تصفه بأنه «لا ينتمي إليها»، وهي تبدو مثل الشخص الذي يرتدي ملابس مستعارة.
درست تولون الهندسة والتصميم في جامعة بيركيلي بكاليفورنيا قبل أن تصبح فنانة تشكيلية وتكرّس جزءا كبيرا من وقتها للفن التشكيلي.