استدعت مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران عن حرب الخليج الثانية، التي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشرها، قبل نشرها في كتاب بعنوان «القرار»، سوف يحتفل بصدوره في 17 الشهر الحالي في منتدى عبد الحميد شومان الثقافي في عمان، ردوداً من سياسيين وكتاب خليجيين عاصروا تلك المرحلة بكل تفاصيلها، وتابعوا مجرياتها كل من موقعه.
فتداعيات تلك الحرب التي غزا فيها العراق بقيادة صدام حسين الكويت قبل 30 عاماً، كانت كبيرة على المنطقة وخلفّت آثاراً سلبية على دولها، خصوصاً الكويت التي تكبدت خسائر كبيرة نتيجة للغزو وعملية تحريرها التي شارك فيها تحالف دولي بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع.
وبحسب بدران فإن مذكراته تذخر بالأحداث والمواقف التي يكشف عنها للمرة الأولى، وتوثق لمراحل مهمة مر بها الأردن خلال النصف الأخير من القرن الماضي، إضافة إلى تفاصيل عن الجهود التي بذلها الأردن لمنع العمل العسكري العراقي ضد الكويت، ويقول إن المساعي الأردنية كانت تهدف إلى إيجاد حل عربي - عربي لتأمين انسحاب العراق من الكويت.
لكن رواية بدران لتلك الأحداث والوقائع والمفاوضات التي أجريت مع النظام العراقي لينسحب من الكويت، إضافة إلى الظروف السياسية والاقتصادية في تلك الحقبة والأسباب التي ساقها العراق لاحتلاله الكويت وما إلى ذلك، لم تلق قبولاً لدى بعض الكتاب الخليجيين فأرادوا أن يحاججوه بالوقائع والأدلة، خصوصاً أن بعضهم رأى فيها «نكأً للجراح»، وبعضهم الآخر اعتبر أن أقوالاً كثيرة «غير دقيقة» وأنها تعتمد على الذاكرة وليس على الوثائق.
قرأت «ذكريات» السيد مضر بدران، رئيس الوزراء الأردني إبان الغزو العراقي للكويت، وتمنيت ألا ينكأ الجراح، فتلك الفترة كانت فترة عصيبة للكويتيين والكثير من العرب، بل والعالم. ولقد نشر السيد مضر تقريباً مثل هذه الذكريات في الصحف الأردنية سابقاً، بعض قصصها مطول هنا، وبعضها الآخر مختصر. من الطبيعي أنه بعد فترة من الزمن، أن يجري على ذاكرة الفرد شيء من النسيان، خصوصاً إن لم يكن معتمداً في روايته على وثائق مكتوبة.
بعد ثلاثين عاماً، لم يعد الكثير من الأسرار مخبّأ، فقد نشر الكثير حول تلك الفترة، منها وثائق خاصة بمجلس قيادة الثورة في العراق، التي نشرت بالصوت والصورة والكلام الموثق، ومنها شهادات من حضر تلك الفترة، وهي بالمئات. حتى أضرب مثالاً على عدم الدقة في تلك الذكريات، الإشارة إلى ضابط عراقي كبير، كما قال اسمه «خلدون سلطان»، والمعروف أن ذلك الضابط المقرّب من صدام حسين هو سلطان أحمد هاشم الذي فاوض في خيمة صفوان، ومن ثم أصبح بعد فترة وزير دفاع، وتوفي أخيراً في السجن. أقوال كثيرة جاءت على لسان السيد مضر غير دقيقة، على الأقل، في الشكل الأول لما كتب سابقاً في الصحف الأردنية (وكثيراً منه متقاطع مع الحلقات الثلاث)، ورد عليها في حينها الأستاذ عبد الله بشارة، الأمين السابق لمجلس التعاون، وأرسلها إلى تلك الصحيفة، ولكنها لم تنشر كل ما ذكر الأستاذ عبد الله. ثم أذيع الرد كاملاً من «قناة سكوب» التلفزيونية الكويتية.
من المتوقع أن يصر السيد مضر على تأكيد روايته، وليس من المتوقع أن يقول إنهم في الإدارة الأردنية وقتذاك، قد قرأوا المشهد السياسي قراءة خاطئة، لكن أن يبرر بعض الأحداث هنا، فليسمح لنا أن نختلف معه. فقد قال إن سعدون حمادي قد بقي في الكويت ثلاثة أيام (قبل أسابيع من الغزو) لم يقابله إلا بعدها الأمير الشيخ جابر الأحمد (رحمه الله)، وذلك بعيد عن الحقيقة، كما قال إن الشيخ صباح الأحمد قد قال له (في زيارة سريعة للملك المرحوم حسين إلى الكويت) إن الأول اعترف أن الكويت قد «سرقت» نفط العراق! وقد كانت وقتها الدعاية العراقية تؤكد أن الكويتيين سرقوا النفط العراقي عن طريق «الحفر الأفقي»!! وأي خبير في النفط سوف يؤكد فحش تلك الأكذوبة. كما أنه من الصعب القول إن الشيخ صباح يعترف بهكذا عمل للسيد مضر أو لغيره، لأنه ليس الحقيقة.
في مكان آخر يقول إن صدام حسين لم يكن ينوي احتلال كل الكويت، إنما عندما أخبره قائد الكتيبة ألا مقاومة أمامه، سمح له بأن يحتل الكويت! عند قراءتي لهذا النص، لم أتمالك نفسي من الابتسام، لأن من يصدّق ذلك لا بد أن يعاد اختبار قواه العقلية! حيث من المعروف، وفق من روى من القياديين العسكريين العراقيين في شهاداتهم، وهي موثقة على «يوتيوب»، ومن الوثائق، أن أمر الاحتلال كان كاملاً، والشواهد بالعين تؤكد ذلك من حوامات ودبابات في اليوم الأول من الغزو.
ثم يروي السيد مضر أنه نصح طه ياسين رمضان أن يمنع صدام حسين من «التهور»، وهي كلمة، أخذاً بغرور المجموعة الحاكمة وقتها في العراق، لا يمكن القبول بها، ولا حتى بسماعها! يتحدث عن حال الوضع في العراق عندنا زاره بعد يومين من القصف الجوي، أن الجيش العراقي الذي قابله على الطريق «لم يكن لديه خبز»، وعلق «كيف لم يحسب الجيش العراقي حساب جنوده للطعام»، وأن الأوضاع في بغداد كانت متردية معيشياً إلى درجة فقدان الوقود، أي سياسي فطن يستطيع أن يصل إلى قناعة، وهو يرى بأم عينه تلك المشاهد، وأن يعرف كيف تدار الأمور!!
أما القصة التي يعود إليها مراراً في هذه الذكريات، وما سبق أن نشر، فهي أن هناك حلاً عربياً: «خروج صدام من الكويت بالوقت نفسه خروج إسرائيل من الضفة الغربية»! طبعاً عندما يقرأ الجيل القادم هذه المعادلة، سوف يصاب بالصدمة الكبرى! كان ذلك تسولاً ساذجاً للعواطف الشعبية، حتى أسوأ من الحل الإيراني الذي يقول إن العراق وافق عليه: «خروج صدام من الكويت مع خروج القوات الأميركية من الخليج»! كيف لرجل سياسي أن يفكر وليس يصدق مثل تلك المعادلات التي هي أكثر سذاجة من السذاجة نفسها؟!! تنبئ المواقف المسبقة للسيد مضر عند قوله «صدمنا من انسحاب العراق من الكويت»! ويبدو أن السيد مضر لم يحقق ما يرغب في تحقيقه حتى ذلك الوقت! المفردات التي استخدمها السيد مضر تنم أيضاً عن رأي مسبق، فهو يشير إلى الغزو العراقي بأنه «دخول» الكويت! هو في الحقيقة غزو واحتلال ونقطة على السطر.
ولكن الدرس الأهم فيما يتذكره السيد مضر، هو العودة إلى مناقشة العقلية السياسية التي كانت ولا تزال عند البعض، وهي القراءة الخاطئة للأحداث السياسية والقائمة على العاطفة والتمني، فالعالم بعد الحرب العالمية الثانية أصبح متفقاً على عدم تغيير الحدود بالقوة بين الدول، ومن يفعل ذلك فهو مخترق للقانون الدولي!
إنها فترة عربية حزينة، والعودة إليها لا من أجل تضميد الجراح، بل من أجل نكئها، هو المؤلم، فقد كان موقف الإدارة الأردنية وقتها خاطئاً ومعتمداً على تمنيات، وجزء منها اعتقاد خاطئ (لهضم ما يتصور من حقوق)، وبه الكثير من التشفّي! المؤسف الإصرار حتى اليوم على تبرير الخطأ وقتها يصبح خطيئة.