غلاف الكتاب ومستوى طباعته مثل الطبق والمائدة

أثر الشكل على استجابة المتلقي

لقطة من الفيلم البريطاني - الأميركي «شارع تيشرينغ كروس 84» إخراج ديفيد جونز عام 1987 بطولة أنتوني هوبكنز وآن بانكروفت
لقطة من الفيلم البريطاني - الأميركي «شارع تيشرينغ كروس 84» إخراج ديفيد جونز عام 1987 بطولة أنتوني هوبكنز وآن بانكروفت
TT

غلاف الكتاب ومستوى طباعته مثل الطبق والمائدة

لقطة من الفيلم البريطاني - الأميركي «شارع تيشرينغ كروس 84» إخراج ديفيد جونز عام 1987 بطولة أنتوني هوبكنز وآن بانكروفت
لقطة من الفيلم البريطاني - الأميركي «شارع تيشرينغ كروس 84» إخراج ديفيد جونز عام 1987 بطولة أنتوني هوبكنز وآن بانكروفت

منذ القدم، كان الوعي بأن متلقي الأدب ليس صفحة بيضاء تستقبل النص، نجد ذلك الوعي عند العرب من عصر ما قبل الإسلام، كما نجده عند فلاسفة اليونان. وعلى الشراكة بين الكاتب والقارئ يقوم عمل مؤسس علم البلاغة عبد القاهر الجرجاني؛ حيث يعتبر المزية والفضل للكلام إذا احتمل وجهاً آخر غير الوجه الظاهر الذي جاء عليه. وبدون شيفرة بين القارئ والكاتب يتقوض كل عمل الجرجاني.
لقد أخذت بعض مناهج القرن العشرين الغربية كالبنيوية النص بعيداً عن مؤلفه ومتلقيه، وقد تلقف النقد العربي فاقد المناعة تلك المناهج مهدراً تاريخه الطويل في التأويل، إلى أن تبلورت نظرية التلقي في ستينيات القرن العشرين، لتعيد الأمور إلى نصابها، ويعود النقد العربي ـ متأخراً كذلك ـ إلى وضع القارئ في قلب النص الأدبي، شريكاً لديه حصته في بناء المعنى، ويجب على الكاتب أن يترك له الفراغات الخاصة به، ولديه كذلك أفق التوقع الخاص به.
وقد التفتت النظرية في دراستها لأفق التوقع إلى عوامل متعددة ترتكز على ثقافة القارئ، وخبراته السابقة بما فيها خبراته بالكاتب، حسب ما كونه من فكرة عنه عبر قراءات سابقة وعبر سمعته الأدبية، لكنها لم تلتفت كثيراً إلى شكل الوجبة الأدبية، وهو حاسم كحسم شكل وجبة الطعام في تحديد قيمتها.
غلاف الكتاب ومستوى طباعته ـ مثل الطبق والمائدة ـ يساهمان في تشكيل المعنى والمذاق. القارئ ذو الذائقة العالية ينتظر جماليات معينة في غلاف كاتب حساس، ولا يمكن أن يتوقع مضموناً جيداً لكتاب قبيح الإخراج، لكن المظهر القبيح بالتحديد هو الذي ينادي قارئاً آخر يعرف من خلال عامية الشكل أن المضمون يناسبه.
والأمر بالمثل بالنسبة في عالم الطهي؛ فالطبق ليس مجرد وعاء، لكنه يساهم في خلق المذاق. نظافة وفخامة وذوق الموائد والأدوات، من أهم عوامل تقييم المطاعم إن لم تكن أهمها. لا يتطلب إعداد طبق بابا غنوج شهي الكثير من الخبرة، لكن سعره في مطعم راق، ليس ثمن نصف ثمرة باذنجان، بل ثمن فخامة الطبق وحسن تزيين محتواه، ونظافة المفرش، والشمعة والوردة على المائدة، وابتسامة النادل، ومستوى الزبائن على الطاولات المجاورة.
صورة الجنة في كتب التفسير والتآليف الدينية ترتكز كثيراً على الطعام، لكنها تصفه إجمالاً بما يفي بحدود الإخبار عن التنوع والوفرة والمذاق الطيب، وعلى خلاف ذلك نرى التفصيل في وصف الشكل؛ فالموائد من در وياقوت والصحائف من ذهب، والأطقم من سبعين قطعة ومضاعفاتها.
ليست للذهب قيمة مادية في الجنة، حيث تنتفي الحاجة إلى الامتلاك، ولذلك نفهم أن وظيفة وصف الأواني جمالية وتبرهن على مستوى ما تحتويه من طعام.
في «ألف ليلة وليلة» تبدو الأواني والموائد من بين أكثر الأشياء التي تحكي مجد الغابرين، وتساهم في صنع عجائبية الحكاية. موائد مرصعة بالجواهر عليها أطباق من الذهب نجدها عادة في قصور المدن الملعونة. في الليلة 271 طبعة «بولاق» نرى أحد تلك القصور بالأندلس، ظل مغلقاً خلال حكم أربعة وعشرين ملكاً من ملوك الروم. كان كل ملك جديد يضيف إلى بابه قفلاً، إلى أن جاء ملك ليس من أهل بيت المملكة وأمر بفتح الأبواب؛ فوجد صور العرب (تماثيل) متقلدين السيوف على خيلهم وجمالهم، وبفتحه هذا الباب سقطت الأندلس بيد العرب.
وهناك كمية ضخمة من الثروة والعجائب تقول القصة إن طارق بن زياد وجدها عندما تفقَّد القصر، وبينها «المائدة التي كانت لنبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، وكانت على ما ذُكر من زمرد أخضر»، ويُلقي مؤلفو الليالي المدهشون بثقلهم للإيهام بواقعية روايتهم: «وهذه المائدة إلى الآن باقية في مدينة رومة، وأوانيها من الذهب وصحافها من الزبرجد ونفيس الجواهر». ولنا أن نتأمل مهارة السرد الذي قام بترحيل المائدة إلى روما، حيث لا يستطيع مستمع الحكاية أن يبلغها للتحقق من صدق الرواية بخلاف لو حملها إلى بغداد أو تركها في الأندلس!
ومن الليلة 566 إلى الليلة 578 طبعة القاهرة، نرى مدينة النحاس، وترف قصورها البائدة مع بعثة استكشاف بقيادة موسى بن نصير، الذي يترك أطناناً من الذهب والجوهر خلفه ويأخد مائدة قوائمها من المرمر مكتوب عليها «قد أكل على هذه المائدة ألف ملك أعور، وألف ملك سليم العينين، كلهم فارقوا الدنيا وسكنوا الأرماس والقبور».
لا تساوي الطاولة شيئاً بالنسبة لما تركه أمير المغرب خلفه، لكنها تعزز فيما يبدو سردية الفخامة، وتصنع الدهشة من خلال التناقض بين فخامتها، وبين الجملة التذكارية المكتوبة عليها التي تُذكِّر بعبرة الموت.
الوعي بأهمية الشكل، هو الذي جعل الملوك يأمرون بتدوين كتاب أو حكاية بالذهب عندما يُعجبون بحكمة الكتاب أو بغرابة الحكاية. ولعل كل القراء كانوا سيفعلون ذلك بالكتب التي يحبونها لو كانت لديهم القدرة. شخصياً أحسست بطعم مختلف لكتب أعيدت طباعتها بمستوى لائق، بعد أن تلقيتها في طبعة رديئة من مؤسسات النشر العامة.
في الفيلم البريطاني الأميركي «84 Charing Cross Road»، نشاهد كاتبة أميركية تراسل مكتبة بلندن، تطلب الطبعات القديمة من كتب متوفرة بالقرب منها في طبعات حديثة. أخذت رسائلها تعبر المحيط ذهاباً، فتأتيها طرود تحمل كتباً ودواوين شعر فخمة التجليد مطبوعة على ورق قديم تتلمسها وتستنشق رواءها بمتعة بالغة. وبفضل ذلك الولع نشأت علاقة حب بالمراسلة بين الكاتبة وأمهر الكتبيين وصداقة جماعية مع باقي طاقم المكتبة، وصاروا يتحدثون عن كل شيء. لمست الكاتبة صعوبة أوضاع أصدقائها في إنجلترا ما بعد الحرب؛ فأخذت الصناديق تحمل هدايا الطعام من أميركا إلى بريطانيا، بينما تتخذ صناديق الكتب الاتجاه المعاكس.
الاستقبال الشفاهي لألف ليلة والسير الشعبية، كان نوعاً آخر من الشكل. جلسات السماع الليلية التي يشارك فيها جمع متأهب للمتعة كانت تضفي أثرها على النص، بالإضافة إلى حماس الراوي وتقمصه وإتقانه للقراءة، وعلاقة القارئ بالمستمعين، حيث يختلف القارئ المحترف القادم من بعيد عن قارئ محلي من بين أعضاء السهرة، شكل استجابات الجمهور المصاحب وأثره على استجابة الفرد، المستوى الاجتماعي للمستمعين يحدد شكل أحلامهم وما ينتبهون إليه في النص أكثر من غيره. هل تتضمن السهرة مأكولات؟ مشروبات؟ تدخيناً؟ هل تضم نساءً وأطفالاً أم سراً خاصاً بالرجال؟
في شهادته بمجلة «فصول» عدد صيف 1994، يحكي الروائي خيري شلبي عن خبرته مع الليالي التي قرأها خلسة عندما كان صبياً، وكان أبوه متحفاً على حضوره جلسات الاستماع، حتى اضطر الولد إلى الحلول مكان القارئ الذي غاب ذات ليلة، ما شعر والده بفخر حذر بولده بعد أن رأى استحسان المستمعين لقراءته. في طفولتي كان الترانستور قد قضى على هذه المسرحة الحية للنص التي عاشها خيري شلبي.
والآن، يستدير الزمن، وصار هناك الكتاب الصوتي، الذي سيقدم شيئاً قريباً لقارئ معزول في سيارته، أو يتريض مع نصه، لكن تبقى مهارات إلقاء القراء المختلفين مؤثرة، وطريقة الإخراج، بعض القراءات تنوِّع بين الأصوات لخدمة الحوار، ولهذه الاختلافات في الشكل أثرها، إلى جانب أثر لحظة ومكان التلقي وحالة القارئ المعزول النفسية، ودرجة تركيزه.
في العموم كل هذه السمات الشكلية مهمة، وتقول شيئاً عن الطعام قبل تذوقه والكتاب قبل قراءته.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.