ماذا فعل ثلاثة مخرجين خلال الحجر الصحي؟

سطّروا تأملاتهم وملاحظاتهم وبعض مشاريعهم

جيا جانغكي
جيا جانغكي
TT

ماذا فعل ثلاثة مخرجين خلال الحجر الصحي؟

جيا جانغكي
جيا جانغكي

«العالم سيكون أكثر لطفاً بعد الـ(كورونا)»، يتنبأ المخرج الأميركي ديفيد لينش ويضيف في رسالة وجهها عبر الميديا «الوباء هو علامة بأن العالم مضى في طريق خطأ. لدي شعور بأن الطبيعة ترقب ما يدور وتملك زمام الأمور».
أضاف «لندع الأمور تصل لنهاياتها ولنصمد لبعض الوقت لكي يستطيع الناس التفكير بما تقوم به على هذا الكوكب».
وهو متفائل في حديث له لموقع Page Six إذ يقول: «أعتقد أن العالم سيختلف بعد (كورونا). سيأخذ الوباء حين رحيله الكثير مما هو قديم والجديد سيحل مكانه في عالم أكثر رقّة. أعتقد أن ما يحدث يقرّب الناس بعضهم لبعض».
ديفيد لينش ليس الوحيد الذي التزم البيت وفكّر ومارس ما يستطيع من هوايات لكي يحافظ على مواهبه عوض أن تعاني من الصدأ فيما لو لم يقم بممارستها وحمايتها. مخرجون وسينمائيون آخرون عديدون آثروا البقاء في البيت لكنهم قاموا بممارسة هوايات أخرى من بينها كتابة اليوميات العاكسة لتأملاتهم. حين نقرأ مذكراتهم نكتشف كيف أن ذلك التأمل انعكس في كتاباتهم على نحو مثير.
ثلاثة من هؤلاء، هم الإسباني بدرو ألمودوفار والصيني جيا جانغكي والأميركي روجر كورمَن حلّوا وكتاباتهم ضيوفاً على صفحات مجلة «سايت آند ساوند» البريطانية قبل نحو شهر كل واحد بهمومه المتبلورة في كلمات مختلفة توفر إضاءات على ما مرّوا وشعروا به في فترة اعتصاماتهم الطوعية (وبالنسبة للصيني جانغكي الإجبارية) وكيف عكسوه في كتاباتهم تلك.

جيا جانغكي
كتب مخرج Still Life وPlastic City وTouch of Sin وسواها من الأفلام التي أقلقت الرقابة الصينية خلال العقدين الماضيين أنه كان في مدينة بيكنيغ عندما تم وضع مدينة ووهان في الحجر بأكملها. كان وزوجته يمضيان الوقت في التواصل مع الآخرين عبر «فيسبوك» وسواه بينما كانت والدته (التي تعيش معهما) تتابع الأخبار على شاشة التلفزيون: «شعرنا جميعاً بأننا نشهد نقطة فاصلة في التاريخ. ولحين لم ندر كيف نضع الكمامات. أي جانب منها هو الذي عليه أن يلامس الوجه. لاحقاً شاهدنا طبيباً ينصح مشاهديه برداء الكمامة على ناحيتين: إذا لم يكن مصاباً فعليه وضع الناحية الملوّنة من الكمّامة للخارج. وإذا كان مصاباً فعليه وضع الجانب الأبيض للخارج».
من نافذة منزله في الطابق الثاني عشر، نظر صاحب «حياة ساكنة» (2006) إلى الشارع طويلاً. وجده ساكناً. السيارات مصطفة «كما لو أنها من حفريات التاريخ».
في أكثر من فقرة من ذكرياته حول تلك التجربة يسرد جانغكي رؤاه كما لو كان يشرح لنا فيلماً معروضاً قام بتصويره أو على أهبة ذلك (بعد محنة الحجر تلك واصل العمل على فيلمين من المفترض عرضهما في العام المقبل).

بدرو ألمودوفار
مذكرات الإسباني بدرو ألمودوفار اكتسبت رؤى وتأملات أكثر استفاضة وشاعرية من سواها. بدأها في الرابع والعشرين من مارس (آذار) بعد ممانعة: «ربما لأنني وجدت، في بدايات الحجر، بأن هذا الوضع ليس غريباً عما أقوم به عادة».
يستطرد شارحاً أنه تعوّد على العيش منفردا وفي حالة إنذار. لذلك رفض المخرج الإسباني أن يسجل يومياته طوال الأيام التسعة الأولى من الحجر. نكتشف أنه حال قرر الاستمرار في كتابة مذكراته خلال الفترة، استبعد القيام بكتابة سيناريو أو رواية مبرراً ذلك بأنه لا يشعر بالبهجة الكافية ليقدم على هذا العمل. يوضح ذلك حين يصف الوضع على النحو التالي: «من السهل فهم الواقع الحاضر كما لو كان رواية فانتازية وليس كرواية واقعية. الوضع العالمي يبدو كما لو أنه آت من فيلم خيال علمي من الخمسينات ومن زمن الحرب الباردة. من أفلام رعب معادية للشيوعية. أفلام أميركية من فئة B (أفلام ذات ميزانيات محدودة كانت تعرض كأعمال مُلحقة بالفيلم الرئيسي)».
يلاحظ المخرج أن تلك الأفلام كانت تصوّر الشر آتياً من خارج الولايات المتحدة. من الدول الشيوعية ومن الكواكب الأخرى غالباً. ينصحنا بمشاهدتها لأنها أفلام جيدة، وفي الوقت ذاته يحيلنا إلى معانيها وأبعادها ساخراً: «في الحقيقة يؤكد ترمب على أن الوضع شبيه بمضامين أفلام الخمسينات عندما يطلق على الوباء اسم (الفيروس الصيني)».
كسواه أمضى ألمادوفار الوقت في مشاهدة الأفلام القديمة. أقبل على ميلودراما جورج كوكر «قصة فيلادلفيا» (1940) وعلى كوميديا «مدنايت» لمايكل لايسن والدراما المشحونة في فيلم To Be or Not to Be (إرنست لوبيتش، 1942) وعاد إلى أفلام جورج كوكر أكثر من مرّة فشاهد له «مولد نجمة» (1954) و«ثرية ومشهورة» (1981) من بين أخرى. وفي فقرات متلاحقة كتب كذلك عن أفلام جيمس بوند معجباً بفيلم Goldfinger الذي قام شون كونيري ببطولته سنة 1964.
بالعودة إلى مشاعره حيال وحدته وعزلته نراه يكتب: «لم أشعر في حياتي بأني غير قلق كما أشعر هذه الأيام. أتمسك بهذا الشعور للتغلب على خوفي ومصادر ريبتي».

روجر كورمَن
المنتج والمخرج الأميركي روجر كورمن (94 سنة) عمد إلى الكومبيوتر ليكتب أيضاً مذكراته ومشاعره حيال الوضع الحالي وخلال هذه الفترة التي يقضيها في منزله. يخاله المرء، في مثل هذا السن، وقد اعتاد الحياة في البيت بعيداً عن العمل، وهذا صحيح.
خلال الأشهر الماضية منذ انتشار الوباء في أميركا عمد كورمن إلى الهاتف ليتواصل مع ثلاثة كتّاب ينجزون له ثلاثة مشاريع يريد تحقيقها حال تتاح له الفرصة.
وهو يذكر عناوين مشاريعه: «ألعاب موت» (Death Games) ويصفه بـ«فيلم أكشن يتضمن موقفاً سياسياً واجتماعياً» معلناً حبّه لهذا النوع.
الفيلم الثاني «مدينة الجريمة» (Crime City). تقع أحداثه فوق جزر البهاما التي كان الإعصار دمّرها قبل سنتين: «الحكومة هناك تعمل معي على هذا الفيلم لأني سأوظف العديد من الفنيين والعمال في هذا المشروع».
أما الثالث فهو إعادة لفيلمه السابق The Unborn الذي أنجزه سنة 1991 وتعامل فيه مع ابن ضابط نازي حط بعد الحرب العالمية الثانية في بلد لاتيني ليستكمل أعماله الخطرة.
بذلك تبدو مذكراته المنشورة في هذه المناسبة أبعد عن أن تحمل هموماً وتأملات شخصية، بل ترويج للبضاعة التي سيعرضها حال إتمام تجهيزها.
بين الكتابات الثلاث التي خصّ بها كل سينمائي نفسه وعالمه خلال الحجر، فإن تلك التي كتبها ألمودوفار هي الأكثر تعاملاً مع الذات حين تتأمل بعيداً في المصاب الكبير.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.