ما فعلته «الجزيرة»

ما فعلته «الجزيرة»
TT

ما فعلته «الجزيرة»

ما فعلته «الجزيرة»

حدث هذا غداة نجاح الانتفاضة التونسية في إطاحة حكم الرئيس زين العابدين بن علي في عام 2011؛ إذ كتب المعارض التونسي آنذاك الأستاذ منصف المرزوقي، الذي صار رئيساً للجمهورية لاحقاً، مقالاً نشرته «الجزيرة نت» بعنوان «الآفاق المرعبة والمذهلة للثورات العربية»، وهو المقال الذي جاء فيه: «من ينكر اليوم أننا أمة يخفق قلبها بنبض واحد، وأن (قناة الجزيرة) هي اليوم من يُعدّل النبض على نفس الإيقاع».
من جانبي لا أجد أي ذريعة يمكن أن تدحض ما ذهب إليه الأستاذ المرزوقي في هذا الصدد؛ ففي تلك الآونة كانت «الجزيرة» قادرة على إرساء أجندة الأولويات العربية، وتشكيل الصور الذهنية عن الفاعلين الأساسيين، وتغييب قضايا رئيسة أو طمس ملامحها، وشحن الجمهور وتعبئته في اتجاه معين، وإسقاط عواصم، وقيادة زعماء إلى غياهب التاريخ.
إنها قوة سحرية حاسمة إذن، تمكنت «الجزيرة» عبرها من البرهنة على تغير الأساليب التقليدية لصنع السياسات الدولية والوطنية، عبر تأثير البث الفضائي المركز، الذي أعاد تأطير الصراعات السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية، بشكل أمكن رصد تفوقه على عناصر القوة الصلبة في عديد الأحيان.
انطلقت «الجزيرة» في عام 1996 من فاعل مغمور وبعيد على أطراف العالم العربي، مستفيدةً من فوائض مالية هائلة، وإنفاق بلا سقف، وطموح بلا حدود، وغطاء سياسي صلب عززته استحقاقات «التعهيد»، ولأن «المُتعهد» بلا أعباء تاريخية، وينشط في سياق مأزوم ومرتبك، مستفيداً من مزايا الجغرافيا، ومستغلاً هشاشة المحيط، فقد تمركز سريعاً بوصفه «الصوت الجديد والوحيد».
لو كان الأمر بيدي، لجعلت ما قاله الأستاذ المرزوقي، في شأن «الإيقاع الذي تحدده (الجزيرة) للعالم العربي»، بيان الرؤية (Vision Statement) المُعلن لتلك الشبكة الإعلامية، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولم تتوقف يوماً منذ انطلاقتها عن إثارة الجدل وتحقيق الاختراقات. ولكن ماذا عن بيان المهمة (Mission Statement)؟ أي كيف نجحت «الجزيرة» في اجتراح رؤيتها التي تمت البرهنة على نجاعتها مرات ومرات؟ أوليس وصول الأستاذ المرزوقي نفسه إلى سدة الرئاسة في بلاده دليلاً دامغاً على تلك النجاعة؟
فعلت «الجزيرة» هذا عبر تسخير أدواتها الإعلامية الاحترافية والجديدة على الفضاء الإعلامي العربي آنذاك، لممارسة خليط مدروس من أنماط الانحياز الذكية والتقليدية؛ فبدأت بطرح القصص المفقودة، والقضايا المسكوت عنها، وإعطاء منبر للأصوات المحجوبة، وطرح موضوعات الفساد والاستبداد، قبل أن تفرط في الاختيار المغرض للمصادر، واختلاق الوقائع، وتشويه الحقائق، وضبط أدائها وفقاً للمصالح التي تشخصها الدولة القطرية، إلى أن تحولت إلى أداة دعاية سوداء، ومنصة لبعض قوى الإرهاب، وعنصر تهييج وتحشيد، ووسيلة للابتزاز والضغط.
يقتضي الإنصاف القول إن «الجزيرة» أعادت تشكيل المجال الإعلامي العربي، ودفعت قوى رئيسة فيه إلى إعادة النظر في منظوماتها الإعلامية، ووصلت بالإنفاق الإعلامي العربي إلى آفاق جديدة مذهلة بلغت وفق تقديرات رصينة نحو 30 مليار دولار أميركي سنوياً، وحرّكت راكداً، ووظّفت كوادر، وطوَّرت تقنيات، وأسهمت في إلقاء الضوء على مثالب ومفاسد ومظالم، لكن كل هذا كان يجري وفق بيان الرؤية ذاته، وبعناصر المهمة نفسها، وبقدر هائل من الانتهازية والحس الانتقامي، الذي أفضى إلى جملة من الخسائر، تهدمت عبرها دول، وتشردت شعوب، وانهارت عوالم.
لا يمكن فصل أداء «الجزيرة» عن أداء النظام السياسي الذي يحتضنها، ولا يمكن تعيين آثار فعلها بعيداً عن أهدافه، ورغم أننا نتفهم ضرورة أن تعكس الوسيلة قدراً مناسباً من إرادة المالك وتوجهاته كي لا تنتفي ذرائع التملك، فنحن ندرك أيضاً أن الاتساق الكامل بين إرادة مالك وأداء وسيلته من دون النظر لاعتبارات المهنة ومعاييرها المتفق عليها، لا ينتج إعلاماً بقدر ما ينتج دعاية سوداء.
بسبب نزعتها البراغماتية العارمة، سحبت «الجزيرة» النظام الإعلامي العربي إلى مبارزات سياسية بأدوات إعلامية اقتضت تغييباً للمعايير المهنية، وبعدما كان هناك بعض الأمل في أن ترفد هذا النظام بشيء من المهنية وتأخذه إلى آفاق جديدة ورشيدة، ها هي تقوده، بأعصاب باردة، وإيماءات براءة، إلى «آفاق مرعبة» حسب وصف المرزوقي.
فهل تجاري المنصات الإعلامية العربية الرئيسة «الجزيرة» في هذا النزق؟ أم تتركها وحدها تحدد «الإيقاع»؟ أم تؤسس لممارسات إعلامية يستحقها الجمهور العربي، وتقدر عليها؟



فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.