نشرنا أمس مجموعة من الرسائل الشجية وجّهها كوكبة من الكتاب المصريين إلى بيروت، أكدوا فيها مدى ما تمثله لهم على مستوى الثقافة والحرية والجمال والفن، وأنها سوف تتجاوز نكبتها، وتستعيد دورها في صناعة الأمل. وفي هذه الحلقة مجموعة أخرى من الرسائل لكوكبة من الأدباء والشعراء السعوديين مليئة بالشجن والأسى والخوف على بيروت من منعطف وجودي خطير، تنزلق إليه نحو حرب أهلية، تحت نيران الطائفية والميليشيات المسلحة، لكنهم مع ذلك لم يفقدوا الأمل، فبيروت ستظل صاخبة وجميلة بشعبها وثقافتها، وإرادتها الحرة وقدرتها على الإلهام والإبداع... هنا نص الرسائل:
الشاعر محمد الدميني: مختبر حريات
لا توجد مدينة عربية فاقدة الحيلة كما هي مدينة بيروت، بخاصة في لحظتها العصيبة الراهنة. نكبة بيروت لم تبدأ الآن، لا أراها منذ بزوغ حربها الأهلية عام 1975 سوى مدينة نكبة، تقاطعت على جسدها المصالح والسياسات العربية الخرقاء إلى أن حوّلتها إلى أرض شاحبة ومريضة، فتراجعت عن دورها التنويري المتفوق، وعن إلهامها كمختبر حريات إلى أرض تحاول التمسك بالحياة واتقاء خط العوز والفقر قبل حلول الانهيار الأكبر.
أليست نكبة مرفأ بيروت جزءاً من انهيارها؟ أليست هذه العاصفة التي جرّدت نصف مباني بيروت من واجهاتها الزجاجية، وقشَطت جِلد ناس هذه المدينة -التي كانت فاضلة- وأرواحهم وأعصابهم عن عظامهم؟ أليس هذا تنكيلاً حياً بحق اللبناني في العيش الكريم وسحق كل أحلامه؟
لو كان لي حيلة لطلبت من أصدقائي الشعراء أن يكفّوا عن رثاء هذه المدينة الضائعة فقد شبَعت منذ السبعينات مراثي وذكريات وعِظات، ولم تحمها القصائد ولا الأغاني من هذه الويلات التي تحتشد في طريقها. ورغم هذا فهأنذا مثلهم أكتب ما يشبه مراثيهم، وأدمن مطاردة الفضائيات بحثاً عن أمل أو سبب، أو ملاذ من عاصفة النار التي أحرقت قلب بيروت وبعض تراثها المعماري، ليصل ذلك اللهب إلى كل بيت عربي.
أقول بيأس إن طغمة لبنان الحاكمة، التي تبدو كأنها قبة حديدية تطوّق سماء بيروت، هي من يقف وراء تصاعد اليأس اللبناني، ووراء لجوء مواهب لبنان وعقولها ومثقفيها إلى أي مكان على هذه الأرض يأساً وحزناً من مستنقع لبنان السياسي، ووراء تخليد آلام بيروت التي يتعذر وصفها أو الاقتراب منها.
الروائية أميمة الخميس: قنطرة الشرق والغرب
ظهر لبنان بصيغته النهائية على الخريطة عام 1946، من بعد مخاض صعب خرج منه الاستعمار الفرنسي ضامناً غطاءً سياسياً لكاثوليك الشرق، مجذِّراً الطائفية في هيكليته السياسية، حيث تتوزع الأطيافُ المذهبية الحقائبَ السياسية، ولكن تلك الحقائب لم تكن سياسية دائماً، بل لطالما احتشدت بالمواد شديدة الانفجار.
كان حلم الآباء المؤسسين ومناهضي الاستعمار في لبنان بسويسرا شرقية، محايدة، تزهو بطبيعتها الخلابة، وموزاييك عرقي طائفي متناغم منسجم، وشعب عريق ذكي ومثقف قادر على أن يقوم بدور القنطرة التي تربط الشرق بالغرب.
نجح لبنان بهذا الدور مرة وفشل مراراً. فأول مطبعة عربية كانت في جبل لبنان، وأول من وضع موسوعة معارف باللغة العربية اللبناني بطرس البستاني، وهو أول من وضع قاموساً (عربي إنجليزي). اللبنانيون لهم نضالاتهم المشرفة في مقاومة التتريك والمحافظة على اللغة العربية، لبنان مارون عبود، ونقولا زيادة، والرحابنة، على سبيل المثال لا الحصر. ولكن عقر لبنان داء الشرق الطائفي، ولغياب الدولة المركزية القوية، أصبح مضماراً للدِّيَكَة... كلٌّ يصيح فوق تلة طائفته.
لبنان الآن أمام منعطف وجودي خطير، إما نزع أسلحة جميع الميليشيات والالتفاف حول الجيش اللبناني الوطني، وإما حرباً أهلية دامسة لا نهاية لها.
الكاتب طارق فريد زيدان: طائر الفينيق
الكارثة كبيرة في لبنان. وكما نعرف جميعاً هذه أرض منجبة وخلّاقة. لا يليق بها إلا النهوض والتحليق، لأجل ذلك صنعت ميثولوجيا طائر الفينيق. الجميع يندب كأنه في مجلس عزاء... لبنان لم يمت، لبنان لا يموت. اقرأوا الفاتحة على الشهداء، أما بيروت فهي الشهيد الحي. هذه بيروت وجه الجمال للأنطاكيا وسائر المشرق.
ليتذكر العرب بعد أن نَسيتم أو نُسيتم (بالضمة) أنتم من تحتاجون إلى بيروت، أنتم تستقطبون ودّها ودلعها ودلالها وفنها وكلماتها ورقصها وسياستها ومرفأها العتيق الذي انفجر. هذا المرفأ هو رمز للانفتاح وليس ميناء للبضائع، أدرك أهميته الاستراتيجية الفينيقيون والرومان وبعدهم معاوية وصلاح الدين وفيصل بن الحسين والجنرال غورو وصولاً إلى عبد الناصر وحافظ الأسد وشارون ثم الخميني.
وزاره ماكرون قبل أيام. ماكرون الرئيس الفرنسي الشاب المنبوذ من أهله طار على وجه السرعة لأن بيروت مهمة وليس لأنها منكوبة فقط... لم يخطئ شاعر جبل لبنان نايل عبدو حين قال: «كلهم باعوك الكلام».
الشاعر عبد الوهاب أبو زيد: تعويذة شعرية
تنتابك الحيرة. هل تصمت احتراماً لجلال الموقف؟ فلربما كان الصمت أجدى وأبلغ وأعلى صوتاً. هل تكتب متضامناً مع البلد الجريح والمدينة المروعة والشعب المنكوب؟ الشعر لا يترك لك الخيار. يحضر بأسرع مما توقعت، فتحضر القصيدة وتحضر بيروت التي لو كان للشعر الذي كُتب فيها أن يكون تعويذة لها، لما مسّها سوء. ولكن الشعر كما نعرف جميعاً لا يملك حتى أن يحمي نفسه.
قد يكون الدافع وراء كتابة كل هذا الركام من القصائد نبيلاً -والأغلب أنه كذلك- والغرض منه هو التعبير عن التضامن والمواساة، ولكنني أحياناً أتمنى بيني وبين نفسي أن يفقد الشعراء قدرتهم على الكتابة لفترة من الزمن كي يريحوا الشعر وكي نرتاح منهم. أعني منّا.