في «مركز جميل للفنون» بدبي ثلاثة معارض تقدم ضمن غرف الفنانين، وهي مساحات عرض منفصلة. العروض الثلاثة تقدم أعمالاً متفردة تركز على مواضيع مثل الذاكرة والفقد وتداعيات الماضي والحاضر والمستقبل. الأعمال هي: «إلى أخي» لتيسير البطنيجي، و«في المختبر» للاريسا صنصور، و«وفي كل هذا الوقت لم تكن هناك ألغام أرضية» للفنان لورنس أبو حمدان. الأعمال الثلاثة تلجأ لوسائل سمعية وبصرية لتضمن التفاعل مع الجمهور والوصول لمختلف الحواس، لتثير أسئلة وأفكاراً مرتبطة بالإنسان في المجتمعات العربية ما خلفها. تحدثت «الشرق الأوسط» مع البطنيجي وصنصور حول مشروعيهما وما وراءهما من مواضيع وأفكار.
تيسير البطنيجي الذاكرة ما تبقى منها وما انمحى
الحديث مع البطنيجي عبر الهاتف يقدم لي نظرة واسعة على عمله «إلى أخي»، وهو عبارة عن 60 رسماً بدون حبر، تصور مشاهد من عرس شقيقه الشهيد ميسر. اللوحات عرضت في دبي ضمن الأعمال الفائزة بجائزة «أبراج» في عام 2012، ووقتها أتيحت لي الفرصة لمعاينة العمل، وللوهلة الأولى لم أفهم تماماً ما الذي تعنيه كل تلك الرسومات التي لا أستطيع أن أراها، ولكن بالاقتراب تظهر آثار حفر على الأوراق البيضاء، ليس سهلاً رؤية كل التفاصيل، ولكن بالتمعن وتغيير وجهة النظر من اليمين لليسار تشكلت أمامي صور حية، وإن كانت غائبة أو مختبئة، لمشاهد سعيدة من يوم يحلم به كل شاب. وتضيف معلومة أن العريس الشاب ميسر قتل على يد الجيش الإسرائيلي بعد عامين من زفافه معاني ومشاعر أكثر على هذا العمل المتفرد.
تحدثت مع الفنان البطنيجي عبر الهاتف، وجاءني صوته من باريس حيث يقيم، تحاورنا حول العمل ومعناه وطبقاته المختلفة. بداية أسأله إن كانت الطريقة التي اختار أن ينفذ بها العمل قد تمثل مشكلة بالنسبة للمتفرج، يجيب: «لا أبداً، العمل يختلف عن أي عمل فوتوغرافي أو تقليدي، المشاهد يتطلع عليه بطريقة إنه يكون قدامه، العلاقة مع العمل تختلف، لازم المشاهد يبذل جهداً ليرى التفاصيل ويعرف الموضوع». ويضيف أن صفة الحضور والغياب التي يمثلها الحفر بدون حبر إنما هي: «جزء من مكون العمل، لأنه عن الذاكرة، والذاكرة غير مادية، العمل يتراوح بين البعد المادي واللامادي رغم أنه على ورق لكن هناك الجانب الذي لا يمكن رؤيته على بعد متر أو مترين، التفاصيل تحتاج للاقتراب والحركة حسب مسقط الضوء ليرى المشاهد التفاصيل».
يتحدث عن القصة خلف العمل، وهي تجربة شخصية قاسية، يقول: «الصور أصلاً حميمية التقطت من سنتين قبل استشهاد أخي ميسر، وهذه الصور لم يكن القصد منها أن يراها الغرباء، ووجدت هذه الطريقة ليستطيع الناس رؤيتها بشكل مختلف (تشوفها وما تشوفها). العمل يعتمد على تفاعل المشاهد: المشاهد لازم يدخل في حميمية الصور، وينشئ علاقة خاصة مع العمل حتى يستطيع رؤيته». قصة ميسر واستشهاده محفورة في ذاكرة البطنيجي، كما النقش بدون حبر، هي هناك تفاصيلها غائرة في عقله يحس بها ويراها، يحكي لي أنه في يوم استشهاد ميسر كان خلال في بداية الانتفاضة الأولى وكان يوم الجمعة 18 ديسمبر (كانون الأول) 1987، يقول: «في هذا اليوم كنت أهيئ نفسي لأذهب لشاطئ البحر، كنا في الشتاء وكان يوماً مشمساً، التقيت أخي قبل ما أطلع من البيت وكان يحب الرسم، أمسك بدفتر الأوراق الذي حملته معي ورسم جندياً يحمل بندقية ويطلق النار، كان ذلك غريباً، وكان وكأنه يتنبأ بما سيحدث له بعد ساعتين. وكان لدي إحساس منذر، فعدت للحي مرة أخرى وأخذ مني جهداً للعودة بسبب الاشتباكات، وعرفت هناك أن ميسر أخي كان في المسجد مع شباب آخرين وكان هناك فيه إطلاق نار كثير، وهناك توفي ميسر برصاصة. رجعت للرسم بعد ذلك، لا أذكر أنا أو هو من فعل ذلك، ولكن الرسم كان ممحياً خوفاً من أن يراه جندي إسرائيلي من الدوريات التي تجوب الشوارع. رجعت للورقة ورأيت أن آثار القلم ما زالت موجودة».
وبعد 25 عاماً من وفاة ميسر، عاد تيسير للرسم، وقرر أن ينفذ عملاً بالحفر بدون حبر، واختار أن يكون عرس ميسر هو الموضوع: «هو نوع من إحياء لذكراه من خلال لحظات تعبر عن الفرح وذكرى جميلة ليوم عرسه لأنه كان محباً للآخرين والحياة». استخدم البطنيجي نيغاتيف صور العرس للضغط على تفاصيلها بالقلم، لتنطبع آثارها على الورقة البيضاء أسفل، أسأله: هل هناك تفاصيل أردت إبرازها أكثر أو إخفاءها؟ وأجابني قائلاً: «حاولت أن ألتزم بكل التفاصيل، بعض التفاصيل لم تكن مهمة، وهناك سبب ثانٍ أن بعض النيغاتيف أو جزء منه كان تالفاً». أعلق بأن تلف النيغاتيف يمكن رؤيته ضمن إطار فكرة الفقد والذاكرة التي تبهت أجزاؤها عبر الزمن. يقول: «بالضبط، فكرة الذاكرة مع الزمن يصيبها تآكل وفيه أشياء تظل ثابتة وأشياء تختفي، خاصة بالنسبة للناس القريبين منا، الذاكرة لا تستطيع الإحاطة بكل التفاصيل، فقط أجزاء وشظايا والذاكرة أحياناً تغير بعض التفاصيل، تضيف وتحذف».
لاريسا صنصور في المختبر
فيلم لاريسا صنصور «في المختبر» (2019) هو فيلم خيال علمي ناطق باللغة العربية، تدور أحداثه في مدينة بيت لحم التاريخية وقت وقوع كارثة بيئية. يتأمل الفيلم مفاهيم شاملة منها الذاكرة والتاريخ والمكان والهوية، حيث توفر لغة الفيلم خلفية مشحونة بطريقة روائية وسياسية ورمزية. قدمته لاريسا بتكليف من المؤسسة الدنماركية للفنون في بينالي البندقية الثامن والخمسين. المشروع مكلف من «سبايك أيلند» و«فن جميل»، وهذا هو العرض الأول في المنطقة. خلال حديث عبر الهاتف، تشرح لي صنصور بعض جوانب العمل، مشيرة إلى أن العمل كما قدم في بينالي فينيسيا كان يتكون من عدة أجزاء، فبالإضافة للفيلم السينمائي الذي يعرض في «مركز جميل»، هذه الأيام، كان هناك مجسم كروي بقطر 6 أمتار. المجسم نراه في الفيلم، وبالتالي يكتسب معنى مضافاً خارج الفيلم. تضيف أن الجزء الثاني عبارة عن «بلاطات» خزفية صنعت في فلسطين خصيصاً، وهي تعبر عن التراث. تشير إلى أن عملية إخراج البلاطات من غزة لعرضها في البينالي كانت صعبة «كان علينا إخراجها عبر الحدود الإسرائيلية وتدخلت السفارة الدنماركية لترسلها ضمن الحقيبة الدبلوماسية». أسألها: هل ترين في المشقة التي أخرج بها العمل من فلسطين طبقة جديدة للمعنى؟ ترد بالإيجاب.
من تفاصيل العمل أيضاً أن الفلك أو المجسم المعدني والمكون من ثماني قطع مطلية باللون الأسود الداكن عاكس للضوء بحيث يشعر الناظر له بالعمل معه حتى بعد الابتعاد عنه.
بالعودة للفيلم، تشرح صنصور أن بطلته فتاة اسمها عالية تتفاعل مع المجسم الأسود الذي يحمل ذكرياتها، «ذاكرة وقت مضى». وتشير إلى أن المجسم أيضاً يمثل حالة الفراغ (ليمبو) التي يحتجز فيها الفلسطيني «ما بين الماضي الذي يسيطر على العقل الجماعي وأحداث النكبة، وما بين المستقبل الذي يحلم به الفلسطينيون من إنشاء دولة نجد أن الحاضر يشهد تآكلاً للمكان بفعل المستوطنات».
يبدأ الفيلم بكارثة؛ زيت أسود يغمر بيت لحم وكنيسة المهد، هي نهاية العالم في فلسطين. يقوم مجموعة من العلماء بإنقاذ بذور النباتات والحمض النووي للسكان ويضعوها في قبو تحت الأرض يرمز للشتات الفلسطيني، «هم خارج فلسطين ولكن يحملون معهم كل الذكريات من آبائهم، عاليا بطلة الفيلم لا تفهم لماذا تعمل العالمة دنيا على حفظ تراث بيت لحم فالمخبأ هو الحقيقة والحاضر- بالنسبة لها».