موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع

وسط ترحيب رئيس الجمهورية... وهموم أمنية وصحية

موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع
TT

موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع

موعد الكاظمي للانتخابات العراقية المبكرة يحرج الكتل السياسية أمام الشارع

اختار رئيس الوزراء العراقي أكثر الأوقات حرجاً للكتل والأحزاب والقوى السياسية العراقية لطرح موعده «القاتل» لإجراء الانتخابات المبكرة... إذ وضع الكاظمي للانتخابات توقيتاً ذكياً، هو السادس من شهر يونيو (حزيران) عام 2021. والمعروف أن رئيس الحكومة الحالي كان قد جاء إلى منصبه بعد سلسلة اعتراضات عليه وعلى مَن سبقه من المكلفين (محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي)، بينما كان رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي يواصل مهامه رئيساً لـ«حكومة تصريف أعمال يومية»، في فترة صعبة من تاريخ العراق، تقتضي قرارات دولة حقيقية.
خلال الفترة التي أعلن فيها عبد المهدي استقالته، ومن ثم بدأت إجراءات تكليف البدلاء، وما تخللها من مشاكل وإشكالات سياسية وشخصية، واجه العراقَ تحوّلان غير مسبوقين هما: جائحة «كوفيد - 19»، وانخفاض أسعار النفط إلى حدود بدت محرجة للخزينة العراقية الخاوية أصلاً منذ سنوات.
حين وصل مصطفى الكاظمي إلى السلطة في السادس من مايو (أيار) 2020، كان كل شيء متهاوياً ويقترب من الخراب.
الكتل والقوى والشخصيات التي حضرت مراسم تكليفه في القصر الرئاسي أمام رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح، وحضور رئيسي المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى، فضلاً عن كبار زعامات الخط الأول - مثل عمّار الحكيم وهادي العامري وحيدر العبادي وسواهم - وصفّقت له، حاولت أن تكون أكثر «شطارة» منه، حين طالبته بتحديد موعد للانتخابات المبكرة.
هذه الكتل، من خلال خبرتها التي ظنت أنها وصلت إلى حد «الاحتراف في فهم الوضع العراقي»، كانت تتصوّر أن هذا الأمر لا يمكن حصوله، وليس باستطاعة أي رئيس وزراء التعامل معه. لذا فإنها في «طلبها» الذي تحوّل إلى «شرط» أرادت عبره استيعاب الشارع الغاضب والمنتفض، ومحاولة إرضاء المرجعية الدينية، وبالذات مرجعية آية الله علي السيستاني، الذي أغلق أبوابه أمام الجميع منذ عام 2015، في حين واصل ممثلوه، عبر خطب الجمعة، توجيه الانتقادات الحادة لكل أفراد الطبقة السياسية من دون استثناء. بيد أن المرجعية الدينية، وفي أكثر من خطبة خلال الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، طالبت بإجراء انتخابات مبكرة.

لعبة مصطلحات
إذا كانت عبارة «الانتخابات المبكرة» مطلباً للجماهير والمرجعية وآخر ما تفكر به الكتل السياسية، فإن مفردة «الأبكر» نحتها رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي.
الحلبوسي، الرئيس السنّي الشاب لمجلس النواب (البرلمان) العراقي كان أعلن قبل نحو شهر، رداً على سؤال حول ما إذا كان جاهزاً لخوض الانتخابات: «أنا جاهز الآن أكثر من أي وقت مضى». يومذاك لم يكن محمد الحلبوسي يعلم أن الكاظمي يمكن أن يعلن بعد نحو شهر موعداً فاجأ به الجميع.
وبالتالي، إذا كان ما صدر عن الحلبوسي قبل شهر تعبيراً عن ثقة بالنفس، فإن آخرين من الكتل والقوى والأحزاب السياسية المتنافسة بقوة فيما بينها وفي مناطقها (لا سيما الأحزاب الشيعية التي يستهدفها الحراك الشعبي في المقام الأول) وجدت نفسها أمام مفاجأة من الوزن الثقيل بإعلان الكاظمي موعداً بدا مبكراً لإجراء الانتخابات.
عند هذه النقطة بدت «لعبة المصطلحات» بين «المُبكرة» التي هي إحدى المطالب المؤجلة لمظاهرات أكتوبر 2019 و«الأبكر» التي تقترحها رئيس مجلس النواب وأيده فيها كل من زعيم تحالف «الفتح» هادي العامري وزعيم ائتلاف «دولة القانون» نوري المالكي، اللذين اقترحا شهر أبريل (نيسان) من العام ذاته موعداً لها.
الكاظمي نجح في رمي الكرة في ملعب البرلمان كونه الجهة الوحيدة التي يتعيّن عليها توفير كل ما يلزم لإجرائها، وفي المقدمة ما ينبغي حسمه هو قانون الانتخابات الجديد، الذي أقره البرلمان عام 2019 تحت وقع الضغوط التي فرضتها الاحتجاجات الجماهيرية. ثم إنه بعد إكمال كل المستلزمات المتعلقة بذلك، ومنها القانون وحسم الدوائر المتعلقة به، فضلاً عن توفير الدعم اللوجيستي للمفوضية العليا المستقلة لإجراء الانتخابات، سيتوجب على البرلمان حلّ نفسه قبل شهرين من موعد إجراء هذه الانتخابات.

لا تواريخ «مقدّسة»
لا توجد في العراق تواريخ «مقدّسة» في الاستحقاقات السياسية... لا للانتخابات ولا لسواها. ولكن، ما إن أعلن مصطفى الكاظمي السادس من يونيو المقبل موعداً للانتخابات حتى ظهرت المشاكل والإشكاليات، التي تتعلق بكيفية إجراء العملية الانتخابية في أجواء غير آمنة، بدءاً من السلاح المنفلت، ووصولاً إلى جائحة «كوفيد - 19»، مروراً بالأزمة المالية والأزمات الأخرى كقضية النازحين والمهجرين... وقبلها كلها إشكاليات قانون الانتخابات. مع هذا، فإنه طبقاً لما يراه الخبير القانوني أحمد العبادي، فإن «موعد الكاظمي إذا كان مقدّساً فإن هناك شروطاً لذلك. لأنه لا يمكن أن يُحل البرلمان اليوم ونبقى على مدى 8 أشهر مع (حكومة تسيير أعمال). وبالتالي، لا بد من أن يكون هناك اتفاق بين الكتل السياسية على موعد محدد للانتخابات أو اعتبار السادس من يونيو المقبل موعداً نهائياً للانتخابات. وبناءً عليه، لا بد من حسم موضوع قانون الانتخابات، وكذلك يجب حسم مسألة قانون المحكمة الاتحادية».
لكي يصار إلى حسم مسألة التواريخ، وما إذا كانت نهائية وقاطعة أم لا، دعا رئيس البرلمان محمد الحلبوسي إلى عقد جلسة طارئة ومفتوحة وعلنية للمضي بإجراءات الانتخابات المبكرة. وجاء في بيان الحلبوسي أن «الحكومات المتعاقبة لم تنفذ برنامجها الحكومي ومنهاجها الوزاري، ولم يتعدّ السطور التي كتبت به، ما أدى إلى استمرار الاحتجاجات الشعبية بسبب قلة الخدمات وانعدام مقومات الحياة الكريمة».
وأكد البيان «أنه من أجل العراق ووفاء لتضحيات أبنائه، ندعو إلى انتخابات أبكر وعقد جلسة طارئة مفتوحة علنية بحضور الرئاسات والقوى السياسية للمضي بالإجراءات الدستورية وفقاً للمادة 64 من الدستور، فهي المسار الدستوري الوحيد لإجراء الانتخابات المبكرة، وعلى الجميع أن يعي صلاحياته ويتحمل مسؤولياته أمام الشعب».
يحيى غازي، عضو البرلمان العراقي عن «تحالف القوى العراقية» الذي يتزعمه الحلبوسي، أبلغ «الشرق الأوسط» أن «موقفنا في تحالف القوى العراقية مع الانتخابات الأبكر طبقاً لما دعا إليه زعيم التحالف ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي»، وأردف: «بين هذا وذاك فإن هناك مستلزمات لا بد أن تُستكمل قبل الذهاب إلى الانتخابات، وهي من الناحية القانونية استكمال القانون الانتخابي، وتهيئة الأجواء المناسبة لإجرائها، فضلاً عن المادة 64 من الدستور التي تنص على حل البرلمان كشرط أساسي لإجراء الانتخابات، على أن يكون ذلك قبل شهرين من موعد التصويت، وهو ما يتطلب اتفاقاً بين الكتل السياسية».
وبيّن غازي أنه «بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك مؤشرات تتعلق بالوضع الأمني والوضع الصحي في البلد، حيث لا بد أن تؤخذ مثل هذه الأمور بنظر الاعتبار، فضلاً عن الاستقرار في محافظات الوسط والجنوب، خصوصاً على صعيد المظاهرات والاعتصامات التي تخرج أحياناً عن السيطرة... وهو ما لا يوفر بيئة مناسبة لذلك».
كذلك، أوضح غازي أن «هذه الظروف يجب أن تُدرس بشكل دقيق، وهو ما دعا رئيس البرلمان إلى عقد جلسة طارئة للرئاسات والقوى السياسية من أجل الخروج بصيغة مناسبة من أجل إجراء انتخابات نزيهة».

صالح على الخط
من جهة ثانية، أكد رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح ترحيبه بإعلان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تحديد موعد للانتخابات المبكرة في يونيو المقبل، وقال في بيان إن «الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة حرة ونزيهة تُعدّ من متطلبات الإصلاح السياسي المنشود، وهو استحقاق وطني أفرزه الحراك الشعبي». وتابع صالح أن «ذلك تم التداول به في الاجتماع الأخير للرئاسات الثلاث الذي جمعنا مع رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب، والتأكيد على ضرورة الالتزام بإجراء انتخابات مبكرة حرة ونزيهة». كذلك شدّد رئيس الجمهورية على «أهمية العمل الجاد من أجل تحقيق هذا الالتزام الحكومي بأسرع وقت ممكن، لأن أزمة العراق السياسية لا تحتمل التسويف. وظروف المعاناة التي يمرّ بها شعبنا تتطلب قراراً وطنياً شجاعاً نابعاً من استحقاق الشعب وحقه في اختيار حكومة وطنية مستقلة ومتماسكة عبر انتخابات حرة ونزيهة».
وبيّن الرئيس صالح في بيانه أن «الحلول الناجعة تنبع من المواطن وقراره المستقل بعيداً عن التلاعب والتزوير والتأثير على خياره الانتخابي، كي يمكّن البلد من الانطلاق نحو الإصلاح البنيوي المنشود». ودعا «مجلس النواب إلى إكمال قانون الانتخابات بأسرع وقت ممكن، وإرساله إلى رئاسة الجمهورية للمصادقة عليه والشروع بتنفيذه، ومن ثم، الإسراع في إقرار تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا». واستطرد: «نؤكد على توفير الموازنة والتسهيلات المطلوبة لعمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بما يضمن استقلاليتها ويحفظ نزاهة العملية الانتخابية»، لافتاً إلى أن «الحكومة قد بادرت بالمشاورات المطلوبة مع المفوضية، وقد أعلنت أنه في حال الشروع في توفير المستلزمات المطلوبة تستطيع المفوضية حينها إجراء الانتخابات في المدة التي اقترحها رئيس مجلس الوزراء».
بعدها، أكد صالح أنه «في حال تقديم الحكومة مقترحاً لحلّ البرلمان، ننوي الموافقة على رفعه إلى مجلس النواب، لغرض عرضه للتصويت. ومع صدور قرار البرلمان، فإننا سنقرر رسمياً موعداً لا يتجاوز شهرين من حلّ البرلمان، وحسب ما نصّ عليه الدستور». وأوضح أن «إجراء انتخاباتٍ مبكرة حرة ونزيهة يستوجب تعاوناً أممياً مع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فضلاً عن إشراف المراقبين الدوليين لتمكينها من أداء دورها الوطني وحمايتها من التدخلات وتكريس ثقة المواطن بالعملية الانتخابية... إن الاستحقاق الوطني يتطلب تنظيم انتخابات نزيهة أبكر ما يمكن، وذلك لإخراج بلدنا من أزمته السياسية الخطيرة، وتمكين المواطن من تحديد مصير بلده بحرية واستقلال بعيداً عن الابتزاز والتزوير».

تفشي الفساد
رئيس الجمهورية العراقي رأى في بيانه أيضاً أن «جوهر الأزمة التي يعانيها العراق نابعة من تفشي الفساد وتأثيره المباشر في عرقلة الإصلاح المنشود، التي طالت العملية الانتخابية أيضاً في مؤشرات التزوير والتلاعب بالنتائج»، وقال إن هذه العرقلة أدت إلى «غياب ثقة المواطن والعزوف عن الانتخابات».
ومن جانبه، رأى الرئيس الأسبق للدائرة الانتخابية في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات مقداد الشريفي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه «يوجد تنافس قوي بين رئاسة الوزراء والبرلمان بشأن الانتخابات»، إذ إن الكاظمي مُحرَج من القوى السياسية التي تطالبه بإجرائها، بينما الكتل التي تمثلها في البرلمان لا تمرر القانون داخله، «وهذا هو الإشكال الذي يعاني منه رئيس الوزراء».
وأضاف الشريفي أن «إجراء الانتخابات خلال يونيو 2021 أمر صعب جداً، على مستوى الناخبين الذين يرومون التصويت، وذلك بسبب حرارة الجو وعدم وجود إمكانية لتحسن الكهرباء خلال تلك الفترة، وبالتالي يبدو لي أن تحديد هذا الموعد جاء من أجل الضغط لتمرير القانون، وليس لغرض إجرائها في مثل هذا الوقت كتاريخ فعلي لإجرائها».
وبشأن مفوضية الانتخابات التي يقع عليها عبء تنظيم عملية التصويت، قال الشريفي إن «وضع المفوضية ما زال صعباً، لأنه لم تُستكمل بعد المستلزمات المطلوبة لإجراء انتخابات. وبالتالي سيكون صعباً عليها تنظيمها في مثل هذا التاريخ».
هذا، ومع أن العديد من القوى السياسية أعلنت تأييدها لإجراء الانتخابات، فإن تحالف «عراقيون» بزعامة عمار الحكيم، وائتلاف «النصر» بزعامة حيدر العبادي هما الأكثر تأييداً لدعوة الكاظمي. وحول ما إذا كانت الخارطة السياسية ستتغير بعد الانتخابات المقبلة، صرّح الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي في العراق»، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، بأن «الحركة الاحتجاجية أسقطت معادلة الأحزاب الإسلامية كحكومة تنفيذية في أكتوبر الماضي، وما تبعتها من مؤشرات استياء كبيرة حيال أداء ونفوذ هذه الأحزاب الإسلامية، مع أن هذه الأحزاب لاتزال قابضة على مفاصل الدولة». وبيّن الشمري أنه «سواء كانت الانتخابات مبكرة أو أبكر... أو حتى لو كانت ضمن مددها الدستورية، فإن ذلك يُبقِي عملية توظيف الدولة من قبل هذه الأحزاب أمراً وارداً، وقد يتحكم بشكل كبير بالمشهد السياسي العراقي». وتابع أن «هذه الأحزاب ستعمل على إيجاد قانون انتخابي يؤمن نسبة حضورها في المشهد السياسي المقبل، كما أنها ستعتمد على مسار (أحزاب الظل)... أي أنها تظهر بكيانات رديفة تمثل لها مساحة أو الالتفاف للحصول على أصوات الناخبين». وأوضح الشمري أنه «مع ذلك، تزايد الوعي الجماهيري سيكون له مساحة كبيرة، لا سيما في حال تبلور مشروع بديل سواء عبر الحركة الاحتجاجية أو ما يمكن أن يفرزه هذا الوعي، ولكن دون أن نتفاءل كثيراً بإمكانية إحداث تغيير جذري كامل». ثم أكد أن «الفرز سيكون واضحاً من حيث المشاريع، لكنها لن تكون متقاربة، وإن كانت ستشكل حضوراً لافتاً في الانتخابات المقبلة».
أخيراً، مع كل ما يمكن قوله بشأن المواعيد المقترحة للانتخابات، سواء تلك التي حددها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أو بعض الكتل السياسية التي حددت موعداً أبكر، فإن الانتخابات المقبلة مفصلية في الحياة السياسية في العراق. وتالياً، ستمثل إحراجاً للجميع ممن يسعون إلى المحافظة على أوزانهم أو أولئك الذين لم يستعدوا بما فيه الكفاية.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.