اختار رئيس الوزراء العراقي أكثر الأوقات حرجاً للكتل والأحزاب والقوى السياسية العراقية لطرح موعده «القاتل» لإجراء الانتخابات المبكرة... إذ وضع الكاظمي للانتخابات توقيتاً ذكياً، هو السادس من شهر يونيو (حزيران) عام 2021. والمعروف أن رئيس الحكومة الحالي كان قد جاء إلى منصبه بعد سلسلة اعتراضات عليه وعلى مَن سبقه من المكلفين (محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي)، بينما كان رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي يواصل مهامه رئيساً لـ«حكومة تصريف أعمال يومية»، في فترة صعبة من تاريخ العراق، تقتضي قرارات دولة حقيقية.
خلال الفترة التي أعلن فيها عبد المهدي استقالته، ومن ثم بدأت إجراءات تكليف البدلاء، وما تخللها من مشاكل وإشكالات سياسية وشخصية، واجه العراقَ تحوّلان غير مسبوقين هما: جائحة «كوفيد - 19»، وانخفاض أسعار النفط إلى حدود بدت محرجة للخزينة العراقية الخاوية أصلاً منذ سنوات.
حين وصل مصطفى الكاظمي إلى السلطة في السادس من مايو (أيار) 2020، كان كل شيء متهاوياً ويقترب من الخراب.
الكتل والقوى والشخصيات التي حضرت مراسم تكليفه في القصر الرئاسي أمام رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح، وحضور رئيسي المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى، فضلاً عن كبار زعامات الخط الأول - مثل عمّار الحكيم وهادي العامري وحيدر العبادي وسواهم - وصفّقت له، حاولت أن تكون أكثر «شطارة» منه، حين طالبته بتحديد موعد للانتخابات المبكرة.
هذه الكتل، من خلال خبرتها التي ظنت أنها وصلت إلى حد «الاحتراف في فهم الوضع العراقي»، كانت تتصوّر أن هذا الأمر لا يمكن حصوله، وليس باستطاعة أي رئيس وزراء التعامل معه. لذا فإنها في «طلبها» الذي تحوّل إلى «شرط» أرادت عبره استيعاب الشارع الغاضب والمنتفض، ومحاولة إرضاء المرجعية الدينية، وبالذات مرجعية آية الله علي السيستاني، الذي أغلق أبوابه أمام الجميع منذ عام 2015، في حين واصل ممثلوه، عبر خطب الجمعة، توجيه الانتقادات الحادة لكل أفراد الطبقة السياسية من دون استثناء. بيد أن المرجعية الدينية، وفي أكثر من خطبة خلال الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، طالبت بإجراء انتخابات مبكرة.
لعبة مصطلحات
إذا كانت عبارة «الانتخابات المبكرة» مطلباً للجماهير والمرجعية وآخر ما تفكر به الكتل السياسية، فإن مفردة «الأبكر» نحتها رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي.
الحلبوسي، الرئيس السنّي الشاب لمجلس النواب (البرلمان) العراقي كان أعلن قبل نحو شهر، رداً على سؤال حول ما إذا كان جاهزاً لخوض الانتخابات: «أنا جاهز الآن أكثر من أي وقت مضى». يومذاك لم يكن محمد الحلبوسي يعلم أن الكاظمي يمكن أن يعلن بعد نحو شهر موعداً فاجأ به الجميع.
وبالتالي، إذا كان ما صدر عن الحلبوسي قبل شهر تعبيراً عن ثقة بالنفس، فإن آخرين من الكتل والقوى والأحزاب السياسية المتنافسة بقوة فيما بينها وفي مناطقها (لا سيما الأحزاب الشيعية التي يستهدفها الحراك الشعبي في المقام الأول) وجدت نفسها أمام مفاجأة من الوزن الثقيل بإعلان الكاظمي موعداً بدا مبكراً لإجراء الانتخابات.
عند هذه النقطة بدت «لعبة المصطلحات» بين «المُبكرة» التي هي إحدى المطالب المؤجلة لمظاهرات أكتوبر 2019 و«الأبكر» التي تقترحها رئيس مجلس النواب وأيده فيها كل من زعيم تحالف «الفتح» هادي العامري وزعيم ائتلاف «دولة القانون» نوري المالكي، اللذين اقترحا شهر أبريل (نيسان) من العام ذاته موعداً لها.
الكاظمي نجح في رمي الكرة في ملعب البرلمان كونه الجهة الوحيدة التي يتعيّن عليها توفير كل ما يلزم لإجرائها، وفي المقدمة ما ينبغي حسمه هو قانون الانتخابات الجديد، الذي أقره البرلمان عام 2019 تحت وقع الضغوط التي فرضتها الاحتجاجات الجماهيرية. ثم إنه بعد إكمال كل المستلزمات المتعلقة بذلك، ومنها القانون وحسم الدوائر المتعلقة به، فضلاً عن توفير الدعم اللوجيستي للمفوضية العليا المستقلة لإجراء الانتخابات، سيتوجب على البرلمان حلّ نفسه قبل شهرين من موعد إجراء هذه الانتخابات.
لا تواريخ «مقدّسة»
لا توجد في العراق تواريخ «مقدّسة» في الاستحقاقات السياسية... لا للانتخابات ولا لسواها. ولكن، ما إن أعلن مصطفى الكاظمي السادس من يونيو المقبل موعداً للانتخابات حتى ظهرت المشاكل والإشكاليات، التي تتعلق بكيفية إجراء العملية الانتخابية في أجواء غير آمنة، بدءاً من السلاح المنفلت، ووصولاً إلى جائحة «كوفيد - 19»، مروراً بالأزمة المالية والأزمات الأخرى كقضية النازحين والمهجرين... وقبلها كلها إشكاليات قانون الانتخابات. مع هذا، فإنه طبقاً لما يراه الخبير القانوني أحمد العبادي، فإن «موعد الكاظمي إذا كان مقدّساً فإن هناك شروطاً لذلك. لأنه لا يمكن أن يُحل البرلمان اليوم ونبقى على مدى 8 أشهر مع (حكومة تسيير أعمال). وبالتالي، لا بد من أن يكون هناك اتفاق بين الكتل السياسية على موعد محدد للانتخابات أو اعتبار السادس من يونيو المقبل موعداً نهائياً للانتخابات. وبناءً عليه، لا بد من حسم موضوع قانون الانتخابات، وكذلك يجب حسم مسألة قانون المحكمة الاتحادية».
لكي يصار إلى حسم مسألة التواريخ، وما إذا كانت نهائية وقاطعة أم لا، دعا رئيس البرلمان محمد الحلبوسي إلى عقد جلسة طارئة ومفتوحة وعلنية للمضي بإجراءات الانتخابات المبكرة. وجاء في بيان الحلبوسي أن «الحكومات المتعاقبة لم تنفذ برنامجها الحكومي ومنهاجها الوزاري، ولم يتعدّ السطور التي كتبت به، ما أدى إلى استمرار الاحتجاجات الشعبية بسبب قلة الخدمات وانعدام مقومات الحياة الكريمة».
وأكد البيان «أنه من أجل العراق ووفاء لتضحيات أبنائه، ندعو إلى انتخابات أبكر وعقد جلسة طارئة مفتوحة علنية بحضور الرئاسات والقوى السياسية للمضي بالإجراءات الدستورية وفقاً للمادة 64 من الدستور، فهي المسار الدستوري الوحيد لإجراء الانتخابات المبكرة، وعلى الجميع أن يعي صلاحياته ويتحمل مسؤولياته أمام الشعب».
يحيى غازي، عضو البرلمان العراقي عن «تحالف القوى العراقية» الذي يتزعمه الحلبوسي، أبلغ «الشرق الأوسط» أن «موقفنا في تحالف القوى العراقية مع الانتخابات الأبكر طبقاً لما دعا إليه زعيم التحالف ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي»، وأردف: «بين هذا وذاك فإن هناك مستلزمات لا بد أن تُستكمل قبل الذهاب إلى الانتخابات، وهي من الناحية القانونية استكمال القانون الانتخابي، وتهيئة الأجواء المناسبة لإجرائها، فضلاً عن المادة 64 من الدستور التي تنص على حل البرلمان كشرط أساسي لإجراء الانتخابات، على أن يكون ذلك قبل شهرين من موعد التصويت، وهو ما يتطلب اتفاقاً بين الكتل السياسية».
وبيّن غازي أنه «بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك مؤشرات تتعلق بالوضع الأمني والوضع الصحي في البلد، حيث لا بد أن تؤخذ مثل هذه الأمور بنظر الاعتبار، فضلاً عن الاستقرار في محافظات الوسط والجنوب، خصوصاً على صعيد المظاهرات والاعتصامات التي تخرج أحياناً عن السيطرة... وهو ما لا يوفر بيئة مناسبة لذلك».
كذلك، أوضح غازي أن «هذه الظروف يجب أن تُدرس بشكل دقيق، وهو ما دعا رئيس البرلمان إلى عقد جلسة طارئة للرئاسات والقوى السياسية من أجل الخروج بصيغة مناسبة من أجل إجراء انتخابات نزيهة».
صالح على الخط
من جهة ثانية، أكد رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح ترحيبه بإعلان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تحديد موعد للانتخابات المبكرة في يونيو المقبل، وقال في بيان إن «الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة حرة ونزيهة تُعدّ من متطلبات الإصلاح السياسي المنشود، وهو استحقاق وطني أفرزه الحراك الشعبي». وتابع صالح أن «ذلك تم التداول به في الاجتماع الأخير للرئاسات الثلاث الذي جمعنا مع رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب، والتأكيد على ضرورة الالتزام بإجراء انتخابات مبكرة حرة ونزيهة». كذلك شدّد رئيس الجمهورية على «أهمية العمل الجاد من أجل تحقيق هذا الالتزام الحكومي بأسرع وقت ممكن، لأن أزمة العراق السياسية لا تحتمل التسويف. وظروف المعاناة التي يمرّ بها شعبنا تتطلب قراراً وطنياً شجاعاً نابعاً من استحقاق الشعب وحقه في اختيار حكومة وطنية مستقلة ومتماسكة عبر انتخابات حرة ونزيهة».
وبيّن الرئيس صالح في بيانه أن «الحلول الناجعة تنبع من المواطن وقراره المستقل بعيداً عن التلاعب والتزوير والتأثير على خياره الانتخابي، كي يمكّن البلد من الانطلاق نحو الإصلاح البنيوي المنشود». ودعا «مجلس النواب إلى إكمال قانون الانتخابات بأسرع وقت ممكن، وإرساله إلى رئاسة الجمهورية للمصادقة عليه والشروع بتنفيذه، ومن ثم، الإسراع في إقرار تعديل قانون المحكمة الاتحادية العليا». واستطرد: «نؤكد على توفير الموازنة والتسهيلات المطلوبة لعمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بما يضمن استقلاليتها ويحفظ نزاهة العملية الانتخابية»، لافتاً إلى أن «الحكومة قد بادرت بالمشاورات المطلوبة مع المفوضية، وقد أعلنت أنه في حال الشروع في توفير المستلزمات المطلوبة تستطيع المفوضية حينها إجراء الانتخابات في المدة التي اقترحها رئيس مجلس الوزراء».
بعدها، أكد صالح أنه «في حال تقديم الحكومة مقترحاً لحلّ البرلمان، ننوي الموافقة على رفعه إلى مجلس النواب، لغرض عرضه للتصويت. ومع صدور قرار البرلمان، فإننا سنقرر رسمياً موعداً لا يتجاوز شهرين من حلّ البرلمان، وحسب ما نصّ عليه الدستور». وأوضح أن «إجراء انتخاباتٍ مبكرة حرة ونزيهة يستوجب تعاوناً أممياً مع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فضلاً عن إشراف المراقبين الدوليين لتمكينها من أداء دورها الوطني وحمايتها من التدخلات وتكريس ثقة المواطن بالعملية الانتخابية... إن الاستحقاق الوطني يتطلب تنظيم انتخابات نزيهة أبكر ما يمكن، وذلك لإخراج بلدنا من أزمته السياسية الخطيرة، وتمكين المواطن من تحديد مصير بلده بحرية واستقلال بعيداً عن الابتزاز والتزوير».
تفشي الفساد
رئيس الجمهورية العراقي رأى في بيانه أيضاً أن «جوهر الأزمة التي يعانيها العراق نابعة من تفشي الفساد وتأثيره المباشر في عرقلة الإصلاح المنشود، التي طالت العملية الانتخابية أيضاً في مؤشرات التزوير والتلاعب بالنتائج»، وقال إن هذه العرقلة أدت إلى «غياب ثقة المواطن والعزوف عن الانتخابات».
ومن جانبه، رأى الرئيس الأسبق للدائرة الانتخابية في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات مقداد الشريفي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه «يوجد تنافس قوي بين رئاسة الوزراء والبرلمان بشأن الانتخابات»، إذ إن الكاظمي مُحرَج من القوى السياسية التي تطالبه بإجرائها، بينما الكتل التي تمثلها في البرلمان لا تمرر القانون داخله، «وهذا هو الإشكال الذي يعاني منه رئيس الوزراء».
وأضاف الشريفي أن «إجراء الانتخابات خلال يونيو 2021 أمر صعب جداً، على مستوى الناخبين الذين يرومون التصويت، وذلك بسبب حرارة الجو وعدم وجود إمكانية لتحسن الكهرباء خلال تلك الفترة، وبالتالي يبدو لي أن تحديد هذا الموعد جاء من أجل الضغط لتمرير القانون، وليس لغرض إجرائها في مثل هذا الوقت كتاريخ فعلي لإجرائها».
وبشأن مفوضية الانتخابات التي يقع عليها عبء تنظيم عملية التصويت، قال الشريفي إن «وضع المفوضية ما زال صعباً، لأنه لم تُستكمل بعد المستلزمات المطلوبة لإجراء انتخابات. وبالتالي سيكون صعباً عليها تنظيمها في مثل هذا التاريخ».
هذا، ومع أن العديد من القوى السياسية أعلنت تأييدها لإجراء الانتخابات، فإن تحالف «عراقيون» بزعامة عمار الحكيم، وائتلاف «النصر» بزعامة حيدر العبادي هما الأكثر تأييداً لدعوة الكاظمي. وحول ما إذا كانت الخارطة السياسية ستتغير بعد الانتخابات المقبلة، صرّح الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي في العراق»، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، بأن «الحركة الاحتجاجية أسقطت معادلة الأحزاب الإسلامية كحكومة تنفيذية في أكتوبر الماضي، وما تبعتها من مؤشرات استياء كبيرة حيال أداء ونفوذ هذه الأحزاب الإسلامية، مع أن هذه الأحزاب لاتزال قابضة على مفاصل الدولة». وبيّن الشمري أنه «سواء كانت الانتخابات مبكرة أو أبكر... أو حتى لو كانت ضمن مددها الدستورية، فإن ذلك يُبقِي عملية توظيف الدولة من قبل هذه الأحزاب أمراً وارداً، وقد يتحكم بشكل كبير بالمشهد السياسي العراقي». وتابع أن «هذه الأحزاب ستعمل على إيجاد قانون انتخابي يؤمن نسبة حضورها في المشهد السياسي المقبل، كما أنها ستعتمد على مسار (أحزاب الظل)... أي أنها تظهر بكيانات رديفة تمثل لها مساحة أو الالتفاف للحصول على أصوات الناخبين». وأوضح الشمري أنه «مع ذلك، تزايد الوعي الجماهيري سيكون له مساحة كبيرة، لا سيما في حال تبلور مشروع بديل سواء عبر الحركة الاحتجاجية أو ما يمكن أن يفرزه هذا الوعي، ولكن دون أن نتفاءل كثيراً بإمكانية إحداث تغيير جذري كامل». ثم أكد أن «الفرز سيكون واضحاً من حيث المشاريع، لكنها لن تكون متقاربة، وإن كانت ستشكل حضوراً لافتاً في الانتخابات المقبلة».
أخيراً، مع كل ما يمكن قوله بشأن المواعيد المقترحة للانتخابات، سواء تلك التي حددها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أو بعض الكتل السياسية التي حددت موعداً أبكر، فإن الانتخابات المقبلة مفصلية في الحياة السياسية في العراق. وتالياً، ستمثل إحراجاً للجميع ممن يسعون إلى المحافظة على أوزانهم أو أولئك الذين لم يستعدوا بما فيه الكفاية.