«اليسار القومي» المستلب من «الإسلام السياسي» قصة ملخصها عزمي بشارة

قراءة في الجذور التاريخية للتلاقح السياسي بين اليساريين والإسلاميين

«اليسار القومي» المستلب من «الإسلام السياسي» قصة ملخصها عزمي بشارة
TT

«اليسار القومي» المستلب من «الإسلام السياسي» قصة ملخصها عزمي بشارة

«اليسار القومي» المستلب من «الإسلام السياسي» قصة ملخصها عزمي بشارة

في كتابه الصادر عام 2003 عن دار الكنوز الأدبية، بعنوان «التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي»، يورد عبد النبي العكري بعض تفاصيل مقابلة خاصة أجراها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1985 مع أحد قياديي حزب العمل الاشتراكي العربي في الجزيرة العربية، الذي هو الفرع السعودي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الدكتور جورج حبش، ومن تلك التفاصيل، موقف الحزب من أحداث شهر نوفمبر 1979 التي تمثلت في اقتحام جهيمان وجماعته المسلحة الحرم المكي واحتلاله، وفي الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة القطيف وقراها.

* يقول قيادي حزب العمل: «إن الحزب هو تنظيم سري.. فإننا لا نستطيع الكشف عن نضالات الحزب وإسهاماته في النضال الوطني. لكن مجرى الصراع الساخن في السعودية وخصوصا أثناء انتفاضة الحرم المكي والمنطقة الشرقية في مطلع السنة الهجرية 1400 (نوفمبر 1979) قد دفع بقواعد الحزب إلى الشارع، حيث شارك التيار الإسلامي الشيعي بقيادة منظمة الثورة الإسلامية لتحرير الجزيرة العربية، وفي ذات الوقت أبدى الحزب تعاطفه الشديد مع حركة السلفيين بقيادة (الشهيد) جهيمان العتيبي، وأشاد بهما علنيا».
هذا القيادي الذي اقتبس عبد النبي العكري كلامه، لا يعبر عن موقف شخصي، بل يعبر عن موقف الحزب الرسمي، إذ يتطابق كلامه مع الموقف الرسمي للحزب، وهذا ما استخلصه عبد النبي العكري من دراسته لوثائق الحزب التي اطَّلع عليها، مثل تقرير أصدره الحزب تحت عنوان «الوضع الطبقي في الجزيرة العربية» يوليو (تموز) 1982، وتقرير «النفط والمجتمع في الجزيرة العربية» 1985، وأعداد من مجلة «الهدف»، ومجلة «طريق الثورة»، ونشرة الحزب الرسمية «المسيرة»، ومجلة «الجزيرة الحرة»، حيث كتب عبد النبي العكري في الصفحتين 217 - 218 من كتابه سابق الذكر: «يشدد الحزب على ضرورة العمل الجبهوي للقوى الوطنية في السعودية، وقد كرس لذلك أكثر من مقال في (المسيرة) و(الجزيرة الحرة) والكتيبات الأخرى والعديد من البيانات. ولقد اكتسبت هذه القضية أهمية استثنائية في ضوء تجربة انتفاضتي الحرم والمنطقة الشرقية في محرم 1400هـ (نوفمبر 1979) والتي لعبت فيها القوى الإسلامية (الشيعية والسلفية) الدور القيادي وشاركت فيها القوى السياسية المعارضة الأخرى وبالتحديد حزب العمل والحزب الشيوعي دون اتفاق سابق. إن هذا التلاحم في الشارع والتجاور في السجون، شكلا دافعا لتقارب المنظمات الثلاث (منظمة الثورة الإسلامية وحزب العمل والحزب الشيوعي) ونشّطا الحوار بين هذه الفصائل وحفزا طرح قضية التحالف كقضية ملحة، وعلى هذا الأساس ركزت الفصائل الثلاث على هذه القضية في أدبياتها وبياناتها ومواقفها».
هذه ليست قضية يتيمة جرت أحداثها على الساحة المحلية السعودية بشكلٍ منفصل عن السياق العام لعلاقة بعض - وأشدد هنا على كلمة بعض - كتل اليسار واليسار القومي العربي بالإسلام السياسي، فالسعي الحثيث لتحالف يساري قومي - إسلامي قد تجلى في المؤتمر القومي - الإسلامي الثاني الذي نظمه مركز دراسات الوحدة العربية عام 1997 في بيروت وقدم خلاله مفكرون وباحثون قوميون واشتراكيون اقتراحات تدفع باتجاه بناء مشروع سياسي قومي عربي - إسلامي عن طريق تعريب وعقلنة الإسلام السياسي، والتنازل عن شرط علمانية الدولة في الوعي السياسي القومي العربي.
هذه المحاولة وغيرها من المحاولات ذات نفس المنحى، لم يكتب لها حظ من النجاح بسبب طبيعة علمانية المشروع القومي بيمينه ويساره. هذه العلمانية تختلف جذريا إلى درجة التصادم مع الطبيعة الثيوقراطية لطموحات فصائل الإسلام السياسي. ففي بداية ستينات القرن العشرين صدر كتيب عن الجماعة الإسلامية في لبنان بعنوان «من مبادئ وأهداف الجماعة الإسلامية»، جاء في الكتيب رأي الجماعة في اليسار في شكله الشيوعي حرفيا: «من أخطر الاتجاهات التي تهدد عقيدة الأمة وأخلاقها بالفناء والدمار».
ذات الكتيب لم يتحدث مطلقا عن النظام الرأسمالي ومخاطره، رغم أن الجماعة الإسلامية في لبنان قدمت نفسها ضمن الأطر التقدمية من خلال قولها بالوحدة العربية، ودفاعها عن غير المسلمين في البلاد العربية، وخطابها المعادي، دون مواربة، للطائفية. تتراجع الجماعة الإسلامية في لبنان عن أفكارها الودودة تجاه العرب والعروبة، من خلال خطابها الإسلامي الأممي الذي ظهر جليا في نشرة توجيهية بعنوان «هذا هو الطريق»، صدرت بين عامي 1965 و1966 وهذا التحول، من القومية، إلى الأممية الإسلامية، جاء نتيجة انفتاح الجماعة على تنظيرات الندوي، والمودودي، وسيد قطب، والموصلة لقناعة «جاهلية المجتمع»، و«حاكمية الله».
رغم العداء المستحكم بين الإخوان المسلمين وحزب التحرير، فإن موقف الجماعتين من التيارات القومية واليسارية، يتشابه؛ فحسب مؤسس حزب التحرير الشيخ تقي الدين النبهاني، وكما جاء في كتابه «نظام الإسلام»: «إن الرابطة الوطنية رابطة فاسدة، وكذلك الرابطة القومية، إذ إن هذه الروابط تنشأ عن العاطفة وغريزة البقاء».
يرى حزب التحرير أن المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون، هي مجتمعات غير إسلامية، لكنه لا يرى أنها مجتمعات جاهلية أو دار كفر بشكل مباشر؛ ولحزب التحرير وأفكاره تأثير واضح في صوغ موقف الوجدان العربي - الإسلامي من تجربة تركيا الكمالية، خصوصا وأن حزب التحرير جعل من قضية الخلافة حجر الأساس لمشروعه السياسي.
هذا في الجانب السني من الإسلام السياسي. نجد في الجانب الشيعي تجربة السيد موسى الصدر الذي جاء إلى لبنان عام 1959م بتشجيع من أستاذه السيد محسن الحكيم، وقد كان الهدف الرئيسي وراء انتقاله إلى لبنان، إيجاد أُطر تنظيمية جامعة لأبناء الطائفة الشيعية الذين كانوا متوزعين ومتفرقين، على الأحزاب القومية، واليسارية، والقوى السياسية التقليدية، فضلا عن التنظيمات الفلسطينية، وولد نتيجة الجهود التي بذلها السيد موسى الصدر (المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) في 18 مايو (أيار) 1969 وهذا المجلس هو الهيئة الأب لحركة المحرومين، التي انطلقت عام 1973، والتي أنشأت ذراعها العسكرية (حركة أمل)، وكانت (حركة فتح) الفلسطينية أول من أمدّ (حركة أمل) بالسلاح. استمرت العلاقة الطيبة بين حركتي فتح وأمل، حتى عملية الليطاني عام 1978، حيث نشب الخلاف بين الحركتين إثر نجاح إسرائيل بتطبيق معاقبة البيئة الحاضنة عوضا عن استهداف القواعد العسكرية. منذ ذلك الحين، تبلور الشكل النهائي لحركة أمل كفصيل سياسي مسلح ذي هوية طائفية محددة الملامح، مثله في ذلك، الفصائل اليمينية المسيحية اللبنانية كحزب الكتائب، والأحرار، وتيار المردة.
يقودنا البحث عن الأصل النظري للإسلام السياسي الحديث إلى فكرة «الجامعة الإسلامية» التي وضع أساسها السلطان عبد الحميد الذي كان نُصْب عينيه عدوه العلماني الأقدر والأكثر نفوذا وتأثيرا داخل السلطنة، والقصد جماعة «تركيا الفتاة» ثم «الاتحاد والترقي» اللتان شكلتا القومية التركية «الطورانية» الرافعة الرئيسية لأفكارهما، بالتوالي.
نظم التيار الطوراني حملة تتريك شرسة على الولايات العربية، وحاول السلطان عبد الحميد الحد من النفوذ المتزايد للقوميين الطورانيين من خلال فكرة «الجامعة الإسلامية» التي أراد من خلال تسويقها، تكريس منصب الخلافة رمزا للدولة الإسلامية.
راجت فكرة «الجامعة الإسلامية» عند المواطنين العثمانيين من غير الأتراك، أكثر من رواجها في أوساط الأتراك، لأن فكرة «الجامعة الإسلامية» كانت محاولة بناء سد مانع لانهيار الإمبراطورية العثمانية، التي رأى القوميون الطورانيون علاماته واضحة، فعملوا على إعادة صياغة المفهوم الإمبراطوري على أسس قومية علمانية متأثرة كثيرا بالتجربة البروسية والمنهج البسماركي.
انخرط عدد من منتسبي النخبة العربية في تجربة جماعة «تركيا الفتاة»، ومن ثم جماعة «الاتحاد والترقي»، وانسحبوا من التجربة بعد اكتشافهم العمق العنصري في الأسس الفكرية للتيار الطوراني. من هنا، يحاول الخطاب القومي العربي أن يُعمّي على الأثر البسماركي والأثر الطوراني في جذوره، بل يحاول أن يمرر اقتران العروبية بالإسلام كمناهض للتتريك المعلمن، وهذه مراوغة كلامية تحتاج إلى مراجعة دقيقة لإبطالها؛ فآباء العروبية الأوائل كانوا غير متدينين، بل إن بعضهم كان ملحدا، كما أن من أشياخهم البارزين من لم يكن مسلما أصلا.
صراع السلطان عبد الحميد وأنصاره من الملتفين حول فكرة «الجامعة الإسلامية»، أو كما عرفوا حينئذ «الحزب الحميدي»، من جهة، والقوميين الطورانيين بكل ما اكتسبوه من قوة وتأثير داخل السلطنة، من جهة أخرى، جعل من مسيحيي مدن بلاد الشام، جماعة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ولهذا، كانوا روادا في تأسيس فكرة العروبية.
المراوغة الكلامية التي يمارسها الخطاب العروبي تتجلى حاليا في نموذج الدكتور عزمي بشارة. بدأ عزمي بشارة نشاطه السياسي عام 1974، وهو لا يزال على مقاعد الدراسة قبل الجامعية في المدرسة المعمدانية، حيث أسس وترأس «اللجنة الوطنية للطلبة العرب الثانويين»؛ كان عزمي بشارة وقتذاك تحت تأثير بيئته المنزلية، إذ كان والده يعمل مفتشا صحيا، وناشطا نقابيا على صلة بالحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح).
استمر نشاط عزمي بشارة السياسي في مرحلة دراسته الجامعية في جامعة حيفا، والجامعة العبرية في القدس، وكان بشارة وقتها يحمل عضوية الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح)، وحاملا لفكرة الأممية - الماركسية، ومدافعا صلبا عنها.
في تلك الفترة، لعب دورا فعالا في تأسيس «لجنة الطلبة العرب» في الجامعة العبرية. رفضت اللجنة المركزية للانتخابات في إسرائيل طلب عزمي بشارة للترشح لعضوية الكنيست عام 2003، ووجهت له تهمة عدم الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وإشادته بكيانات معادية.
دافع بشارة عن نفسه، مقابل التهم، بقوله «إنه لم ولن يدعو الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل إلى خوض كفاح مسلح، وإنه لم ولن يدعم قط، الأنشطة العنفية».
ردت المحكمة العليا في إسرائيل الدعوة المرفوعة ضد عزمي بشارة بموجب هذه التهم، وأعادت له حق الترشح، فخاض الانتخابات، وفاز بمقعد في الكنيست عن حزب البلد الذي أسسه مع آخرين عام 1995م، والذي يصف نفسه بأنه: «الحزب القومي التقدمي الديمقراطي لمواطني إسرائيل من الفلسطينيين». تتلخص آيديولوجيا الحزب كالتالي:
* النضال لتحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها، بغض النظر عن هويتهم الإثنية.
* معارضة فكرة يهودية دولة إسرائيل.
* النضال من أجل إعادة صياغة إسرائيل كدولة ثنائية القومية.
* الضغط على دولة إسرائيل لنزع اعترافها بالفلسطينيين العرب «أقلية قومية» لها حق التمتع بكافة الحقوق التي تترتب على هذا الاعتراف، بما فيها التعليم، والثقافة، والإعلام.
* يؤيد الحزب حل الدولتين على أساس حدود قبل الرابع من يونيو (حزيران) 1967م، مع الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية.
* يعمل الحزب على تطبيق القرار رقم 194 القاضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
يتضح من مفردات الهوية الآيديولوجية لحزب البلد، أن عزمي بشارة تحول لناشط إصلاحي - سياسي إسرائيلي، وهذا توجه منسجم مع التوجه العام لليسار الجديد في إسرائيل، بل إن عزمي بشارة كان قد تقدم للمنافسة على منصب رئيس الحكومة عام 1999م، وهو أول عربي في إسرائيل يقدم على مثل هذه الخطوة، ثم انسحب قبل يومين من موعد الانتخابات مخليا بذلك الساحة للمتنافسيْن الآخريْن، بنيامين نتنياهو وإيهود باراك.
تحولت علاقة عزمي بشارة مع السلطات الإسرائيلية بشكل دراماتيكي بُعَيْد حرب يونيو عام 2006م. قام عزمي بشارة في ذلك العام بزيارة لبنان وسوريا. وأشاد بحزب الله وبالرئيس بشار الأسد؛ استدعته الشرطة الإسرائيلية وحققت معه في تهم في غاية الخطورة، منها، إعطاء معلومات عن الجيش الإسرائيلي لكيان معادٍ أثناء فترة الحرب، وتلقي أموال مقابل ذلك، والتخابر مع جهات عدوة، وغسل أموال لصالح أنشطة إرهابية. غادر عزمي بشارة إسرائيل عام 2007م مصرحا أنه سيغيب لفترة أيام، وسيعود لحضور جولة جديدة من التحقيقات. لم يعد عزمي بشارة إلى إسرائيل، بل قدم استقالته من عضوية الكنيست إلى السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وظهر في قطر. وردت معلومات غزيرة، من جهات مختلفة، تفيد بأن عزمي بشارة قدم استشارات لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وأنه كان أحد العقول التي صاغت «التحالف الوطني»، وذلك بتكليف من أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. عزمي بشارة، ذلك اليساري العتيق ذو الجذر الرومي الكاثوليكي، الذي تحول لناشط إصلاحي - سياسي إسرائيلي، واصل تحولاته، فأصبح مدافعا جهوري الصوت عن الإسلام السياسي في تجليه الإخواني، مع مزج خطابي مراوغ بين العروبية والإسلام!
يؤكد عزمي بشارة، منذ قدومه إلى قطر، على صورته كأب روحي لتيار العروبية الجديدة، من خلال مشاريعه الفكرية، والإعلامية، وحضوره الإعلامي الكثيف، وغزارة إنتاجه الكتابي. تصب جهوده هذه في اتجاه داعم لموجة ما عرف بـ«الربيع العربي»، ومنها مقال طويل لعزمي بشارة نُشِرَ في جريدة «المُدُن الإلكترونية» يوم 3 سبتمبر (أيلول) 2013 تحت عنوان «مصر: الثورة ضد الثورة»، جادل فيه، ببلاغة، عن حق الرئيس الإخواني المخلوع محمد مرسي في إكمال مدته الدستورية، وندد بعدم شرعية خلعه، وحاول تفنيد مقولة «شرعية الشارع» التي ظهرت للوجود نتيجة الحشد الشعبي الهائل في 30 يونيو 2013م. يجادل بشارة بالقول إن هذه الحشود كانت مجرد غطاء لانقلاب 3 يوليو 2013م، وبأنها تحدٍ لـ«شرعية الشعب»، وبأنها صيغة فاشية نجحت الثورة المضادة في تشكيلها بالتعاون مع أجهزة الدولة العميقة، منكرا، لكن بمواربة فيها الكثير من الحذلقة، على الشعب المصري حقه في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي؛ حجته في ذلك أن الرئيس مرسي جاء عن طريق الصندوق، وعن طريق الصندوق، فقط، يكون خلعه شرعيا. أظهر عزمي بشارة، في مقاله المذكور، قدرة عالية على المراوغة الكلامية لا أظن أن كوادر حركة الإخوان تقدر على الإتيان بمثلها.
يتدثر عزمي بشارة بلحاف الحقوق أثناء دفاعه البليغ عن الإخوان، ولا يتوقف عند المفترق الخطير الذي يتبين عنده أن المشروع الوجودي للإخوان هو «الدولة الدينية» التي هي مشروع يلغي ما اشتغل عليه، وانشغل به، عزمي بشارة طيلة عقود، أقصد «الدولة المدنية الديمقراطية». عزمي بشارة ليس حالة منقطعة عن السياق، فتموضعه السياسي الذي أخذ شكله الحالي منذ خروجه من إسرائيل، واستقراره في قطر عام 2007م، لا يختلف كثيرا عن الموقف الذي شرحه عبد النبي العكري عبر اقتباسه كلاما قاله له قيادي في حزب العمل عام 1985م، وتطابق مع الموقف الذي استخلصه عبد النبي العكري، أيضا، من دراسته لوثائق حزب العمل الاشتراكي العربي في الجزيرة العربية. هل يبرر العداء للأنظمة الحاكمة، التحالف مع جماعات سياسية دينية تعمل على مشروع يلغي كل مخالف، ويلغي المعنى المدني للدولة، أي دولة؟!

* باحث سعودي متخصص
في الحركات اليسارية



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.


«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».


ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.