وأنا أقرأ نعي الكاتبة العراقية لطفية الدليمي له، سقطت دمعتان كبيرتان سقطتا على يدي المتشابكتين أمام جهاز اللابتوب. إنه د. نجم عبد الله كاظم صاحب كتاب الرواية في العراق 1965 – 1980 وتأثير الرواية الأميركية فيها الذي كنت أراه في كل أقسام مكتبة كلية الآداب – الكوفة، في قسم الفلسفة، كما في قسم اللغة العربية، أو في كتب قسم التاريخ، أو قسم علم النفس. اللقاء الثاني كان في غرفة عبد الإله أحمد وبحضور صديقه العائد للعراق، بعد منفى طويل، الدكتور محمد حسين الأعرجي. وكان الحديث وقتها عن كتاب السكوت المصري الخاص بالفهرست الشامل للرواية العربية. ثم شاء الموت أن يخطف أستاذي عبد الإله أحمد فيختار القسم لي نجم عبد الله كاظم مشرفا جديدا وتبدأ رحلتي مع أنبل أستاذ عرفته في حياتي، بعد رحيل عبد الإله أحمد.
كانت البلاد وقتها تحطمها حرب أهلية، وكانت بغداد جبهة القتال الأهم، وكان مشهد الجثث مقطعة الأوصال قد صار جزءا أصيلا من يوميات العاصمة المنكوبة، في ذلك الزمن العصيب قرر نجم عبد الله كاظم أن يعود إلى بلاده، بعد اغتراب سنوات وسنوات. كان بإمكانه أن يظل بعيدا عن مشهد البلاد المذبوحة أستاذا في جامعات الخليج أو الأردن. ولكن هيهات، حمل حقيبته وعاد لبغداد.
عاش نجم عبد الله كاظم حياة استثنائية صنعها باحتراف عالٍ ومثابرة يُحسد عليها كثيرا. ولد في بهرز «ناحية تتبع ديالى» عام 1951. أكمل دراسته هناك، ثم التحق بكلية الآداب – جامعة بغداد، وتخرج في قسم اللغة العربية عندما كان القسم عامرا بأفضل الأساتذة، لا سيما أكثرهم تأثيرا على منجزه النقدي الراحلان علي جواد الطاهر وعبد الإله أحمد، فكان للأخير تأثير واضح في تتبع مسار التوثيق للرواية العراقية. بدأ الراحل حياته موظفا في وزارة الثقافة، ثم التحق ببعثة دراسية في جامعة إكسترا البريطانية لإكمال دراسة الدكتوراه في تخصص الأدب المقارن، عاد بعدها لبلاده وتحول إلى التدريس في كلية الآداب – بغداد. كان كتابه الصغير المنشور عام 1986 بعنوانه المتصل بالفضاء الثقافي للثمانينيات في العراق والعالم العربي (التجربة الروائية في العراق في نصف قرن بغداد/ 1986) بداية موفقة وإعلانا مبكرا عن ناقد يمتلك أدواته النقدية، مع أن الراحل كان قد نشر في نهاية السبعينيات بعض المقالات المهمة. هذا الإعلان المبكر عززه، بعد عام واحد، صدور كتابه المعروف (الرواية في العراق 1965 –1980). وهو الترجمة الحرفية لأطروحته في جامعة إكسترا. ثم شاءت ظروف العراق، في عزلة دولية وحصار خانق، أن يغادر الراحل بلاده ويلتحق بالعمل في جامعات عربية ليبية وأردنية وعمانية، فكانت ثمرة تلك الرحلة ثلاثة كتب (في الأدب المقارن – مقدمات للتطبيق: عمان 2001) و(فهرست أدب الحرب القصصي ونقده في العراق 1980 – 1988: بغداد 2003)، و(مشكلة الحوار في الرواية العربية – دراسة: الإمارات العربية المتحدة 2004. فاز الكتاب بجائزة راشد بن حميد للثقافة والعلوم). لكن نجم عبد الله كاظم كان على موعد جديد مع تخصصه الأصل الأدب المقارن، فاتخذ من موضوعه الآخر مجالا رئيسيا لسلسلة بحوث وكتب ممتازة بدأها بكتابه (الرواية العربية المعاصرة والآخر – عمان 2007)، و(الآخر في الشعر العربي الحديث: تمثل وتوظيف وتأثير. بيروت 2010)، و(نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة. بيروت. فاز بجائزة الإبداع العربي لمؤسسة الفكر العربي، لبنان).
كتب متعددة في مختلف مجالات الأدب والنقد والثقافة عامة، عن رواية الفتيان مثلا (فاز بجائزة خليفة التربوية – الإمارات)، أو كتابه الممتع (هومسيك... الوطن في غبار المبدعين. بيروت 2011)، أو في مجال الكتابة الإبداعية، فكانت روايته الوحيدة (دروب وحشية – بغداد 2007) أو في مجال عمله الأول الجامعة، فكان كتابه (التعليم العالي في العراق إلى أين؟ بغداد 2016)، ممتلئا بالنصح والغضب لما وصل له حال الجامعات العراقية بعد عام 2003. وفي الحقيقة تستقر أمامي كتبه مشكلة ما يشبه العمود المرتفع صوب السقف، بالضبط مثل روحه الوثابة المحبة للمعرفة والخير، ليس آخرها كتابه القيم فهرست الرواية العراقية (1919 – 2014) الذي عاش بأمل أن يصدر طبعة موسعة عنها عام 2020.
عام 2007 كتبت مقالة عن رحيل أستاذي عبد الإله أحمد، نشرتها آنذاك جريدة عربية معروفة. كتبت المقالة ثم بحثت عن عنوان لها فلم أجد في رأسي عنوانا يليق بها، حتى كتب لي صديق: عنوان المقال: عبد الإله أحمد... فهرست لقصة أخيرة. بعد ثلاثة عشر عاما يتكرر الحدث ذاته، فأشهد رحيل أستاذي الثاني وأستعيد المشهد برمته بما فيه عنوانه: الفهرست الأخير. مات عبد الإله أحمد وحيدا إلا من يأسه وخذلان الناس له، فيما مات نجم عبد الله كاظم محاطا بالحب المستحق. بعد يوم من رحيله، فتحت هاتفي المحمول وقررت أن أتصل به، كان في نفسي أمل كبير أن يرد علي بصوته المرحب المهلل، لكن هيهات كانت زوجته الكاتبة ميسلون هادي في الطرف الآخر، فتبخر كل الكلام، كل الجمل التي رتبتها وأنا أقلب الجهاز، ظل بكائي وبكاؤها هو الكلام الأخير.
- كاتب من العراق
نجم عبد الله كاظم يكتب فهرسه الأخير
في وداع المعلم الذي عاد لبلاده في الزمن العصيب
نجم عبد الله كاظم يكتب فهرسه الأخير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة