هل نلغي أرسطو؟

دافع عن العبودية وعارض فكرة المساواة الإنسانية لكنه ليس عدواً

هل نلغي أرسطو؟
TT

هل نلغي أرسطو؟

هل نلغي أرسطو؟

لم يكتفِ الفيلسوف اليوناني أرسطو بإجازة العبودية، وإنما دافع عنها؛ ولم يكتفِ بالدفاع عنها، وإنما دافع عنها من حيث هي مفيدة للعبد. رأيه كان أن بعض الناس بطبيعتهم عاجزون عن تحقيق ما هو في صالحهم، وأكثر صلاحية لأن «يعيشوا كأدوات» يستفيد منها الآخرون: «العبد جزء من سيده، جزء حي ولكنه منفصل عن هيئته الجسدية».
موقف أرسطو المناهض لليبرالية لا يتوقف عند ذلك الحد. كان يعتقد أن النساء غير قادرات على اتخاذ القرارات السلطوية. وقرر أن العمال اليدويين، على الرغم من كونهم عبيداً وليسوا نساءً، كانوا مع ذلك محرومين من حق المواطنة أو التعليم في مدينته المثالية.
ولم يكن أرسطو بالطبع وحيداً في هذا: كانط وهيوم تبنيا آراء عنصرية، فريج عبر عن آراء معادية للسامية، وفتغنشتاين كان متبنياً على نحو صريح للتحيز الجنسي. هل ينبغي للقراء أن يضعوا جانباً أو يتجاهلوا ملاحظات كهذه، مركزين انتباههم على الأفكار القيمة الموجودة في أماكن أخرى من أعمالهم؟
استراتيجية الانتقاء هذه قد تنجح في حالة كانط، وهيوم، وفريج وفتغنشتاين، على أساس أن جوهر مساهماتهم الفلسفية لا علاقة لها بالتحيز، ولكني لا أعتقد أن ذلك ينطبق على أرسطو: موقفه الرافض للمساواة بالغ التجذر.
اعتقد أرسطو أن قيمة أو أهمية الإنسان - أي فضيلته - كانت شيئاً اكتسبه بنموه. ويعني ذلك أن الناس الذين لا يستطيعون امتلاك تلك الفضيلة (النساء والعبيد) أو ببساطة لا يفعلون ذلك (العمال اليدويون) لا يحق لهم أن يطالبوا باحترام مساوٍ أو بأن يُعترف بهم مع أولئك الذين يفعلون.
حسب قراءتي لأرسطو، لم يتوقف الأمر عند عدم إيمانه بمفهوم الكرامة الإنسانية الأصيلة التي يقوم عليها التزامنا بحقوق الإنسان؛ كانت له فلسفة لا تستطيع التوافق مع تلك الكرامة. رفض أرسطو للمساواة أقل شبهاً بعنصرية كانط وهيوم وأقرب إلى آراء ديكارت حول الحيوانات اللإنسانية: حقيقة أن ديكارت يصف الحيوانات اللإنسانية على أنها آلات بلا روح ناتج مباشرة عن ازدواجيته العقلانية. تعليقاته على الحيوانات لا يمكن أن يُنظر إليها على أنها «ملاحظات خارجة عن المعتاد».
إذا كان الإلغاء يعني الإزالة من مكانة مميزة على أساس من جريمة آيديولوجية، قد يبدو أن ثمة حجة يمكن أن تبنى لإلغاء أرسطو. هو على قدر عالٍ من التميز: بعد آلاف السنين من موته، لا تزال أعماله الأخلاقية تدرّس بوصفها جزءاً من المنهج الأساسي في الفلسفة التي تقدمها الكليات والجامعات حول العالم.
كان خطأ أرسطو كبيراً بما يكفي لأن يكون وضعه سيئاً عند المقارنة بالعديد من «الأشخاص السيئين» عبر التاريخ ممن سعوا إلى تبرير استثناء مجموعات معينة - النساء، السود، اليهود، المثليين، الملحدين - من الحماية تحت مظلة الكرامة الإنسانية. ذلك أن أرسطو مضى إلى حد الاعتقاد بأن مظلة كتلك غير موجودة.
ومع ذلك، فإني أدافع عن أرسطو ومكانته في منهج التدريس الفلسفي بالإشارة إلى الفوائد المتأتية من الحوار معه. إنه سيساعدنا في تحديد الأسس التي يقوم عليها التزامنا بالمساواة؛ ونظامه الأخلاقي قد يمسك ببعض الحقائق - مثلاً، أهمية السعي نحو أعلى مراتب التميز - التي ما زلنا بحاجة إلى دمجها في نظامنا نحن.
وأريد المضي خطوة أخرى وأقدم حجة أقوى بحق أرسطو. ذلك أن الأمر لا يتعلق فقط بكون الفوائد المتأتية من قراءة أرسطو تعادل ثمنها، وإنما أنه لا يوجد ثمن. ليس لدينا في الحقيقة سبب يبرر إلغاء أرسطو. أرسطو ببساطة ليس عدونا.
أنا، مثل أرسطو، فيلسوفة، وعلينا نحن الفلاسفة أن نواجه احتمال أن يحدث خلاف حاد حول أكثر القضايا أساسية. لدى الفلاسفة مثل أعلى يتمسكون به هو السعي إلى عدم التعامل مع مُحاوِرنا على أنه عدو محارب. لكن إذا عبر أحد عن آراء تناقض حسن الأخلاق بشكل مباشر، فكيف يمكن تفادي العداء؟ الإجابة هي أن نأخذ ما يقول حرفياً - أي أن نقرأ كلماته بوصفها ليست أكثر من وسائل تعبر عن معتقداته.
هناك نوع من الكلام من الخطأ أن يؤخذ حرفياً، لأن مهمته نوع من الرسالة (مسج). الإعلان والخطابة السياسية مثالان على ذلك النوع من الرسائل (التي تحمل دلالات ضمنية)، كما هو كثير مما يقع تحت اسم «اتخاذ موقف»، مثل المقاطعة، والاحتجاج والاعتذار العلني.
كلمات كهذه موجودة لتؤدي غرضاً يتجاوز الاتصال؛ في إرسال الكلام هناك دائماً هدف غير البحث عن الحقيقة. إحدى الطرق لتحويل الكلام الحرفي إلى رسائل هي ربطه بقائمة من الأسماء: الالتماس أحد الأمثلة للكلام غير الحرفي، لأن كثرة من يعتقدون بشيء لا يجعله أقرب إلى الحقيقة.
في حين أن الكلام الحرفي يوظِّف بطريقة منظمة وسائلَ إقناع موجهة نحو الحقيقة - حججاً وأدلة - يمارس الإرسال نوعاً من الضغط غير الحرفي على المتلقي. مثلاً، الاعتذار العلني يستطيع في الغالب أن يشكل ضغطاً اجتماعياً على الجهة المظلومة لكي تتسامح. الإرسال يموضَع غالباً ضمن نوع من صراع القوى. في جو مشحون سياسياً ينجذب المزيد والمزيد من الكلام نحو الإرسال؛ من الصعب أن يقول أحد شيئاً دون أن يثير الشكوك بأنه يقوم بحركة ضمن اللعبة، حركة قد تستدعي حركة مضادة.
كلمات مثل «حياة السود مهمة» و«كل الحيوات مهمة» أُدخلت في صراع القوى السياسي لدينا على نحو يمنع أي شخص يألف ذلك الصراع من استعمالها أو سماعها بشكل حرفي. لكن لو أن غريباً من الفضاء، لا يألف هذا السياق، جاءنا وقال أيّاً من تلكما العبارتين، فسيكون من الصعب تخيل أن يُرى في ذلك ما يستوجب الاعتراض؛ السياق الذي نستخدم فيه تلك العبارات سيزول.
في الحقيقة، يمكنني أن أتخيل الظروف التي يمكن للغريب أن يقول فيها النساء أقل من الرجال دون أن يثير شعوراً بالإهانة لدينا. لنفترض أن هذا الغريب لم يكن له «جندر» في كوكبه واستنتج من ملاحظته لكوكبنا أن الأنثى في مرتبة دونية. طالما تحدث الغريب إليّ باحترام، فلن أكون راغبة فقط في سماعه وإنما سأكون أيضاً مستمتعة بمعرفة حجته.
أقرأ أرسطو كما لو كان ذلك «الغريب». كانت مقاربته للأخلاق إمبيريقية - أي أنها كانت مبنية على الملاحظة - وحين نظر حوله رأى عالماً من العبودية واضطهاد المرأة والعمل اليدوي، وهو وضع قام بدمجه ضمن نظريته الأخلاقية.
حين أقرأه أرى تلك النظرة إلى العالم - ذلك كل ما في الأمر. لا أقرأ هدفاً شريراً أو دوافع أخرى خلف كلماته؛ لا أؤولها بوصفها علامة على شخصية سيئة، أو على أنها تحاول الإيحاء برسالة خطيرة قد أحتاج إلى مقاومتها أو إسكاتها لكي أحمي الضعفاء. بالطبع بمعنى من المعاني يصعب تصور فكرة أكثر خطورة من التي عبر عنها أو حاجج من أجلها - لكن الخطورة، كما أرى، هي مسألة دلالة ضمنية أكثر منها محتوى حرفياً.
ما يجعل الكلام حراً فعلاً هو إمكانية الاختلاف دون عداء، وهذه مسألة علاقتها بكيف نقول، أقوى من علاقتها بما نقول. «ثقافة الإلغاء» هي مجرد توسع منطقي لما يمكن أن نسميه «ثقافة الإرسال» التي يصنف فيها كل فعل كلامي إما كصديق أو كعدو، حيث يصعب توصيل المضمون الحرفي، وحيث لا يوجد سوى القليل جداً من الثقة بالقدرات العقلانية للمخاطبين. في سياق كهذا حتى صرخة «حرية التعبير» تستعدي تفسيراً بعيداً عن الحرفية، أي أنها ليست سوى أكثر الطرق نجاعة لكي يكتسب المنادون بها قوة أو يجعلون قوتهم أكثر صلابة.
سأعترف بأن المسافة الزمنية الهائلة التي تفصلنا عن أرسطو تخلق سهولة مصطنعة للتعامل معه على أنه «غريب». أحد الأسباب التي تجذبني لدراسة الأخلاقيات القديمة هي بالضبط أنها تجعل من الصعب أن نشبك أولئك المؤلفين بصراعات القوى المعاصرة. عندما نلتفت إلى الخلافات حول قضايا أخلاقية معاصرة مشحونة بقوة، كالجدل حول «الهوية الجندرية»، فإننا نجد الارتياب، والتوقع بوجود نوايا أخرى، والالتماسات - العلامات الرئيسية على ثقافة المراسلة - حتى بين الفلاسفة.
إنني لا أدعي بأن إمكانية الاختلاف الودي مع أرسطو توفر ما يرشد بشكل مباشر إلى تحسين خلافاتنا الأكثر صعوبة مع معاصرينا، ولكني أجزم بأن أخذ حالة أرسطو في الاعتبار تكشف شيئاً عما يمكن أن تؤدي إليه التحسينات. ما نريده حين نريد حرية التعبير هو حرية الكلام بشكل حرفي.
- أستاذة الفلسفة بجامعة شيكاغو
والمقال منشور في مجلة «ذا ستون» 21 يوليو 2020



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.