السياحة والموضة... قطاعان يتداخل مصيرهما معاً

منذ أن انطلقت عروض الأزياء الخاصة بخط «الكروز» وهي تجوب بنا العالم بحثاً عن الشمس أينما أشرقت. فكما يدل اسمها، هي أزياء خاصة باليخوت والمنتجعات البحرية الفخمة. مع الوقت توسعت وجهاتها إلى عواصم لا علاقة لها بالبحر، لكن لا تقل إثارة مثل هافانا، وشانغهاي، ولوس أنجليس، وطوكيو، وريو دي جانيرو، وغيرها. كان هدفها، إلى جانب حثنا على الحلم بصيف دافئ في عز الشتاء، غزو أسواق جديدة. فاختيار هذه الوجهات لم يكن أبداً اعتباطاً أو بريئاً؛ فهي إما لتسبر أغوار زبائن جُدد أو تستبق افتتاح محل رئيسي. ثم جاء فيروس كورونا ليوقف كل هذا، ويجعل السفر من خلال هذه العروض مُعلقاً إلى وقت غير مسمى. أمر يؤكد الخبراء بأن له تبعات سلبية على قطاع السياحة أيضاً. فهذه العروض لم تكن تجلب الربح لبيوت الأزياء فحسب، بل أيضاً للبلد الذي تقام فيه. فإلى جانب انتعاش الفنادق والمطاعم ووسائل النقل لأيام عدة، فإن السياحة تستفيد على المدى البعيد؛ لأن الصور التي تتداولها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تفتح العيون على هذه الوجهات والنفس على زيارتها واكتشافها. ثم لا ننسى أن صناعة الترف هي الأخرى كانت تستفيد من القطاع السياحي. ففي موسم الإجازات تزيد حركة البيع، والسفر لدى شريحة مهمة من الآسيويين والشرقيين خصوصاً، ترتبط بالتسوق ارتباطاً وثيقاً. تبدأ المتعة في المطارات بشراء مستحضرات تجميل وحقائب يد ومجوهرات معفاة من الضرائب، وتنتهي في وجهته بشراء هدايا وتذكارات قيمة. في عام 2019، وحسب شركة «باين آند كومباني» المتخصصة في أبحاث السوق، فإن 40 في المائة من مبيعات المنتجات المترفة، تمت في موسم السفر.
أغلب هؤلاء كانوا من السياح الصينيين، الذين سجلت مشترياتهم نسبة 35 في المائة خارج الصين مقارنة بـ11 في المائة بداخله. الأمر كذلك بالنسبة للسياح العرب والروس الذين تمت أغلب مشترياتهم من أوروبا وأميركا.
الآن كل هذا انتهى. فصيف 2020 بارد أصاب مفاصل السياحة والموضة على حد سواء بالشلل. أُغلقت الكثير من المطارات، والخوف من عدم توفر التباعد الاجتماعي يردع الكثيرين عن مجرد التفكير في مغادرة مُدنهم؛ ما أدى إلى تراجع عدد المسافرين بأكثر من مليار مسافر هذا العام، حسب ما أعلنه قطاع السياحة العالمي. لهذا ليس غريباً أن تُقدر خسارة هذا القطاع، ولحد الآن بـ1.2 تريليون دولار، الأمر الذي يجعل 2020 الأسوأ على المستوى السياحي منذ عام 1950، حسب ما نشرته منظمة الأمم المتحدة العالمية للسياحة. الخبراء بدورهم لا ينكرون أنه قطاع معلق على جهاز إنعاش لا يتوقع تعافيه قبل عام 2022، بينما لن تعود مبيعات المطارات، التي كانت تشكل 6 في المائة من سوق الترف إلى سابق عهدها قبل 2025.
بالنسبة للمدمنين على سياحة التسوق وعلى متابعة عروض الأزياء الموسمية، فإن المتعة الوحيدة المتوافرة لديهم حالياً تقتصر على زيارة مواقع التسوق الإلكتروني. فقد أذعنت كل بيوت الأزياء لشراسة فيروس كورونا وألغت رحلاتها. «شانيل»، وبعد أن كانت ستتوجه بعرضها إلى شواطئ «كابري» اكتفت بعرض افتراضي، كذلك الأمر بالنسبة لـ«غوتشي» التي كانت ستقيمه في سان فرانسيسكو وغيرهما. «ديور» في المقابل، لم تر ضرورة لإلغاء سفرها إلى بوليا الواقعة جنوب إيطاليا، وتحديداً إلى مدينة ليتشي، واختارت حلاً وسطاً. قدمت عرضها لعام 2021 بكل ما يتطلبه من عناصر إبهار ومؤثرات، باستثناء تواجد ضيوف. الوحيدون الذين تابعوه كانوا من العاملين في الدار وبعض أهالي المدينة ممن تُطل «بلكونات» بيوتهم على ساحة العرض. إصرار ماريا غراتزيا على إقامته في إيطاليا كان مهماً بالنسبة لها لدعم الحرفيين والورشات العريقة، كما تقول «فهؤلاء يحتاجون إلى تسليط الضوء عليهم ودعمهم الآن أكثر من أي وقت مضى، وحتى تبقى تقاليدهم الحرفية وجمالياتها وما تثيره في النفوس من شاعرية ومشاعر لأجيال قادمة». لكن ما قامت به «ديور» كان أكثر من ذلك. فقد سلطت الضوء أيضاً على منطقة بوليا وجمال مدينة «ليتشي» التي لولا فيروس كورونا لكانت وجهة سياحية مهمة هذا الصيف.
بالنسبة لصناع الموضة، أصبح لزاماً عليهم البحث عن طرق جديدة للتعويض عما يبعثه السفر من سعادة وسخاء في الوقت ذاته.
المتفائلون يأملون أن تتغير هذه الصورة القاتمة بعد التوصل إلى لقاح ضد «كوفيد - 19» مع نهاية العام. فهذا سيبدد الخوف من النفوس ويعيد للسفر متعته، سواء تعلق الأمر باكتشاف أماكن بعيدة وثقافات جديدة، أو بالترويح على النفس بشراء كل غالٍ ونفيس. وإذا كان هذا رأي المتفائلين، فإن للمتشائمين رأياً آخر، وهو أن التوصل إلى لقاح فعال يعيد الثقة بالتنقل بحرية، لن يعالج الوضع السياحي بسهولة. فالسائح الصيني تحديداً يجب أن يشعر بالأمان خارج بلاده، أي بأنه سائح مرغوب فيه لا يُنظر إليه بنظرة شك أو ريبة على أنه ناقل للفيروسات. فإلى حين تتبدد هذه النظرة، سيفضّل البقاء في الصين. أمر يُدركه صناع الموضة، ممن بدأوا بالتفاعل مع هذا الزبون المهم في مسقط رأسه وفي عقر داره لتدارك خسارتهم وكسب وده وثقته. أكبر مثال على هذا تجربة دار المجوهرات «تيفاني آند كو» التي سجلت ارتفاعاً في مبيعاتها في الصين في شهر مايو (أيار) الأخير بنسبة 90 في المائة مقارنة بالعام الماضي. ما قامت به أنها استبقت الأحداث واستثمرت بقوة في السوق المحلية؛ حتى تعوض عن أي خسارة يخلقها غياب هذا المتسوق في أوروبا أو الولايات المتحدة. إضافة إلى هذا، فإن الخبراء يتوقعون أنه حتى بعد عودة الحياة إلى مجاريها، فإن المتسوق الصيني سيجد بغيته في بلده، خصوصاً بعد أن فرضت الحكومة تدابير صارمة عدة على خدمات التسوق العالمية، إضافة إلى تقديمها إغراءات ضرائبية شملت أيضاً تخفيض أسعار بيوت أزياء مثل «لويس فويتوون» و«شانيل» حتى تتعادل مع أسعارها في الخارج.