قصة {داعش}.. من التخطيط في سجن بوكا تحت نظر الأميركيين.. إلى جذب البعثيين

أبو أحمد القيادي الكبير في التنظيم يروي كيف صعد البغدادي الانطوائي .. وسيطرة خريجي بوكا بعد مقتل الزرقاوي

عدد من عناصر تنظيم {داعش} في أحد معسكرات التنظيم بالعراق (ا.ف.ب)
عدد من عناصر تنظيم {داعش} في أحد معسكرات التنظيم بالعراق (ا.ف.ب)
TT

قصة {داعش}.. من التخطيط في سجن بوكا تحت نظر الأميركيين.. إلى جذب البعثيين

عدد من عناصر تنظيم {داعش} في أحد معسكرات التنظيم بالعراق (ا.ف.ب)
عدد من عناصر تنظيم {داعش} في أحد معسكرات التنظيم بالعراق (ا.ف.ب)

في صيف عام 2004. اقتيد أحد شباب «الجهاديين» مكبلا بالسلاسل والأغلال، وأخذ يسير ببطء في طريقه إلى سجن معسكر بوكا في جنوب العراق. وقد كان متوترا بينما يقوده جنديان أميركيان عبر 3 مبانٍ ذات إضاءة ساطعة، ثم إلى متاهة من الأروقة التي تنفتح على باحة بها رجال يقفون على مسافة متوسطة ويرتدون ملابس السجن ذات الألوان الزاهية ويحملقون فيه بحذر.
وقد قال لي الشهر الماضي: «لقد تعرفت على بعضهم في الحال. كنت أشعر بالخوف من بوكا وأنا في الطائرة متجها إليه، لكن بمجرد الوصول إلى هناك، وجدت أنه أفضل كثيرا مما توقعت من عدة أوجه».

دخل الشاب، وكنيته أبو أحمد، معسكر بوكا شابا منذ 10 سنوات، وهو الآن مسؤول بارز داخل تنظيم داعش حيث ترقى في المراتب هو وكثير من الذين قضوا مدة معه في ذلك السجن. وقد اختطفه جنود أميركيون من مدن وبلدات عراقية، شأنه شأن المعتقلين الآخرين، واقتيدوا إلى مكان بات سيئ السمعة، وهو حصن بائس في الصحراء أصبح فيما بعد إرثا خلفه الوجود الأميركي في العراق. وسرعان ما رحب به المعتقلون الآخرون بحفاوة، كما يتذكر أبو أحمد.
لقد كان الرعب من بوكا يسيطر عليهم هم أيضا، قبل أن يدركوا أنه أبعد ما يكون عن أكبر مخاوفهم، بل لقد قدّم لهم السجن الذي يديره الأميركيون فرصة استثنائية. وأخبرني قائلا: «لم يكن ليمكننا التجمع على هذا النحو في بغداد أو في أي مكان آخر. كان سيعد الأمر خطيرا جدا. لقد كنا في أمان، بل وعلى بعد بضع مئات من الأمتار من قيادة تنظيم القاعدة».
وشهد سجن معسكر بوكا أول مقابلة بين أبو أحمد وأبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، الذي يُصنف حاليا كأخطر زعيم إرهابي في العالم. ويقول أبو أحمد إن تأثر الآخرين به كان واضحا جليا منذ البداية. وأضاف قائلا: «حتى في ذلك الوقت كان أبو بكر، لكن لم يتوقع أي منا أنه سيصبح قائدا». وكان أبو أحمد واحدا من أهم أعضاء التنظيم في أشكاله الأولى، حيث انجذب إلى الأعمال المسلحة في شبابه بسبب الاحتلال الأميركي الذي كان يحاول فرض تحول في السلطة في العراق لصالح الشيعة، على حساب السنة في رأيه ورأي الكثيرين.
وقاده دوره في البداية في التنظيم الذي أصبح فيما بعد «داعش» إلى منصب رفيع المستوى يشغله حاليا داخل حركة مسلحة أُعِيد إحياؤها وامتدت عبر الحدود إلى سوريا. ويرى أكثر رفاقه أن التفكك الذي تشهده المنطقة هو تحقيق لطموحاتهم في العراق التي ظلت عالقة إلى أن منحتهم الحرب في سوريا ساحة جديدة. ووافق على الحديث علنا بعد أكثر من عامين من النقاشات حول الكشف عن ماضيه واحدا من أهم العناصر المسلحة في العراق، وعن قلقه الكبير بشأن «داعش» وكذلك رؤيته حول المنطقة، في ظل اشتعال الوضع في كل من العراق وسوريا، ومصير الشرق الأوسط الذي يبدو أنه سيعاني لجيل آخر من الفورات وإراقة الدماء على أيدي أمثاله.
يعيد أبو أحمد النظر في الأمر.. تتعارض وحشية «داعش» المتزايدة مع آرائه، التي خفت حدتها مع تقدمه في العمر، حيث بات يؤمن بأن تعاليم القرآن قابلة للتأويل، ويُمكن ألا تؤخذ حرفيا. وقادته ظنونه تجاه الشكل الذي أصبح عليه «داعش» إلى الحديث مع صحيفة الـ«غارديان» في إطار سلسلة من المقابلات الطويلة، التي تقدم صورة خاصة متميزة عن الزعيم الغامض للتنظيم الإرهابي وأيامه الأولى التي تمتد من عام 2004، عندما قابل أبو بكر البغدادي في معسكر بوكا، وحتى عام 2011، عندما عبرت حركة التمرد العراقية الحدود السورية.
في البداية في بوكا نأى السجين، الذي أصبح فيما بعد على رأس قائمة المجرمين المطلوبين عالميا، بنفسه عن السجناء الآخرين، مما جعلهم يرونه انطوائيا وغامضا. ويتذكر أبو أحمد انطباع السجناء المختلف عن البغدادي، حيث كانوا يرونه لين الجانب ذا تأثير مهدئ في بيئة تفتقر إلى اليقين، فكانوا يطلبون مساعدته في فض النزاعات بينهم. أخبرني أبو أحمد: «كان هذا في إطار الدور الذي يمثله. لقد شعرت أنه يخفي شيئا ما؛ جانبا مظلما لم يرد أن يظهره للآخرين. لقد كان على عكس الأمراء الآخرين الذين كان من السهل التعامل معهم. لقد كان بعيدا ونائيا عنا جميعا».
ولد البغدادي، واسمه الحقيقي إبراهيم بن عواد البدري السامرائي، عام 1971 في مدينة سامراء بالعراق. وألقت القوات الأميركية القبض عليه في الفلوجة، غرب بغداد، في فبراير (شباط) عام 2004، بعد أشهر من مساعدته في العثور على جماعة «جيش أهل السنة والجماعة» المسلحة التي تتخذ من المناطق السنيّة المحيطة بمدينته مركزا لها. وقال دكتور هشام الهاشمي، المحلل الخاص بشؤون «داعش» في الحكومة العراقية: «لقد تم إلقاء القبض عليه وهو في منزل أحد أصدقائه ويُدعى ناصف جاسم ناصف، ثم تم اقتياده إلى بوكا. لم يكن الأميركيون يعلمون حقيقة الذي ألقوا القبض». ويبدو أن أكثر رفقاء البغدادي في السجن، الذين يقارب عددهم الـ24 ألفا، والذين تم تقسيمهم على 24 معسكرا، لم يعرفوه أيضا. كان التقسيم التراتبي هو عماد السجن، وكان يتجلى ذلك في لون الزي الذي كان يساعد على تحديد مرتبة السجناء. وقال أبو أحمد: «تختلف ألوان الملابس التي كنا نرتديها باختلاف المرتبة. إذا لم تخني الذاكرة، كان اللون الأحمر مخصصا لمن يسيئون التصرف في السجن، في حين كان الأبيض مخصصا لرئيس السجن، والأخضر لأصحاب الأحكام طويلة الأجل، والأصفر والبرتقالي لغير المميزين».
عندما وصل البغدادي، وهو في الـ33 من العمر إلى بوكا، كانت حركة المقاومة التي يقودها السنة ضد الولايات المتحدة تكتسب زخما في وسط وغرب العراق. وبات الغزو، الذي تم تسويقه بوصفه حرب تحرير، احتلالا قمعيا.
وكان السنّة في العراق، الذين حُرموا من حقوقهم بعد الإطاحة بصدام حسين، يتحدثون عن قتال القوات الأميركية، وبدأوا في استخدام السلاح ضد المنتفعين من الإطاحة بصدام حسين، وهم الأغلبية الشيعة.
كانت الجماعة المسلحة الصغيرة التي تزعمها البغدادي واحدة من ضمن عشرات الجماعات التي وُلدت من رحم ثورة سنية شاملة، والتي تجمعت بعد ذلك تحت لواء تنظيم القاعدة في العراق ثم «داعش». وكانت تلك إرهاصات القوة الساحقة التي تعرف الآن باسم «داعش»، التي سيطرت، بزعامة البغدادي، على غرب ووسط البلاد، وكذا شرق سوريا، ودفعت الجيش الأميركي إلى العودة مرة أخرى إلى المنطقة المزعزعة الاستقرار، بعد فترة تقل عن الـ3 سنوات من مغادرته وتعهده بألا يعود.
مع ذلك أثناء وجوده في بوكا، لم تكن جماعة البغدادي معروفة كثيرا، وكان أقل أهمية من زعيم «القاعدة» الذي نُظر إليه كبطل قومي أبو مصعب الزرقاوي، الذي أصبح يثير الرعب في قلوب كثيرين في العراق وأوروبا والولايات المتحدة. وكان لدى البغدادي طريقة فريدة للظهور من بين القادة الطموحين الآخرين داخل بوكا وخارجه في شوارع العراق، وهي أصله (يدعي أنه ينتسب إلى آل البيت). كذلك حصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من الجامعة الإسلامية في بغداد، وكان يعتمد على كلا الرافدين لإضفاء الشرعية عليه خليفة للعالم الإسلامي، كما أعلن في يوليو (تموز) عام 2014، في تحقيق لقدر تجلى في باحة السجن قبل عقد من الزمان. وقال أبو أحمد: «لقد كان البغدادي شخصية هادئة، وله حضور، حيث تشعر وأنت معه بأنك في صحبة شخص مهم. مع ذلك كان هناك آخرون أكثر أهمية منه، حتى إني لم أعتقد أنه سيكون له هذا الشأن العظيم».
كذلك بدا أن للبغدادي طريقة مع سجّانيه، فكما يوضح أبو أحمد واثنان من رفاقه في السجن عام 2004، كان الأميركيون ينظرون إليه على أنه شخص يستطيع حل النزاعات بين الفرق المختلفة، والإبقاء على النظام في المعسكر.
وأضاف أبو أحمد: «وبمرور الوقت، أصبح حاضرا في كل مشكلة تطرأ في المعسكر. لقد أراد أن يكون زعيم السجن، وعندما أعود بذاكرتي إلى الوراء أرى كم كان يتبنى سياسة (فرّق تسد) للحصول على ما يريد، وهو المكانة المتميزة. وقد نجح في ذلك».
وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 2004 لم يصبح البغدادي في نظر سجّانيه مصدر خطر أو تهديد، وتم إطلاق سراحه. وأضاف أبو أحمد قائلا: «لقد حظي باحترام الجيش الأميركي. عندما كان يريد زيارة سجناء في معسكر آخر، كان ينال ما يطلب، في حين كان مصير طلبنا الرفض. وكانت استراتيجيته الجديدة تتبلور أمام أنظارنا، وهي تأسيس (دولة إسلامية). لو لم يكن هناك سجون أميركية في العراق، لما خرج تنظيم داعش إلى حيز الوجود. لقد كان بوكا بمثابة مصنع أنتجنا جميعا، وكوّن نهجنا الفكري».
وفي الوقت الذي يعيث فيه تنظيم داعش فسادا في المنطقة، يفعل ذلك تحت قيادة رجال قضوا مدة في مراكز الاعتقال الأميركية خلال فترة الاحتلال الأميركي للعراق. بالإضافة إلى بوكا، كانت الولايات المتحدة تتولى إدارة معسكر كروبر بالقرب من مطار بغداد، وكذلك سجن أبو غريب، الواقع على الأطراف الغربية للعاصمة خلال الـ18 شهرا البائسة الأولى من الحرب. وأقرّ كثيرون ممن تم إطلاق سراحهم من تلك السجون، وبالطبع عدد من المسؤولين الأميركيين البارزين الذين قادوا عمليات اعتقال، بتأثير السجون السلبي المهيج.
وأوضح علي الخضيري الذي عمل مساعدا خاصا لكل السفراء الأميركيين الذين خدموا في العراق منذ 2003 وحتى 2001. وكذا لـ3 قادة في الجيش الأميركي، قائلا: «لقد حضرت عددا من الاجتماعات التي قال فيها كثيرون إن الأمور كانت تسير على خير ما يرام». لكن في النهاية اقتنع حتى المسؤولون الأميركيون البارزون «بأنهم باتوا عناصر تشجع على التطرف، وبأنهم تصرفوا بطريقة تؤتي نتائج عكسية من عدة أوجه، وبأنه تم استغلالهم في التخطيط والتنظيم وتعيين قادة وتنفيذ عمليات».
ووفق أبو أحمد: «في السجن، كان كل الأمراء يجتمعون بشكل منتظم. أصبحنا قريبين جدا من الأشخاص المسجونين معنا. عرفنا قدراتهم. كنا نعرف ما يمكنهم وما لا يمكنهم القيام به، وكيفية استخدامها، ولأي سبب من الأسباب. وكان أهم الأشخاص في معسكر بوكا هم الذين كانت لهم صلة وثيقة بالزرقاوي الذي اشتهر في عام 2004 بأنه زعيم (القاعدة)».
وواصل حديثه: «كان لدينا الكثير من الوقت لنجلس ونخطط. لقد كانت البيئة مثالية. اتفقنا جميعا على أن نلتقي عندما نخرج. وكانت وسيلة إعادة الاتصال سهلة. كتبنا تفاصيل كل شخص منا على (شريط الأستيك المطاط) الموجود في السراويل الداخلية. وتواصلنا عندما خرجنا. كان أي شخص مهم بالنسبة لي مكتوب على شريط المطاط الأبيض. كان عندي أرقام هواتفهم وقراهم. وبحلول عام 2009. كان الكثير منا قد عاد للقيام بما كنا نقوم به قبل اعتقالنا. ولكننا كنا نقوم بذلك هذه المرة على نحو أفضل».
وفقا لهشام الهاشمي، وهو محلل مقيم في بغداد، تشير تقديرات الحكومة العراقية إلى أن 17 من الـ25 قائدا الأهم من قادة تنظيم داعش الذين يديرون الحرب في العراق وسوريا أمضوا وقتا في السجون الأميركية بين عامي 2004 و2011. وجرى نقل بعضهم من سجن أميركي إلى سجون عراقية، حيث سمحت سلسلة من عمليات الهروب من السجون خلال السنوات القليلة الماضية بفرار كثير من كبار القادة وانضمامهم إلى صفوف المقاتلين.
شهد سجن أبو غريب أكبر عملية هروب وأكثرها ضررا في عام 2013، حيث هرب ما يصل إلى 500 سجين، كثير منهم من كبار المتطرفين الذين سلمهم الجيش الأميركي المغادر، في شهر يوليو (تموز) من ذلك العام، بعد أن تم اقتحام هذا السجن عن طريق قوات تنظيم داعش الذين شنوا غارة متزامنة وناجحة كذلك على سجن التاجي القريب.
أغلقت الحكومة العراقية سجن أبو غريب في شهر أبريل (نيسان) 2014 وهو الآن فارغ، يقع على مسافة 15 ميلا من الضواحي الغربية لبغداد، بالقرب من خط المواجهة بين تنظيم داعش وقوات الأمن العراقية، التي تبدو غير جاهزة بشكل دائم، وهي تحدق في ضبابية الحرارة التي تمتد على الطريق السريع الذي يؤدي إلى الأراضي الوعرة في الفلوجة والرمادي.
لقد أصبحت أجزاء من هاتين المدينتين مناطق محظورة على القوات العراقية المحاصرة، التي هاجمها وهزمها تنظيم داعش، وهو مجموعة من اللصوص الذين لا يوجد مثيل لهم في بلاد ما بين النهرين منذ عهد المغول. عندما زرت أحد السجون المهجورة في أواخر هذا الصيف، كانت مجموعة من القوات العراقية جالسة عند نقطة تفتيش على الطريق الرئيسي المؤدي إلى بغداد، تتناول البطيخ بينما يسمع أصوات القذائف من على مسافة. كانت جدران سجن أبو غريب وراءهم، وكان أعداؤهم المتطرفون موجودين أسفل الطريق.
كان الكشف عن الانتهاكات التي وقعت في سجن أبو غريب له تأثير شديد على كثير من العراقيين، الذين اعتبروا التلطف المزعوم من الاحتلال الأميركي تحسنا طفيفا مقارنة بطغيان صدام. رغم أنه لم يكن هناك سوى القليل من الشكاوى بوقوع انتهاكات في سجن معسكر بوكا قبل إغلاقه في عام 2009. كان العراقيون ينظرون إليه باعتباره رمزا قويا للسياسة الظالمة، التي نالت من الأزواج والآباء والأبناء (بعضهم من غير المقاتلين) خلال غارات يتم شنها بصورة منتظمة على الأحياء، وإلقائهم في السجن لعدة أشهر أو سنوات.
حتى الآن، وبعد مرور 5 سنوات من إغلاق الولايات المتحدة لسجن معسكر بوكا، ما زال البنتاغون يدافع عن المعسكر باعتباره مثالا على تبني سياسة مشروعة في فترة مضطربة. قال المقدم مايلز ب. كاجيز الثالث المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية بشأن السياسة التي تم تبنيها تجاه المعتقلين: «خلال العمليات التي تمت في العراق في الفترة بين عامي 2003 و2011، اعتقلت القوات الأميركية الآلاف من معتقلي الحرب بشكل قانوني. يعد هذا النوع من الاعتقالات والممارسات شائعا خلال النزاعات المسلحة. يعد اعتقال شخص يحتمل أن يكون خطيرا من الأساليب القانونية والإنسانية الواجبة لتوفير الأمن والاستقرار للسكان المدنيين».

* خروج البغدادي من السجن
بعد مرور فترة على إطلاق سراح البغدادي من سجن معسكر بوكا، تم الإفراج كذلك عن أبو أحمد. بعد نقله جوا إلى مطار بغداد، التقطه رجال كان قد التقى بهم في معسكر بوكا. وأخذوه إلى منزل في غرب العاصمة، حيث انضم مرة أخرى وعلى الفور إلى القتال، الذي تحول من معركة ضد جيش احتلال إلى حرب شرسة وغير محدودة ضد الشيعة العراقيين.
كانت فرق القتل في ذلك الوقت تجوب بغداد وأغلب مناطق وسط العراق، لتقتل أعضاء من الطوائف المخالفة بوحشية معهودة، وتطرد الأهالي من الأحياء التي تسيطر عليها. وسرعان ما تحولت العاصمة إلى مكان مختلف للغاية عن المدينة التي غادرها أبو أحمد في العام السابق. ولكن بمساعدة الوافدين الجدد في معسكر بوكا، تمكن هؤلاء الموجودون داخل السجن من متابعة جميع التطورات الجديدة التي تحدث في الحرب الطائفية التي بدأت تتشكل. كان أبو أحمد على دراية بالبيئة التي عاد إليها. وكان لدى قادة معسكره خطط له.
كان أول شيء فعله عندما كان في مكان آمن في غرب بغداد هو أنه خلع ملابسه، ثم أخذ مقصا بعناية لملابسه الداخلية: «قمت بقص قطعة القماش في السروال الداخلي الذي كان فيه جميع الأرقام. اجتمعنا مرة أخرى. وعدنا إلى العمل». كان غيره من السجناء السابقين يفعلون الشيء نفسه في مناطق مختلفة من العراق. قال أبو أحمد وهو يبتسم لأول مرة خلال حديثنا، وهو يتذكر كيف تم الاحتيال على ساجنيه: «لقد كان الأمر في غاية البساطة. لقد ساعدتنا السراويل على الفوز في الحرب».
واسترجع أبو أحمد كيف أن الزرقاوي كان يريد شيئا مثل لحظة هجمات الحادي عشر من سبتمبر نقطة لتصعيد الصراع؛ شيئا من شأنه نقل المعركة إلى قلب العدو. وكان يعني هذا في العراق أحد هدفين؛ إما وصول الشيعة إلى كرسي الحكم، أو حتى هدف أفضل، وهو رمز ديني محدد. في فبراير (شباط) 2006، ومرة أخرى بعد مرور شهرين، قام انتحاريو الزرقاوي بتدمير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء، في شمال بغداد. واندلعت الحرب الطائفية بالكامل، وتحققت طموحات الزرقاوي.
وعند سؤاله عن مزايا هذا الاستفزاز العنيف، سكت أبو أحمد لبرهة للمرة الأولى خلال الكثير من أحاديثنا المتبادلة. وقال: «كان هناك سبب لبدء هذه الحرب. لم يكن السبب هو أنهم من الشيعة، ولكن لأن الشيعة كانوا يدفعون نحو ذلك. لقد كان الجيش الأميركي يقوم بتسهيل استيلائهم على العراق وإعطائهم البلاد. كانوا يتعاونون مع بعضهم بعضا».
ثم سرح بفكره في الرجل الذي أصدر الأوامر: «كان الزرقاوي شديد الذكاء. وكان أفضل مخطط استراتيجي في (داعش)، أما أبو عمر (البغدادي) فقد كان شخصا لا يعرف الرحمة»، كان أبو أحمد يشير إلى خليفة الزرقاوي، الذي قُتل في غارة أميركية في شهر أبريل (نيسان) 2010، و«أبو بكر هو الأكثر دموية بين الجميع».
«بعد مقتل الزرقاوي، أصبح الأشخاص الأكثر تطرفا منه يتمتعون بأهمية شديدة داخل التنظيم. كان فهمهم للشريعة والإنسانية رخيصا للغاية. فهم لا يفهمون التوحيد (المصطلح القرآني لوحدانية الله) بالشكل الذي ينبغي فهمه على أساسه. فلا يجوز فرض التوحيد عن طريق الحرب».
ورغم التحفظات التي بدأت تتحرك داخله بالفعل، أصبح أبو أحمد، بحلول عام 2006، جزءا من آلة القتل التي أصبحت تعمل بأقصى سرعة في أغلب أوقات العامين التاليين. تم تشريد ملايين المواطنين، وتم تطهير أحياء على أسس طائفية، وتم تخدير شعب بأكمله بوحشية لا رادع لها.
في ذلك الصيف، نجحت الولايات المتحدة في الوصول إلى الزرقاوي، بمساعدة المخابرات الأردنية، مما أدى لمقتله في غارة جوية شمال بغداد. من أواخر عام 2006، تراجع أداء التنظيم الذي أعاقته ثورة قبلية اقتلعت قيادته من الأنبار، وقلصت من وجوده في أماكن أخرى في العراق. ولكن وفقا لأبو أحمد، استغل التنظيم الفرصة ليتطور، وليكشف عن براغماتيته، بالإضافة إلى آيديولوجيته المتشددة. بالنسبة لتنظيم داعش، كانت السنوات الهادئة نسبيا بين عامي 2008 و2011 تعد فترة هدوء، وليس هزيمة.

* اجتماعات مع البعثيين
وبحلول ذلك الوقت، كان أبو بكر البغدادي قد ارتفعت مكانته باطراد خلال التنظيم ليصبح مساعدا موثوقا فيه لزعيمه أبو عمر البغدادي، ونائبه الجهادي المصري «أبو أيوب المصري». وقال أبو أحمد إنه عند هذه النقطة، اقترب تنظيم داعش من فلول البعث التابعين للنظام القديم، وهم معارضون آيديولوجيون يشتركون معه في وجود عدو مشترك، هو الولايات المتحدة والحكومة التي يقودها الشيعة التي تدعمها الولايات المتحدة.
اجتمعت أشكال سابقة من تنظيم داعش مع البعثيين، الذين فقدوا كل شيء عندما أُطيح بصدام، على الفرضية نفسها التي تقول إن «عدو عدوي صديقي». قال أبو أحمد ومصادر أخرى إنه بحلول أوائل عام 2008. أصبحت هذه الاجتماعات أكثر تكرار - وكان كثير منها يُعقد في سوريا.
أثار مسؤولون أميركيون في بغداد والحكومة العراقية بشكل منتظم مسألة صلات سوريا بالتمرد السني في العراق. لقد كانا مقتنعين بأن الرئيس السوري بشار الأسد سمح للمتطرفين بالوصول جوا إلى مطار دمشق، حيث رافقهم مسؤولون عسكريون إلى الحدود مع العراق. أخبرني أبو أحمد أن «جميع الأجانب الذين كنت أعرفهم دخلوا إلى العراق بهذه الطريقة. فلم يكن الأمر سرا».
اعتبارا من عام 2008، عندما بدأت الولايات المتحدة التفاوض على نقل سلطاتها إلى المؤسسات الأمنية الضعيفة في العراق - وبالتالي تمهد الطريق لخروجها - تحول الأميركيون بشكل متزايد إلى عدد قليل من الشخصيات الموثوق بها في الحكومة العراقية. كان أحدهم اللواء حسين علي كمال مدير الاستخبارات في وزارة الداخلية بالبلاد. كان كرديا علمانيا، وكان يحظى بثقة المؤسسة الشيعية، وأحد المهام الكثيرة التي كلف بها كمال هي تأمين بغداد ضد الهجمات الإرهابية.

تسجيلات سرية
لاجتماعي الزبداني
كان اللواء كمال مقتنعا مثل الأميركيين بأن سوريا تقوم بزعزعة استقرار العراق، وهو تقييم استند إلى عمليات استجواب المتشددين الذين اعتقلتهم قواته. طوال عام 2009، قدم كمال الأدلة في سلسلة من المقابلات، وذلك باستخدام الخرائط التي تحدد الطرق التي يستخدمها المتشددون لعبور الحدود إلى غرب العراق، والاعترافات التي ربطت رحلاتهم بضباط محددين من ذوي الرتب المتوسطة في الاستخبارات العسكرية السورية.
وبانحسار نشاط تنظيم داعش في العراق، فقد تزايد هاجس التنظيم إثر اجتماعين نُظما في سوريا في وقت مبكر من عام 2009، الذي جمع المتشددين العراقيين مع المسؤولين السوريين، برفقة البعثيين من كلتا الدولتين (أما كمال، الذي أصيب بنوع نادر من مرض السرطان في عام 2012، فقد لقي حتفه في وقت مبكر من هذا العام، وقد خوّل لي نشر تفاصيل محادثاتنا معا، حيث قال في آخر مقابلة جمعتنا في يونيو «حزيران» من عام 2014: «لا تقل إلا الحقيقة»).
عندما تقابلت معه لأول مرة في عام 2009، كان منكبا على مراجعة نسخ من التسجيلات لاجتماعين سريين عُقدا في مدينة الزبداني، بالقرب من دمشق، في ربيع العام ذاته. وكان الحضور يشملون عضوا بارزا في حزب البعث العراقي، الذي كان قد التجأ إلى سوريا منذ الإطاحة بنصيرهم السابق صدام حسين، وضباطا من الاستخبارات العسكرية السورية، وشخصيات بارزة عُرف فيما بعد أنهم يتبعون تنظيم القاعدة في العراق. كان السوريون قد فتحوا قنوات للتواصل مع المتشددين خلال الأيام الأولى للتمرد المناوئ للاحتلال الأميركي، واستخدموهم في زعزعة الوجود الأميركي، وقلقلة خططهم بالعراق.
يقول علي الخضيري المستشار السابق للسفراء الأميركيين وكبار القادة العسكريين في بغداد: «في أوائل عامي 2004 و2005، بدأت العناصر الجهادية والعناصر البعثية المعزولة بالتلاقي معا. كانوا منضبطين بطبيعة الحال، وذوي تنظيم جيد، ويعرفون تضاريس الأرض جيدا. وبمرور الوقت، تحول بعض الأفراد الذين كانوا في الأصل بعثيين إلى متطرفين مع احتدم سعار التمرد. وبحلول عام 2007، كان الجنرال (ديفيد) بترايوس يقول إن هناك معلومات استخبارية شديدة الوضوح حيال التعاون القائم بين الاستخبارات العسكرية السورية والجهاديين. غير أن الدوافع لم تتحد فيما بينهم بنسبة 100 في المائة».
خلال محادثاتنا، شدد أبو أحمد على الروابط السورية بالتمرد العراقي، حيث قال: «يمر جميع المقاتلين عبر سوريا. ولقد عملت بنفسي مع كثيرين منهم. أولئك الموجودون في بوكا طاروا إلى دمشق. ومجموعة صغيرة منهم عبرت من خلال تركيا، أو إيران. ولكن معظمهم جاءوا إلى العراق بمساعدة السوريين».
كان خط الإمدادات يُنظر إليه من جانب المسؤولين العراقيين بأنه يشكل تهديدا وجوديا على الحكومة العراقية، وكان السبب الرئيسي للعلاقة المسمومة بين نوري المالكي، الذي صار رئيس الوزراء العراقي لاحقا، والرئيس السوري بشار الأسد. كان لدى المالكي قناعة تكوّنت مبكرا خلال الحرب الأهلية من أن الأسد كان يحاول تقويض سلطات نظامه الحاكم بوصفه وسيلة لإحراج الأميركيين، وبدا الدليل على ذلك جليا في عام 2009 من خلال الاجتماع المنعقد في دمشق، الذي نقل سخط المالكي على الزعيم السوري إلى آفاق جديدة.
أخبرني اللواء كمال في ذلك الوقت أنه «كان لدينا مصدر داخل الغرفة يحمل جهاز تنصت. ولقد كان أكثر مصادرنا حساسية على الإطلاق. وبقدر معرفتنا، كانت تلك أول مرة يُعقد فيها اجتماع على المستوى الاستراتيجي يضم جميع تلك الأطياف. إنه اجتماع يشكل نقطة جديدة في التاريخ»، يقصد اجتماع مدينة الزبداني.
أدار البعثيون الحاضرون الاجتماع. وكان هدفهم، وفقا لمصدر اللواء كمال، شنّ سلسلة من الهجمات الكبرى في بغداد تؤدي إلى تقويض حكومة المالكي ذات الأغلبية الشيعية، التي تمكنت، وللمرة الأولى، من فرض قدر من النظام في عراق ما بعد الحرب الأهلية. وحتى ذلك الحين، كان تنظيم القاعدة والبعثيون العراقيون من ألد الأعداء على المستوى الآيديولوجي، غير أن القوة المتصاعدة للشيعة، وكذا مؤيدوهم في إيران، جمعت كلا الفصيلين المتضادين معا للتخطيط لهجمة كبرى داخل العاصمة العراقية.
بحلول شهر يوليو (تموز) من عام 2009، رفعت وزارة الداخلية العراقية من يقظتها الأمنية في جميع نقاط التفتيش عبر نهر دجلة وإلى العاصمة بغداد، مما يجعل من الانتقال في أي وقت من أوقات اليوم معاناة كبيرة، ولا يُحتمل، على غير المعتاد. ثم تلقى اللواء كمال رسالة من مصدره في سوريا تفيد بأن النشاط الأمني المتزايد لدى الجسور العراقية لفت انتباه المتآمرين على الهجوم، حسبما أفاد به. وتم اختيار أهداف جديدة، غير أنه لا يعرف ماهيتها، أو توقيت مهاجمتها. وعبر الأسبوعين التاليين، عمل اللواء كمال عن كثب وحتى ساعات متأخرة من الليل داخل مكتبه الحصين في ضاحية العرصات الجنوبية، قبل أن تنقله من عمله قافلة مدرعة عبر جسر 14 يوليو، الذي اختير هدفا للمتآمرين قبل أيام قليلة، إلى منزله داخل المنطقة الخضراء.
منذ ذلك الحين وحتى نهاية الشهر، قضى اللواء كمال ساعات ممتدة في كل ليلة من ليالي القيظ يتعرق على جهاز الرياضة، آملا أن ينقي التمرين الرياضي عقله ويدفع به خطوة واحدة قبل المهاجمين. ولقد قال لي خلال آخر محادثة جمعتنا قبل شن المهاجمين لضربتهم: «قد أفقد بعض الوزن هنا، ولكنني لم أعثر على الإرهابيين بعد. أعلم أنهم يخططون لأمر كبير».
في صباح 19 أغسطس (آب)، انفجرت أولى الشاحنات الـ3 الناقلة لخزانات مياه سعة 1000 لتر، وكل منها محمل بالمتفجرات، على جسر أمام مبنى وزارة المالية العراقية جنوب شرقي بغداد. تسبب الانفجار في إرسال الحطام عبر مدينة الزمرد، وأثار عاصفة من التراب عصفت بالمنازل المجاورة، وأثارت ذعر آلاف الحمائم فهربت في جو السماء. ثم مرت 3 دقائق أخرى، وانفجرت قنبلة هائلة خارج مبنى وزارة الخارجية على الطرف الشمالي من المنطقة الخضراء. وبعد مرور فترة وجيزة، هز انفجار ثالث قافلة للشرطة على مقربة من وزارة المالية. حصدت تلك الانفجارات أرواح أكثر من 101 قتيل، وما يقرب من 600 مصاب، ولقد كان أكثر الهجمات دموية في تاريخ التمرد العراقي الممتد لست سنوات.

* ماذا قال علي مملوك؟
أخبرني اللواء كمال في ذلك اليوم قائلا: «لقد فشلت. لقد فشلنا جميعا». وخلال ساعات جرى استدعاؤه لمقابلة المالكي وقادة أجهزته الأمنية. كان رئيس الوزراء مهتاجا. قال اللواء كمال في وقت لاحق: «أخبرني بتقديم ما لديّ حول السوريون. ثم رتبنا الأمور مع تركيا لتلعب دور الوسيط، ثم سافرت إلى أنقرة للاجتماع بهم. ثم تناولت ذلك الملف (ونقر بيده على مجلد سميك أبيض اللون على مكتبه) ولم يمكنهم الجدال فيما عرضناه عليهم». كانت القضية محكمة بالكامل وكان السوريون يعرفون ذلك. كان السيد علي مملوك (رئيس جهاز الأمن العام السوري) موجودا هناك. وكل ما فعله كان النظر إلي وعلى وجهه ابتسامة، ثم قال: «لن أعترف بأي مسؤول قادم من بلد يقبع تحت الاحتلال الأميركي. إن ذلك مضيعة للوقت». استدعى العراق سفيره في دمشق، وأمرت سوريا مبعوثها إلى العراق بالعودة للوطن انتقاما من ذلك. وخلال الفترة المتبقية من العام، وحتى حلول عام 2010. ظلت العلاقات فيما بين المالكي والأسد شديدة السمية.
وفي مارس (آذار) من عام 2010، ألقت القوات العراقية، إثر إشارة من الولايات المتحدة، القبض على زعيم تنظيم داعش الذي يُدعى مناف عبد الرحيم الراوي، والذي تم الكشف عن أنه أحد كبار قادة الجماعة المتطرفة في بغداد، وأحد القلائل الذين كان لديهم اتصال مباشر بزعيم التنظيم اللاحق، أبو بكر البغدادي. تحدث الراوي، وفي لحظة نادرة من لحظات التعاون، تآمرت أجهزة الاستخبارات العراقية الـ3، ومن بينها شعبة الاستخبارات التي يرأسها اللواء كمال، على دس جهاز تنصت وجهاز لتحديد المواقع العالمية (للتعقب) داخل صندوق زهور يصل إلى مخبأ أبو عمر.
وبعد التأكد من أن أبو عمر ونائبه أبو أيوب المصري كانا موجودين داخل منزل على بعد 6 أميال إلى الجنوب الغربي من مدينة تكريت، تعرض المنزل للهجوم من قبل غارة أميركية. وقد فجر الرجلان سترات انتحارية ليحولا دون إلقاء القبض عليهما حيين. عُثر في المنزل على رسائل إلى أسامة بن لادن وأيمن الظواهري داخل حاسوب. وعلى غرار منزل بن لادن الآمن في باكستان، حيث سيتعرض للقتل هناك بعد أكثر قليلا من عام، لم يكن في مخبأ أبو عمر أي اتصال بالإنترنت أو خطوط للهواتف، وكانت الرسائل المهمة تصل وتُسلم من خلال 3 رجال فقط؛ أحدهم كان يُدعى أبو بكر البغدادي.
أخبرني أبو أحمد قائلا: «كان أبو بكر البغدادي مرسالا لدى أبو عمر. ثم صار أقرب مساعديه إليه. فقد كانت الرسائل الموجهة على أسامة بن لادن تجري صياغتها من خلاله، وكانت رحلة تسليم تلك الرسائل تبدأ من عنده. وحين تعرض أبو عمر للقتل، تولى أبو بكر البغدادي الزعامة. وفي ذلك الوقت كان كل ما لدينا في بوكا يحمل قدرا عظيما من الأهمية مجددا».
جاء مقتل أبو عمر البغدادي وأبو أيوب المصري بمثابة ضربة شديدة لتنظيم داعش، ولكن الأدوار التي فرغت بمقتلهما سرعان ما قام بها خريجو معسكر بوكا، الذي كانت الأنساق العليا فيه قد بدأت التحضير لتلك اللحظة منذ أيام سجنهم الأولى في أحد السجون بجنوب بغداد. قال أبو أحمد: «كان السجن بالنسبة إلينا أكاديمية دراسية، ولكنه كان بالنسبة إليهم مدرسة للإدارة، يقصد كبار القادة، لم يكن حلقة مفرغة أبدا، نظرا للكثيرين الذين تلقوا توجيهاتهم وإرشاداتهم داخل السجن».
واستطرد يقول: «حينما تحولت الحرب الأهلية السورية إلى حرب خطيرة، لم يكن من الصعوبة نقل جميع الخبرات إلى ساحة قتال جديدة. إذ يحتل العراقيون المستويات الأكثر أهمية في الأمور العسكرية وفي مجلس شورى تنظيم داعش حاليا، وذلك ناجم عن تلك السنوات الطويلة من الإعداد لمثل ذلك الحدث. لقد قللت من قدر البغدادي. كما استهانت الولايات المتحدة بالدور الذي لعبته حتى جعلته في مكانه الحالي».
لا يزال أبو أحمد من أعضاء تنظيم داعش، وهو عضو نشط في عمليات التنظيم في كل من العراق وسوريا. ومن خلال مناقشاتنا، رسم لنفسه صورة الرجل الذي يعاند ذاته للبقاء داخل التنظيم، مع أنه في الوقت ذاته على غير استعداد للمخاطرة بتركهم.

* داخل {داعش}.. سلطة ومال وزوجات
* إن الحياة داخل تنظيم داعش تساوي السلطة، والمال، والزوجات، والمكانة، وكلها من قبيل المغريات الساحرة للشباب حديثي السن أصحاب القضية، غير أنها تعني أيضا القتل والهيمنة على وجهة نظر عالمية لم يعد يحمل حيالها القلب المفعم بالإصرار ذاته.
وقال إن مئات الشباب أمثاله، ممن انخرطوا في الجهاد السني عقب الغزو الأميركي للعراق، لم يعودوا يعتقدون أن المشاهد الأخيرة من الحرب التي قضت على عقد كامل من الزمان لا تزال تحمل القدر ذاته من الوفاء لأصلها الأول.
قال أبو أحمد: «أكبر أخطاء حياتي كان الانضمام إليهم»، ولكنه أضاف أن الانسلاخ عن التنظيم قد يعني تعرضه مع أسرته للإعدام. غير أن البقاء والتأكيد على الرؤية الوحشية للتنظيم من خلال أفعاله، برغم اعتراضه النسبي حيالها، لا يسبب لأبو أحمد أي غضاضة، حيث يعد نفسه في قلب بضعة من الخيارات الأخرى.
وأضاف يقول: «ليس الأمر أنني لا أومن بالجهاد»، وتابع أثناء خفوت صوته بعيدا: «بل أومن به. ولكن ما خياراتي؟ إذا انفصلت، فأنا ميت لا محالة».
إن ذروة تورطه مع ما يعتبر أكثر جماعة إرهابية تهدد العالم حاليا يعكس حالة الكثير من الشباب الآخرين، الذين يحتلون مناصب كبرى في التنظيم: أولا الحرب ضد جيش احتلال، ثم حاصل ذلك تسوية ما تتم مع عدو طائفي قديم، والآن حرب أخرى قد تحل محل نبوءة حرب آخر الزمان.
وفي عالم خريجي معسكر بوكا، ليس ثمة مجال قط أمام المذاهب التعديلية أو التنقيحية، أو حتى أمام التأمل.
يشعر أبو أحمد أن نفسيته تعرضت لاكتساح هائل من أحداث صارت وبحق تفوق حجمه الضئيل بمراحل، أو حجم أي شخص آخر.
ويقول في إشارة إلى كبار أعضاء تنظيم داعش القريبين من البغدادي: «هناك أناس آخرون ليسوا من أصحاب التنظير.
أولئك الذين بدأوا في معسكر بوكا، مثلي تماما. ثم صار الأمر أكبر منا جميعا. لا يمكن لأحد إيقاف ذلك الآن.
إن الأمر بحق خارج عن سيطرة أي شخص. لا البغدادي، ولا أي عنصر آخر في دائرته».

* بالاتفاق مع صحيفة «الغارديان»



العليمي: فرض الأمر الواقع في أراضينا يهدد الدولة ومكافحة الإرهاب ليست ذريعة سياسية

اجتماع العليمي مع سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن (سبأ)
اجتماع العليمي مع سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن (سبأ)
TT

العليمي: فرض الأمر الواقع في أراضينا يهدد الدولة ومكافحة الإرهاب ليست ذريعة سياسية

اجتماع العليمي مع سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن (سبأ)
اجتماع العليمي مع سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن (سبأ)

حذّر الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني، من خطورة التحركات العسكرية الأحادية في المحافظات الشرقية، مؤكداً أنها تُمثل تهديداً مباشراً لوحدة القرار العسكري والأمني، وتقويضاً للمركز القانوني للدولة، وإعادة إنتاج لمنطق السلطات الموازية الذي يرفضه المجتمع الدولي.

جاء ذلك خلال لقائه، الثلاثاء، سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن، بحضور وزير الخارجية وشؤون المغتربين الدكتور شائع الزنداني، حيث خُصص اللقاء لاستعراض آخر مستجدات الأوضاع المحلية، وفي مقدمتها التطورات في محافظتي حضرموت والمهرة، الأمر الذي استدعى اتخاذ حزمة من القرارات والإجراءات الدستورية والقانونية الحازمة، حمايةً لأمن المواطنين، وصوناً لوحدة اليمن وسيادته واستقراره وسلامة أراضيه.

وفي مستهل اللقاء، رحّب الرئيس بالسفراء، مثمّناً وحدة مواقف دولهم الداعمة للشعب اليمني في أصعب مراحله، سياسياً وإنسانياً واقتصادياً، ومؤكداً أن ما تشهده المحافظات الشرقية لا يندرج في إطار خلاف سياسي داخلي، بل يُشكّل مساساً خطيراً بأسس الدولة ووحدة مؤسساتها.

وأوضح الرئيس العليمي أن القيادة اليمنية بذلت خلال الفترة الماضية جهوداً مكثفة للتهدئة وخفض التصعيد، واحتواء تداعيات الإجراءات العسكرية الأحادية التي اتخذها المجلس الانتقالي الجنوبي خارج مرجعيات المرحلة الانتقالية، ودون موافقة مجلس القيادة الرئاسي أو التنسيق مع قيادة تحالف دعم الشرعية، غير أن هذه المساعي قوبلت - حسب تعبيره - بالتعطيل والإصرار على فرض الأمر الواقع.

وأشار إلى أنه بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وجّه صراحة بمنع أي تحركات عسكرية خارج إطار الدولة، وتمت الموافقة على خطة إعادة تموضع تدريجية لقوات «درع الوطن» من ثلاث مراحل، نُفذت مرحلتان منها بالفعل. كما كشف عن تشكيل لجنة تواصل رفيعة المستوى لاحتواء التصعيد وفتح قنوات الحوار، إلا أن تلك الجهود لم تلقَ استجابة.

وشدّد الرئيس العليمي على أن المشكلة لم تكن يوماً نقصاً في الحلول، بل تعطيلها المتعمد، مفنداً في الوقت ذاته ما وصفها بالسرديات المضللة التي تحاول تبرير فرض الأمر الواقع بالقوة تحت لافتة مكافحة الإرهاب. وقال إن مكافحة الإرهاب «قرار دولة ومؤسسات شرعية، وليست ذريعة سياسية»، مذكّراً بالإنجازات التي حققتها المؤسسات العسكرية والأمنية اليمنية، بدعم شركائها، في تفكيك الخلايا الإرهابية، وتجفيف مصادر تمويلها، وتأمين المدن والممرات الحيوية.

وفي ملف القضية الجنوبية، جدّد الرئيس العليمي التأكيد على الموقف المبدئي والثابت من معالجتها، وفق أي خيارات تقررها الإرادة الشعبية الحرة، مع رفض قاطع لفرض أي حلول بقوة السلاح أو الأمر الواقع.

وعدّ أن اختزال القضية الجنوبية في تمثيل حصري أو تحركات عسكرية يسيء إلى عدالتها ويقوّض فرص الحل السياسي المستدام، ويلحق الضرر بأبناء الجنوب قبل غيرهم، لافتاً إلى أن هذا الموقف يتطابق مع ما أكدته المملكة العربية السعودية من أن القضية الجنوبية لا تُحل إلا عبر الحوار وفي إطار تسوية سياسية شاملة.

وحذّر رئيس مجلس القيادة الرئاسي من أن وجود ميليشيات لا تأتمر لأوامر الدولة يعرّض أولويات المجتمع الدولي ومصالحه في المنطقة للخطر، فضلاً عن تطلعات الشعب اليمني للأمن والاستقرار والعيش الكريم.

وأكد أن أي اضطراب في حضرموت والمهرة سينعكس مباشرة على تصدير النفط، ودفع المرتبات، ويعمّق الأزمة الإنسانية، ويقوّض الثقة مع مجتمع المانحين.

وتطرق الرئيس العليمي إلى الدور الإماراتي في التطورات الأخيرة، مؤكداً أن اليمن لا ينكر ما قدمته دولة الإمارات من أدوار ومساهمات في مراحل سابقة، لكنه شدد على أن المرحلة الراهنة تتطلب وضوحاً كاملاً، والنأي بالنفس عن دعم أي مكون خرج على آليات التوافق التي رعتها الإمارات نفسها ضمن تحالف دعم الشرعية. وقال إن أي ضغوط لدفع قوات محلية إلى تحركات عسكرية تشكل تهديداً للأمن القومي اليمني والسعودي، وتتعارض مع الأسس التي قام عليها التحالف.

وأضاف أن المطالبة بمغادرة القوات التي خرجت عن تلك الأسس «مطلب سيادي طبيعي»، لا يستهدف العلاقات الثنائية ولا ينكر التاريخ، بل يهدف إلى حماية فكرة التحالف ذاتها.

وفي ختام اللقاء، دعا رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدول الراعية للعملية السياسية إلى موقف دولي موحد وصريح يرفض الإجراءات الأحادية، ويدعم قرارات الدولة اليمنية وجهود التهدئة التي تقودها المملكة العربية السعودية، مع ممارسة ضغط سياسي وقانوني لتمكين الحكومة الشرعية من ممارسة سلطاتها الحصرية، وترجمة ذلك داخل مجلس الأمن والمحافل الدولية وفق القانون الدولي.

وختم الرئيس العليمي بالتأكيد على أن سقوط منطق الدولة في اليمن يعني غياب أي استقرار يمكن البناء عليه أو الاستثمار فيه، محذراً من تحويل اليمن إلى نموذج جديد لتفكك الدول، ومشدداً على أن الشعب اليمني يستحق فرصة حقيقية للسلام والحياة الكريمة.


اليمن يعلن حالة الطوارئ ويطلب خروج القوات الإماراتية خلال 24 ساعة

المجلس الانتقالي الجنوبي حاول إخضاع شرق اليمن بالقوة المسلحة (رويترز)
المجلس الانتقالي الجنوبي حاول إخضاع شرق اليمن بالقوة المسلحة (رويترز)
TT

اليمن يعلن حالة الطوارئ ويطلب خروج القوات الإماراتية خلال 24 ساعة

المجلس الانتقالي الجنوبي حاول إخضاع شرق اليمن بالقوة المسلحة (رويترز)
المجلس الانتقالي الجنوبي حاول إخضاع شرق اليمن بالقوة المسلحة (رويترز)

أعلن رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني، رشاد العليمي، الثلاثاء، إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع الإمارات، مع إلزام قواتها بالانسحاب الكامل من الأراضي اليمنية خلال 24 ساعة، في إطار جهود الحكومة اليمنية للحفاظ على سيادة البلاد ووحدتها إزاء تمرد المجلس الانتقالي الجنوبي وتصعيده في حضرموت والمهرة، ومواجهة انقلاب الحوثيين المستمر منذ عام 2014.

وجاء في نص القرار الذي صدر عن العليمي، أن إلغاء الاتفاقية يستند إلى الصلاحيات الدستورية الممنوحة لرئيس المجلس الرئاسي، وبمقتضى القرار رقم (9) لسنة 2022، مؤكداً على أهمية حماية المواطنين وسلامة الأراضي اليمنية. كما نص القرار على تسليم المعسكرات كافة في محافظتي حضرموت والمهرة إلى قوات «درع الوطن».

وفي خطوة متزامنة، أصدر الرئيس اليمني قراراً بإعلان حالة الطوارئ في أنحاء اليمن كافة لمدة 90 يوماً قابلة للتمديد. القرار يستند إلى الصلاحيات الدستورية نفسها، ويستهدف مواجهة الانقلاب على الشرعية والفوضى الداخلية التي قادتها عناصر عسكرية، قالت الحكومة اليمنية إنها تلقت أوامر من الإمارات بالتحرك ضد المحافظات الشرقية بهدف تقسيم البلاد.

الدخان يتصاعد في أعقاب غارة جوية شنها التحالف بقيادة السعودية استهدفت شحنة عسكرية غير قانونية (رويترز)

وتضمنت إجراءات حالة الطوارئ، وفقاً للقرار الرسمي، فرض حظر شامل على الحركة الجوية والبحرية والبرية في جميع المواني والمنافذ لمدة 72 ساعة، باستثناء الحالات المصرح بها رسمياً من قيادة تحالف دعم الشرعية، الذي تمثله المملكة العربية السعودية. كما منح القرار محافظي حضرموت والمهرة صلاحيات كاملة لإدارة شؤون محافظتيهما، والتعاون مع قوات «درع الوطن» حتى تسلُّم المعسكرات.

أشار القرار إلى أن جميع القوات العسكرية في حضرموت والمهرة مطالبة بالعودة فوراً إلى مواقعها ومعسكراتها الأساسية، والتنسيق التام مع قيادة التحالف العربي بقيادة السعودية، دون أي اشتباك، لضمان استقرار الوضعين العسكري والمدني في المحافظتين.

توضيح الموقف

في سياق بيان الموقف، أكد رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي الالتزام بحماية المدنيين، وصون المركز القانوني للدولة، ووحدة قرارها العسكري والأمني، محذّراً من خطورة التصعيد الذي يقوده «المجلس الانتقالي الجنوبي» في محافظتَي حضرموت والمهرة، ومندداً بما وصفه بتورط دولة الإمارات في دعم هذا التمرد، وتقويض مؤسسات الدولة الشرعية.

وقال العليمي، في بيان وجّهه إلى الشعب اليمني، إن التطورات الأخيرة في المحافظات الشرقية، وما رافقها من انتهاكات جسيمة بحق المدنيين «تأتي في توقيت بالغ الحساسية، بينما يخوض اليمن معركته المصيرية ضد الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران، ويكابد واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم». وشدد على أن أي انزلاق إلى صدامات داخلية أو فتح جبهات استنزاف جديدة لن يخدم سوى أعداء اليمن، ويقوّض فرص السلام.

مناصرون للمجلس الانتقالي الجنوبي الداعي للانفصال عن اليمن (إ.ب.أ)

وخاطب رئيس مجلس القيادة أبناء المحافظات الجنوبية، مؤكداً أن قضيتهم العادلة كانت ولا تزال في صلب مشروع الدولة الوطنية، وأن حقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية محل التزام كامل ضمن مرجعيات المرحلة الانتقالية، وبما يضمن شراكة مسؤولة تحفظ الكرامة، وتؤسس لاستقرار دائم. وفي الوقت نفسه حذّر من احتكار تمثيل القضية الجنوبية أو توظيفها لتحقيق أهداف سياسية غير مشروعة على حساب وحدة الدولة وسيادتها.

وأوضح العليمي أنه، ومن موقعه الدستوري بصفته قائداً أعلى للقوات المسلحة، أصدر توجيهات واضحة بمنع أي تحركات عسكرية أو أمنية خارج إطار الدولة أو دون أوامر صريحة من القيادة العليا «حرصاً على حقن الدماء ومنع الانزلاق إلى مواجهات داخلية». غير أن هذه التوجيهات، وفق البيان، قوبلت بالتجاهل، حيث مضت التشكيلات التابعة لـ«المجلس الانتقالي» في تنفيذ تحركات أحادية، تعدّ تمرداً على مؤسسات الدولة الشرعية.

تأييد مجلس الدفاع الوطني

أعلنت مؤسسات الدولة اليمنية، وفي مقدمها مجلس الدفاع الوطني، والحكومة الشرعية، والسلطة المحلية في محافظة حضرموت ووزارة الدفاع وهيئة الأركان، اصطفافها الكامل خلف قرارات العليمي، الهادفة إلى مواجهة تمرد المجلس الانتقالي الجنوبي، وإنهاء الوجود الإماراتي ضمن تحالف دعم الشرعية، إلى جانب إعلان حالة الطوارئ في عموم البلاد.

في ضوء هذا الاصطفاف، ترأس العليمي اجتماعاً لمجلس الدفاع الوطني، ضم أعضاء مجلس القيادة، ورؤساء السلطات التشريعية والتنفيذية، وقيادات عسكرية وأمنية، إلى جانب محافظ حضرموت؛ لمناقشة التطورات الخطيرة في محافظتي حضرموت والمهرة، وانعكاساتها على الأمن والاستقرار ووحدة القرار السيادي للدولة.

اجتماع لمجلس الدفاع الوطني اليمني برئاسة العليمي (سبأ)

وجدَّد مجلس الدفاع الوطني توصيفه لهذه التحركات بَعدّها «تمرداً صريحاً» على مؤسسات الدولة الشرعية، وتقويضاً لوحدة القرار العسكري والأمني، وتهديداً مباشراً للسلم الأهلي، محذراً من أن تداعيات هذا التصعيد تصبّ في مصلحة ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران، عبر تفجير الجبهة الداخلية، وتشتيت الجهد الوطني في مرحلة بالغة الحساسية.

وحسب الإعلام الرسمي، بارك المجلس قرارات العليمي المتضمنة إعلان حالة الطوارئ، وإنهاء الوجود العسكري الإماراتي في اليمن، عادَّاً أنها تجسد المسؤوليات الدستورية لقيادة الدولة في حماية المدنيين، وصون مؤسساتها الوطنية ومركزها القانوني، مؤكداً الرفض المطلق لأي محاولات لفرض أمر واقع بالقوة أو استخدام السلاح لتحقيق مكاسب سياسية.

ترحيب حكومي

أعلنت الحكومة اليمنية تأييدها المطلق لقرارات العليمي، عادّة إعلان حالة الطوارئ إجراءً دستورياً مشروعاً تفرضه الضرورة الوطنية لمواجهة التمرد المسلح، وحماية السلم الأهلي، ومنع الانزلاق نحو الفوضى وتقويض مؤسسات الدولة.

ورحَّبت الحكومة اليمنية في بيان بالإجراءات التي اتخذتها قيادة القوات المشتركة، بما في ذلك تنفيذ ضربة جوية محدودة ودقيقة استهدفت دعماً عسكرياً خارجياً غير مشروع في ميناء المكلا؛ بهدف حماية المدنيين ومنع عسكرة المواني والسواحل.

رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي (سبأ)

وفي امتداد لاصطفاف مؤسسات الدولة اليمنية خلف قرارات رئيس مجلس القيادة الرئاسي، أعلنت قيادة وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان العامة تأييدهما الكامل ومباركتهما للقرارات، عادَّتين أنها جاءت في «لحظة مفصلية» من تاريخ البلاد، واستجابة لتطلعات الشعب اليمني، وإنفاذاً للواجبات الدستورية والصلاحيات المنصوص عليها في الدستور ومرجعيات المرحلة الانتقالية.

وأكد بيان صادر عن قيادة وزارة الدفاع وهيئة الأركان أن القوات المسلحة اليمنية بمختلف تشكيلاتها تتمتع بروح معنوية عالية وجاهزية قتالية كاملة، تخولها تنفيذ مهامها الدستورية والوطنية في جميع الظروف، مشدداً على الالتزام التام بتنفيذ القرارات والإجراءات الصادرة عن القيادة العليا، بوصفها التعبير الشرعي عن وحدة القرار السيادي للدولة.

بدورها، أعلنت السلطة المحلية في محافظة حضرموت تأييدها الكامل لقرارات القيادة السياسية، واستعدادها للتنسيق مع قوات «درع الوطن» لتسلم المعسكرات والمواقع الحيوية، وضمان انتقال سلس وآمن للمسؤوليات العسكرية، داعيةً أبناء المحافظة والقوات المسلحة والأمن إلى الالتفاف حول القيادة الشرعية؛ حفاظاً على أمن حضرموت واليمن.


أهالي تاورغاء يشكون تجاهل «الوحدة» الليبية لأحكام القضاء

الدبيبة خلال زيارة إلى تاورغاء قبل 4 أعوام (مكتب الدبيبة)
الدبيبة خلال زيارة إلى تاورغاء قبل 4 أعوام (مكتب الدبيبة)
TT

أهالي تاورغاء يشكون تجاهل «الوحدة» الليبية لأحكام القضاء

الدبيبة خلال زيارة إلى تاورغاء قبل 4 أعوام (مكتب الدبيبة)
الدبيبة خلال زيارة إلى تاورغاء قبل 4 أعوام (مكتب الدبيبة)

أعرب سياسيون ونشطاء في مدينة تاورغاء الليبية عن استيائهم وشكواهم من تجاهل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، لحكمين قضائيين صادرين عن محكمتي استئناف طرابلس وبنغازي، يقضيان بوقف قرار الحكومة ضم المدينة إلى بلدية مصراتة.

ويأتي هذا الجدل بعد سبعة أعوام من توقيع اتفاق المصالحة بين المدينتين، الذي أنهى سنوات من الصراع والتهجير القسري، الذي تعرض له سكان تاورغاء عقب أحداث عام 2011.

وتضع هذه الشكاوى، حسب مراقبين، مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء الليبي محل تساؤلات، في بلد لا يزال يعاني انقساماً سياسياً وعسكرياً مستمراً منذ أكثر من عقد. فقد شهدت ساحات القضاء في طرابلس وبنغازي على مدى شهرين صدور حكمين؛ أولهما عن محكمة استئناف طرابلس في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قضى بوقف تنفيذ قرار حكومة «الوحدة» في الشق المستعجل من الدعوى، أعقبه حكم ثانٍ صادر مطلع الأسبوع الحالي عن محكمة استئناف بنغازي، قضى بإلغاء القرار نهائياً وقبول الطعن المقدم ضده.

في المقابل، التزمت حكومة الدبيبة الصمت إزاء هذه الأحكام، وباشرت عملياً إجراءات تُفسَّر على أنها تمهيد لتنفيذ قرار الضم، كان آخرها توجيه وزارة الصحة التابعة لحكومة الوحدة في 18 ديسمبر (كانون الأول) طلباً إلى إدارة الصحة في تاورغاء لتسليم مهامها إلى نظيرتها في مصراتة.

هذا السلوك، حسب رؤية عضو مجلس النواب الليبي، جاب الله الشيباني، مثّل «تجاهلاً صريحاً لأحكام القضاء وتقويضاً لمبدأ الفصل بين السلطات»، محذراً من أنه يقود إلى ما وصفه بأنه «تعزيز للشعور بانزلاق الدولة نحو الفوضى». ورأى الشيباني في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «أي إجراء لاحق لصدور هذين الحكمين يُعد مخالفة قانونية واضحة لأحكام القضاء».

وأوضح النائب الليبي أن بلدية تاورغاء «كيان إداري قائم بذاته منذ عقود»، ومعترف بها منذ عهد النظام السابق، قبل أن تُلغى بقرار إداري في المرحلة الانتقالية، التي أعقبت فبراير (شباط) 2011، ثم أعيد الاعتراف بها عام 2015 عبر مجلس تسييري، رغم ظروف التهجير القاسية التي عاشها سكانها، وفق تعبيره.

مبنى مهجور في مدينة تاورغاء غرب ليبيا (الشرق الأوسط)

وتعيد هذه التطورات إلى الأذهان اتفاق المصالحة التاريخي بين مصراتة وتاورغاء، الذي أُبرم برعاية دولية منتصف عام 2018، ونجح في طي عداء استمر قرابة ثماني سنوات، ومهّد لعودة النازحين إلى مدينتهم الواقعة على بُعد نحو 240 كيلومتراً شرق طرابلس.

غير أن قرار ضم تاورغاء إلى مصراتة، الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، أعاد إشعال التوتر، بعدما نص على تحويل تاورغاء إلى فرع بلدي تابع لمصراتة، وهو ما قوبل برفض واسع من الأهالي، الذين عدوا الخطوة انتقاصاً من استقلاليتهم الإدارية، وتهديداً لحقوقهم القانونية المكتسبة، ودفعهم للجوء للقضاء.

ويستند الطاعنون في قرار حكومة «الوحدة» إلى أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات كانت قد اعتمدت تاورغاء بلديةً مستقلة، بموجب قرارات تنظيم الانتخابات البلدية التي انطلقت عام 2014، في حين صدر قرار ضمها إلى بلدية مصراتة في يوم إجراء الانتخابات نفسها، وفق ما يوضحه لـ«الشرق الأوسط» المحامي زياد أبو بكر هيركة، أحد مقدمي الطعن أمام محكمة استئناف طرابلس، الذي عبّر عن استغرابه من عدم امتثال السلطة التنفيذية للأحكام القضائية.

كما أوضح الشيباني أن إدراج تاورغاء ضمن البلديات المشمولة بانتخابات المجالس البلدية يمثل «اعترافاً رسمياً بتوافر مقومات البلدية من حيث السكان والجغرافيا والبنية الاجتماعية والاقتصادية»، لافتاً إلى أن عدد سكانها يتجاوز 50 ألف نسمة.

من جهته، يرى الناشط الليبي عياد عبد الجليل أن الإشكال «ليس مع مدينة مصراتة، التي تم تجاوز الخلاف معها عبر المصالحة، بل مع الحكومة التي تتجاهل المطالب المشروعة لأهالي تاورغاء، بالحفاظ على بلديتهم المستقلة»، عاداً في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن تجاهل الأحكام القضائية «يعكس استمرار ممارسات تُقوّض استقلالية المؤسسات القضائية».

وفي انتظار ما ستسفر عنه التطورات القضائية، يترقب أهالي تاورغاء حكماً جديداً من محكمة في طرابلس بشأن موضوع الطعن، للفصل النهائي في مصير قرار الضم.

ويقول النائب الشيباني إنهم «ينتظرون صدور الحكم لإحالته إلى رئاسة مجلس النواب، من أجل مخاطبة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات لإجراء الاقتراع البلدي في تاورغاء»، محذراً من أن «أي تدخل أمني لمنع هذا الاستحقاق سيقابل بمواقف واضحة».

في المقابل، يلوّح المحامي هيركة بما وصفه أنه «مسار قانوني مواز»، مشيراً إلى أن «إصرار الحكومة على عدم تنفيذ الأحكام القضائية قد يدفع إلى تحريك دعوى جنحة مباشرة ضد رئيس الحكومة بشخصه، لامتناعه عن تنفيذ حكم قضائي واجب النفاذ».

ورغم هذا المشهد المتوتر، ترى نادية الراشد، العضوة السابقة في المؤتمر الوطني العام، بارقة أمل في صدور الحكمين المتطابقين من بنغازي وطرابلس، عادّةً أن ذلك «يعكس وحدة الموقف القانوني، ويؤكد اختصاص القضاء بعيداً عن العبث السياسي»، مضيفة أن هذه الأحكام «تثبت أن القانون، متى أُتيح له المجال، قادر على تصحيح المسار وحماية استقلالية القضاء».