«ابن خلدون وقرّاؤه» مقاربات آيديولوجية متناقضة

نشره المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة»

«ابن خلدون وقرّاؤه» مقاربات آيديولوجية متناقضة
TT

«ابن خلدون وقرّاؤه» مقاربات آيديولوجية متناقضة

«ابن خلدون وقرّاؤه» مقاربات آيديولوجية متناقضة

لقّبه البعض بالمؤسّس الفعلي لعلم الاجتماع، وقيل عنه إنه يفكّر في القرن الرابع عشر بعقل أُعدّ للقرن العشرين. اهتمّ في كتاباته بقوانين العمران البشري، لذلك سمي مؤسّس علم العمران البشري، فكّك مفاهيم سيكولوجيا الشعوب والعصبية وأطوار انهيار الدولة، فكان من كبار المطوّرين للفكر السياسي، نظراً إلى حجم إسهاماته في فلسفة التاريخ والنظم السياسية. ذلك هو ابن خلدون الذي لا يزال يشغل الدنيا، وهذا يفسّر حجم المؤلّفات الصادرة حوله، من بينها كتاب «ابن خلدون وقرّاؤه» لأحمد عبد السلام، الصادر بالفرنسية وترجمه إلى العربية الصادق الميساوي، ونشره مؤخراً المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة».
يشير المؤلّف في التمهيد إلى أنّ الكتاب يحتوي على دروس ألقاها في «الكوليج دي فرانس»، وهي تأتي في نظره ضمن تجديد الدراسات الخلدونية باعتبارها إشكالية الطابع وشديدة التنوع، فهي جامعة بين تعبيرية الفلاسفة ومصطلحات السوسيولوجيا ومفردات المؤرّخين. ومن هنا، استدعت أعمال ابن خلدون قراءات علمية متعدّدة المناهج، ومقاربات آيديولوجية مختلفة إلى حد التناقض التام، وهوما تجسّده الدراسات الاستشراقية للمقدمة، حيث تنسبها «حيناً إلى علم الاجتماع وحيناً آخر إلى فلسفة التاريخ»، بل أدّى الفكر الخلدوني إلى بروز مدارس مثل المدرسة الخلدونية في تركيا من أبرز رموزها حاجّي خليفة. كما اهتمّت بحوث استشراقية أوروبية بالمقدّمة أساساً «فقد لاحظ المستشرقون تشابهاً بين ما ورد فيها وأفكار أهل عصر الأنوار من أمثال مونتسكيو». وتكمن في هذا المجال النزعة التقدمية - التحررية والبعد الكوني لدى ابن خلدون، لذلك اعتبره جوزيف فون هامر برغستال مونتسكيو العرب، ويسميه آخرون مونتسكيو الشرق. كما يؤكّد صاحب «ابن خلدون وقرّاؤه» على أن اهتمام الاستشراق الأوروبي بابن خلدون لم يكن حكراً على بعض المؤرّخين والمهتمين بقضايا العمران البشري، بل خصّصت له مؤلّفات وحوليات وملتقيات على غرار ما نشره حوله الفيلسوف النمساوي فريديريك شولتر، المنبهر بعمق وعلميّة الأطروحات الخلدونية في المجالات السياسية والاجتماعية.
ومن حجج اعتناء الاستشراق الأوربي بابن خلدون في نظر الكاتب النقد المقارن بين صاحب المقدّمة وكبار الفلاسفة الغربيين، ففي هذا الصدد قارن المستشرق السويدي جاكوب غرابرغ دي همسو بين ابن خلدون ومكيافلي، مؤكّداً تأثير الفكر الخلدوني في صاحب الأمير، ومن تلك البراهين كذلك ترجمة المقدّمة إلى لغات عالمية، من بينها ترجمة كاملة إلى اللغة الفرنسية أنجزها دي سلان.
تلك هي القراءات الخلدونية متنوعة بتنوع القرّاء آيديولوجياً وإيبستيمولوجياً وسياقياً، ولا يمكن لأحد دحض مشروعية كل قراءة، بما في ذلك ابن خلدون نفسه، لأن النص ملك لقارئه، شريطة أن يمتلك الأدوات المعرفية الضرورية، فالمقدمة تحيل إلى تأمّلات فلسفية، وإن نفى ذلك بعض القراء، وفهمه للعمران البشري ينزّله البعض ضمن المبحث السوسيولوجي لكن يستوعبه بعضهم في سياقات معرفية مغايرة.



10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر
TT

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر

لطالما حظيت روايات الكاتبة الأسترالية هيلين غارنر بتقدير كبير من الأشخاص الذين أثق بذوقهم. ومع ذلك، عندما كنت أبدأ بقراءة رواياتها كنت أرتد عنها مثل مركبة فضائية أخطأت في العودة إلى الغلاف الجوي للأرض. لا بد أن يكون لكل قارئ كاتب أو اثنان من هذا القبيل، كاتب أو اثنان يشعر بأنه يجب أن يُعجب بهما لكنهما لا يكونان كذلك أبداً. بدت أعمال غارنر، في قراءاتي الموجزة ركيكةً، ركيكة وتفتقر إلى الصقل.

والآن يأتي كتاب «كيف تُنهي قصة»، وهو كتاب بوزن ثقيل للغاية يجمع 3 مجلدات من مذكراتها اليومية من 1978 إلى 1998، بدءاً من منتصف الثلاثينات من عمرها. يقع هذا الكتاب في أكثر من 800 صفحة، وهو يضم كثيراً من مذكرات غارنر اليومية (دون صلة مباشرة). كدتُ أضع هذا الكتاب جانباً أيضاً لأنه يبدأ بداية مرتجلة ومترددة.

نقاد الكتب، مثل العاملين في مجال النشر، يبحثون دائماً عن عذر للتوقف عن القراءة. لكن بعد فترة من الوقت بدأتُ في الانسجام مع صوتها. وبحلول ربع الطريق، كنتُ غارقاً بين يديها تماماً. ويا لخطئي الفادح!

هذا الكتاب موجه إلى الانطوائيين، الحذرين والمتشائمين، غير المتيقنين من مظهرهم أو ذوقهم أو موهبتهم أو مكانتهم الطبقية. تمتلك غارنر صوتاً مثالياً للتعبير عن مخاضات القلق والضيق في وقت متأخر من الليل، بعضها أكثر هزلية من البعض الآخر. أسلوبها في النثر واضح وصادق ومقتصد؛ إما أن تقبله أو ترفضه، على الطريقة الأسترالية.

وهي في سردها من النوع الذي قد يُخطئ الناس في اعتبارها أحد العاملين في مهرجانات الكتاب. يتوجَّه الناس إليها على نحو مفاجئ ويسألونها: «ما الخطب؟» (وهذا أمر أكرهه بصورة خاصة أيضاً). وهي تخشى على آداب المائدة. يقول لها المصورون أشياء مثل: «إن هيئة وجهك ليست هي الأفضل».

إذا سبق لك أن نظرت إلى صورة فوتوغرافية لنفسك وشعرت بالذهول من قبح مظهرك، حسناً، إن غارنر هي صاحبة السبق في هذه التجربة:

* لقد عرضت عليّ بعض الصور التي التقطها لي العام الماضي وصُدمت من قبح مظهري: بشرة مرقطة، ووجه مجعد، وقَصة شعر قبيحة، وتعابير داكنة. أعني أنني صُدمت للغاية. وذعرت من احتمال أن أكون بمفردي الآن لبقية حياتي.

يمتد إحساسها بعدم الجدارة إلى كتاباتها الخاصة. تقول: «أنا مجرد حرفية ذات مستوى متوسط». و«الحزن ليست كلمة قوية للغاية لما يشعر به المرء أمام ضعفه وتواضعه». إنها تحارب مستويات من «متلازمة المحتال» من الدرجة الفائقة للغاية.

احتفظ الكُتّاب بمذكرات لأسباب لا تُعد ولا تُحصى. تمنت آناييس نين أن تتذوق الحياة مرتين. وكانت باتريشيا هايسميث تتوق إلى توضيح «الأمور التي قد تهاجم ذهني وتحتل مُخيلتي». كما أرادت آن فرنك أن تستمر في الحياة بعد موتها. وشعرت شيلا هيتي بأنها إذا لم تنظر إلى حياتها من كثب فإنها تتخلى عن مهمة بالغة الأهمية.

تلك هي غرائز غارنر أيضاً. لكنها تقول أيضاً وبكل افتتان: «لماذا أكتب هذه الأشياء؟ جزئياً من أجل متعة رؤية القلم الذهبي يتدحرج على الورق كما كان يفعل عندما كنت في العاشرة من عمري». كانت هذه الكتابة تخدم غرضاً أكثر جدية. إذ قالت غارنر ذات مرة لمجلة «باريس ريفيو»: «المذكرات اليومية هي الطريقة التي حوَّلتُ بها نفسي إلى كاتبة - تلك هي الـ10 آلاف ساعة خاصتي».

تتألق تفاصيل حياتها اليومية دوماً في هذا الكتاب - النباتات المزروعة في الأصص التي تنمو إلى جانبها، ورحلات التسوق («كيمارت، ومنبع كل الخير»)، وحفلات العشاء، وغسل ملابسها الخاصة في دلو، وإزالة فضلات الكلب، وإصلاح التنورة، والذهاب إلى السينما، والاحتفاظ بنسخة من كتاب «الفردوس المفقود» في الحمام الخارجي. تعيش أحياناً في شقق صغيرة في المدينة، وأحياناً أخرى في منزل ريفي حيث ترى الكوالا، والكنغر، والنسور، والكوكابورا.

هذا هو تقريرها عن إحدى وجبات تناول العشاء في الخارج: «في منزل الهيبيز لتناول العشاء، وجدت في شريحة الكيشي التي أتناولها عنصرين غريبين: عود ثقاب مستعمل وشعر. أخفيتهما تحت ورقة الخس وواصلنا الحديث».

حديثها الأدبي يتسم بالحماسة والبراعة: «تظل العاطفية تتطلع من فوق كتفها لترى كيف تتقبل الأمر. لكن (الانفعال)، على الرغم من ذلك، لا يهتم سواء كان أحد ينظر إليه أم لا».

إنها تقيّم منطقة الانفجار حول بعض الأمور المملة. عن عشاء مع أكاديميين، تكتب قائلة: «أعفوني من افتراض كبار السن الهادئ بأن أي شيء يقولونه مهما كان مملاً أو بطيئاً أو رتيباً يستحق أن يُقرأ وسوف يحظى بجمهور».

لا يحتاج هذا الكتاب إلى جرعة من الدراما، ولكن الجرعة تأتي لا محالة. بعد زيجتين فاشلتين، تدخل غارنر في علاقة مع كاتب صعب المراس ومتزوج، تدعوه باسم «ڨي». (إنه الروائي موراي بايل). وفي نهاية الأمر يتزوجان، وتزاحم احتياجاته احتياجاتها فتغلبها. ثم تشرع في الشعور وكأنها دخيلة في شقتها الخاصة. فهو الذي تحق له الكتابة هناك، بينما يجب عليها الذهاب إلى مكان آخر للعمل. إنه يغار من أي نجاح تحرزه بنفسها. فأيهما هو المضيف وأيهما الطفيلي؟

يبدأ الزوج علاقة غرامية مع امرأة أخرى، وهي رسامة، ويراوغ ويكذب. تتظاهر غارنر، لأشهُر، بأنها لا تلاحظ ذلك. وتتشبث به لفترة أطول مما تتصور. ويصبح الأمر مروعاً. فعلاقتهما صارت الوعاء الذي تتكسر فيه عظامها حتى تستحيل إلى عجينة. وتكتب فتقول: «للمرة الأولى، بدأت أفهم نفسية النساء اللاتي يبقين مع رجال يضربونهن باستمرار».

العمل هو خلاصها وجسرها إلى العالم. خطتي هي أن أعود إلى كتبها الأخرى، وأن أخوض فيها هذه المرة لما هو أبعد من حجم كاحلي.

*خدمة «نيويورك تايمز»