مختصون عراقيون يحذرون من تخريب معالم بغداد الأثرية

في الوقت الذي تتراجع وتندثر فيه معظم معالم المباني التراثية والأثرية في العاصمة العراقية بغداد مع تقدم السنين وضغط العوامل المناخية، وفقدانها الرعاية والاهتمام، يفاجأ معماريون ومختصون أكاديميون بعمليات عشوائية لصيانة بعضها بشكل يزيدها خرابا ويعرضها للاندثار بطريقة أسرع، ومعظم تلك العمليات تقوم بها جهات حكومية دون استشارة خبراء معنيين بالآثار، وكان آخرها تدمير بناية متصرفية بغداد الأثرية العائد تاريخها إلى ثلاثينات القرن الماضي في شارع المتنبي وسط بغداد.
وتشهد مناطق عدة من بغداد عمليات منظمة وعشوائية لتقويض بيوتها ومعالمها التراثية المميزة والضاربة في القدم وتجريف أشجارها المعمرة، وتغيير ملامحها وخريطتها لصالح منشآت استهلاكية وعمارات مغطاة بمادة «الأكوبوند» التي تتناقض مع فطرتها البيئية وتقاليدها البصرية، مما أدى إلى تراكم التلوث البصري فيها، إضافة إلى التجاوز على المساحات الخضراء، وخرق التصميم الأساسي للمدينة، وتشويه معالم العمارة البغدادية المعروفة.
يقول الكاتب والمصور الفوتوغرافي هاتف فرحان، لـ«الشرق الأوسط»: «أعلنت محافظة بغداد في وقت سابق عزمها على تأهيل بناية متصرفية بغداد وتحويلها إلى قصر ثقافي، بعد أن كانت مكبًّا للنفايات، وهي البناية التي بنيت في ثلاثينات القرن الماضي، لكن الذي حصل أن عمليات التأهيل اقتصرت على دفن النفايات وزراعة مادة (الثيل) فوقها، مما أضعف كثيرا من معمارها بسبب المياه التي تستخدم لأجل سقي المساحة الخضراء». وأضاف: «ارتفاع أرضية المتصرفية نتيجة لطمر النفايات، دفع المشرفين على الإعمار، إلى تشييد سلم جديد فوق القديم، وهذا تشويه لأصل البناء، كما أن آثار الهلاك باتت واضحة على جدران المبنى، وهناك احتمال لانهياره بالكامل». وتُقابل المتصرفية، مبنى القشلة، قرب مقهى الشابندر الشهير، في شارع المتنبي، المُطل على نهر دجلة، وسط بغداد، وتعاني اليوم من تشويه كبير أصابها، بعد طمر النفايات فيها، وهي تشهد ارتياد الشباب لها لالتقاط الصور دون معرفتهم باسم المبنى وتاريخ تأسيسه في غياب أي علامة دالة عليه. وسبق أن أعلنت محافظة بغداد نيتها الاستفادة من بنايتها وقاعاتها الداخلية وتحويلها إلى قاعات للمعروضات أو الرسوم أو إنشاء مسرح أو غيرها من الفعاليات الثقافية والفنية. مهندس العمارة والتخطيط الحضري محسن علي الغالبي، علق على ما يعانيه مبنى المتصرفية أو الكتاب العدول من خراب وإهمال، بالقول: «يعد المبنى أحد أهم الشواهد التاريخية في بغداد، بسبب قدمه وقربه من المواقع التي شغلتها الحكومة أيام الحكم العثماني ووزارة المعارف ووزارة الداخلية والدفاع في فترات لاحقة»، ويضيف: «كل ما في المبنى تهدم إلا واجهته، وذلك هو الأهم، لأن واجهة المكان هي التي تنقل الرسالة الأبلغ للمتلقي، لكنها بانتظار من يهتم بها، ويراعي مسألة الحس التاريخي في عملية إعمارها». لكن مديرة دائرة التراث في وزارة السياحة والآثار فوزية المالكي، تقول إن «معظم المباني التراثية كان يمتلكها أثرياء بغداد، أما حاليا فيشغلها متجاوزون وهم ليسوا من سكان بغداد أصلا، ويحاولون هدمها لإعادة بنائها من جديد».
وكان نشطاء قد أطلقوا حملة مدنية كبرى تهدف للحفاظ على هوية بغداد الحضارية والأثرية، وطالبوا السلطات التشريعية والتنفيذية المحلية في البلاد ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) بحماية هوية بغداد من كل أشكال التخريب الذي يطالها، وتطبيق عقوبات صارمة للحد من الظاهرة. تقول الناشطة والنائب في البرلمان العراقي، شروق العبايجي: «لم تزل بغداد تتعرض ومنذ عقود إلى أكبر عملية تشويه لهويتها الحضارية، وتخريب وتدمير لمبانيها وملامحها التراثية والتاريخية مقابل انتهاك وإهمال واضحين من كل السلطات، وكل ما يجري من عمليات صيانة يتم بطريقة ارتجالية أسهمت في تشويه معالم هذه المدينة المنكوبة المنكسرة بدلا من إعمارها».
من جانبه، قال د. علي ثويني، معماري وباحث أكاديمي: «لا بد من تشريع قانون لحماية الإرث العمراني والحضاري لمدينة بغداد، وذلك من خلال تشكيل هيئة عليا مختصة تضم أهم المعماريين والتراثيين والمؤرخين والمختصين الأكاديميين، من ذوي السمعة والخبرة، للعمل على وضع رؤية وفلسفة عمرانية ومعمارية متطورة، ووضع دراسات جدية شاملة، مع إيجاد آليات فاعلة للتنفيذ الصحيح تهدف إلى إعادة بغداد إلى ألقها ومكانتها الرفيعة، لتستعيد الأذهان الصورة المتخيلة التي يعرفها العالم عن بغداد».