ولد في النيجر وانتقل للعيش في شمال لبنان إلى أن بعث به والده إلى مدرسة فرنسية خاصة في منطقة نورماندي وهو ما زال دون العاشرة من العمر. ويقول: «أنا في حياتي لم أحب المدرسة. العمل الوحيد الذي كنت أتوق لتحقيقه في المستقبل كان السينما. ابتدأت بتصوير أفلامي بكاميرا فوتوغرافية لقطة وراء لقطة». السبب في اعتماد على الكاميرا الفوتوغرافية يعود إلى أن والدته كانت مغرمة بالمجلات الفرنسية التي كانت تقوم، بدورها، على نشر حكايات مصوّرة لقطة - لقطة («فوتو رومان») وهو تناول هذا الشغف وقرأ وحاول تقليد ما نشرته تلك المجلات.
- انتقال دائم
يفاجئنا جورج شمشوم بأنه دخل معهداً لدراسة الاقتصاد. تخاله أبعد ما يمكن للمرء أن يكون عن ذلك المضمار. أسأله كيف حدث ذلك الاختيار وأين؟
«في سن شاب تريد أن تستمع لنصيحة الأهل وتختار دراسة في ميدان معيّن. تركت فرنسا إلى ويلز (بريطانيا) ودخلت الجامعة هناك لسنتين، لكني لم أكن سعيداً. تركته والتحقت بالكونسرڤتوار دو سينما». تخرّج شمشوم في مدرسة السينما عام 1968 وفي ذلك الحين التحق بفريق المخرج رومان بولانسكي الذي كان يصوّر فيلمه «نفور» (Repulsion) في بولندا.
> كيف تم لك ذلك جورج؟
- كجزء من دراستي في المعهد كان علي الذهاب إلى حيث يتم تصوير الأفلام. هناك التقيت برومان بولانسكي. كنت لحوحاً في طلب حضور تصوير فيلمه المقبل «نفور» الذي كان سيصوّره في بولندا. لكنه كان يصرفني قائلاً انتظر الوقت المناسب. حان ذلك الوقت المناسب عندما فوجئ الشاب اللبناني برومان يقول له «لدي مفاجأة لك. رتّبت لك زيارة بولندا للدراسة». «عشت في وورسو وسوبوت ووتش لثمانية أشهر دخلت فيها معهداً آخر لاستكمال دراستي. هناك أدركت أنني بت جاهزاً لأصبح مخرجاً. كان هدفي تحقيق ذلك الحلم الذي سعيت له منذ أن كنت ولداً. لا شيء سواه».
عاد جورج شمشوم إلى فرنسا ثم توجه في صيف عام 1968 إلى لبنان: «حظي كان جيداً حيث إنني تخرجت بالفعل من المعهد الفرنسي في ذلك العام لأنه كما تعلم كان عام الثورة الثقافية في فرنسا وكثير من طلاب السينما تعذر عليهم التخرج في تلك السنة».
> ما الذي فعلته حال عودتك؟
- جمعت أصدقائي في قضاء زغرتا وأخرجت أول فيلم لي وعنوانه Inside - Out.
> على ما أذكر تعرّض هذا الفيلم لمشاكل رقابية.
- نعم. موضوعه كان صعباً في ذلك الحين. كان عن الشباب المنغمس بالإدمان على المخدرات وكانت به مشاهد عارية.
> ألم تكن تعرف أن القوانين اللبنانية تمنع مثل هذه المشاهد؟
- حينها لا طبعاً. عدت من أوروبا بمفاهيم أوروبية. أحدهم أخبرني خلال التصوير بأنني قد أجد مشكلة مع الرقابة في لبنان، لكني اعتقدت أنني سأتجاوز هذه المشكلة ومشكلة تصوير الشباب المدمن لأن الموضوع جاد وليس للاستغلال التجاري. لكني كنت على خطأ.
- مشاكل أُخرى
فيلم جورج شمشوم الثاني كان «سلام بعد الموت» صوّره سنة 1969 وأنجزه سنة 1970. كان أول فيلم روائي له وأول إطلالة حقيقية على الوضع السينمائي اللبناني.
أيامها كانت هناك نهضة سينمائية لبنانية قوامها خمسة شبّان هم رفيق حجار وسمير الغصيني وسمير خوري وتيسير عبود وجورج شمشوم. كل واحد من هؤلاء بدأ التصوير في الفترة ذاتها وأطلق فيلماً مختلفاً في الأسلوب وناصية الاهتمام عن الآخر.
رفيق حجّار صوّر مشاهد من عدة أفلام لم تُنجز كاملة نظراً لصعوبات إنتاجية جمّة. تأخر مشروعه عدة سنوات قبل أن يعرض «الملجأ»، فيلم من نواة الحرب اللبنانية التي كانت دائرة عندما تم إنجاز الفيلم سنة 1978 حول شخصيات مختلفة تجد نفسها قابعة في ملجأ بناية مقابل قنّاص ينتظر خروجهم ليقضي عليهم.
بعد فيلم طويل آخر عن الحرب اللبنانية عنوان «الانفجار» (1982) غادر رفيق حجار لبنان مفلساً من المال والطموحات ليحط أولاً في بغداد، العراق، (حيث بحث عن فرص عمل في أفلام تسجيلية) ثم في الرياض، السعودية، ليعمل في الظل مصوّرا ومدير تصوير تلفزيوني. هناك استقر حتى وفاته قبل بضع سنوات.
سمير غصيني كان الأكثر نجاحاً من بين الجميع. أنجز من إنتاج السوري أنور القوادري فيلمه الأول «قطط شارع الحمرا»: موضوع خيالي الحدوث حول «ملائكة جحيم» من راكبي الدراجات النارية (بينهم يوسف شعبان) في موازاة موجة من الأفلام الأميركية التي أخرجها بضعة تواقين للموضوع ذاته مثل جاك ستارِت وتوم لفلن وأرنست شميت. به، ركب الراحل الغصيني موجة الأفلام الترفيهية وجاور المخرج المخضرم (والراحل أيضاً) محمد سلمان في المنحى الترفيهي البحت الذي خطّه لنفسه.
أما سمير خوري فقد عمد إلى ما اعتبره مزجاً بين الفن والترفيه فحقق فيلمين أثارا ضجة كبيرة حينها (وعُرضا بقدر من التردد) هما «سيدة الأقمار السوداء» (عُرض سنة 1971) و«ذئاب لا تأكل اللحم» (1973). بدوره توجه تيسير عبّود للسينما الجماهيرية مباشرة بأول أفلامه «جنون المراهقات» الذي قام بتصويره بين لبنان ومصر وانتقل للعيش في القاهرة حيث أنجز بضعة أفلام من النوع ذاته قبل أن يدخل العمل التلفزيوني ويستمر فيه طويلاً وإلى اليوم.
أما جورج شمشوم فكان قرر الالتزام بلبنانيّته. يقول: «أحببت أن أقوم بدوري في دعم السينما اللبنانية وما زلت. في تلك الفترة لاح لي ولغيري من المخرجين الجدد بأنني مسؤول عن نهضة هذه السينما. ليس لأنها لم تكن موجودة في شكل أفلام تجارية وإنتاجات مصرية وسوريا ولبنانية، لكن الهوية اللبنانية كانت بالكاد موجودة». واجه في «سلام بعد الموت» مشكلة من نوع آخر. قبل ذكرها، لا بد من القول إن المخرج شمشوم أراد فيلماً لبنانياً وإن لم يُمانع في جلب الممثلة سميرة أحمد لكي تؤدي الدور النسائي الأول. لكنه طلب منها، بل وأصر، على أن تتحدث باللهجة اللبنانية. مبرر ذلك كان بسيطاً: «تؤدي دور لبنانية ولا يمكن بأي حال أن أتركها أو أترك أي ممثل أو ممثلة في الفيلم لا يتحدث لغة البلد. هذا كان طبيعياً جداً ولو أني على دراية بأفلام كثيرة في تلك الفترة تم فيها جلب ممثلين من مصر للعب شخصيات لبنانية مع الحفاظ على لهجاتهم المصرية».
لجانب سميرة أحمد كان هناك الكوميدي الرائع شوشو والممثل اللبناني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة ثم (قيل) توفي هناك عبد الله الشمّاس (ابن المطربة صباح).
> هل تذكر ما المشاكل التي واجهت ذلك الفيلم؟
- كثيرة. في الأساس صوّرت الفيلم بالأبيض والأسود. هذا في مطلع السبعينات كان شيئا غير متوقع ولا هو مقبول. عندما انتهيت من الفيلم درت به على كل شركة توزيع لبنانية لكن لا أحد منها قبل بتوزيع الفيلم. فوق ذلك كله وكما ذكرت صوّرت الفيلم باللهجة اللبنانية والبعض نصحني بإجراء دبلجة مصرية لكني رفضت.
في نهاية المطاف قام المخرج بعرض الفيلم على مجموعة من النقاد، وأحدهم كان يملك سُلطة قوية لكونه عمل في صحيفة «النهار» التي كانت أقوى صحف لبنان آنذاك، كتب مهاجما الفيلم واصفاً صاحبه «بالبرجوازي» ومسدياً نصيحة قاتلة قال فيها «احرق هذا الفيلم». يكمل شمشوم سيل ذكرياته: «في تلك الفترة أنشأت وأصدقائي مجلة سينمائية تعنى بالأفلام والمقابلات اسمها (فيلم) واظبت الصدور أسبوعياً باللغتين العربية والفرنسية. للأسف الشديد لم تستمر طويلاً لأن المعلنين لم يبادروا لتشجيعها وتوقفت».
- مجلة وبصمات حرب
على ذلك، لا بد من القول إن هذه المجلة تركت بصمة حيّة في الثقافة السينمائية في لبنان خصوصا أنها توجهت لاستكتاب نقاد من دول عربية عدة. أعدادها، التي جاوزت باللغتين، 60 عدداً، شملت مقالات من سامي السلاموني وبكر الشرقاوي من مصر والطاهر الشريعة من تونس ومصطفى أبو غنيمة من الأردن ولفيف من النقاد السوريين بينهم رفيق الأتاسي ومحمد شاهين. كذلك من لبنان بالطبع مثل كاتب هذه الكلمات وإدغار نجار وإميل شاهين وسواهم. انطلقت هذه المجلة سنة 1973 وتوقفت في العام التالي، وفي سنة 1975 عاد جورج شمشوم إلى رحاب الإخراج. هذه المرّة كانت عبر فيلم تسجيلي طويل آخر عنوانه «لبنان لماذا؟».
> جورج ما الدافع الذي كان وراء هذا الفيلم؟
- لأن الحرب كانت بدأت في سنة 1975 ووجدت أن علي طرح السؤال حولها. لماذا لبنان ولماذا تلك الحرب في لبنان. كيف انتشرت وماذا قدّمت ولماذا استمرت؟». يُضيف: «صوّرت الفيلم من سنة 1975 وحتى سنة 1979. أحببت أن أعرض كل وجهات النظر وكل الأطراف. كنت مع اليسار وكنت مع اليمين. كنت مع الفلسطينيين وكنت مع الكتائب. انتشرت بين كل الأطراف ولم أقبل أن أتخذ موقفاً مع أو ضد أحد». بالنسبة إليه، كما يكشف في فيلمه الجديد، الحرب اللبنانية كانت سرطاناً و«أنا كنت الجرّاح. أريد فتح هذا الجسم واستخراج السرطان منه. هذا ما أردته في الفيلم. لم أرد تصوير رسالة يمينية ولا رسالة يسارية بل تصوير الحقيقة كما تقع».
جلب الفيلم متاعب أخرى للمخرج الطموح. كوّنت له أعداء من حيث لم يرغب. بعض أفراد عائلته قالوا له إنه «باع» نفسه لليسار وبعض القوى اليسارية وصفته والفيلم بأنه يميني. جاب الفيلم بعض المهرجانات الدولية وعُرض تجارياً في لندن وباريس ولوس أنجليس، المدينة التي انتقل جورج شمشوم إليها منذ نحو 30 سنة ولا يزال. قبل مرحلته هذه ترك لبنان إلى لندن وباريس وأنجز عدداً من أفلام «الفيديو كليبس» أهمها فيلم غنائي بعنوان «لبنان» و - لاحقاً - «جميلة دليلة» الذي نال شعبية كبيرة. تم عرضه تلفزيونياً واستولى على الرقم الأول في النجاح بين أغاني «الفيديو» لعدة أسابيع. قبل لوس أنجليس أيضاً حط في واشنطن دي سي حيث ساعدته عضوة الكونغرس ماري - روز عوكر (اللبنانية الأصل) لتسلم وظيفة أحد مصوّري الكونغرس الفوتوغرافيين. لكن هوليوود بقيت المُراد الأول وإليها انتقل بعد ثمانية أشهر وبدأ مشواراً جديداً حيث أنتج وأخرج للسينما والتلفزيون عدة أعمال قبل أن يتسلم، من ستة أعوام، إدارة مهرجان «آسيا فيلم وورلد» الذي يعرض، في نوڤمبر من كل سنة إنتاجات أكثر من خمسين دولة آسيوية بينها ما هو متاح من الأفلام العربية.
- توجّه
«جورج شمشوم بكلماته الخاصة» يقصد أن يوجز سيرة حياة يتولى التوجه بها مباشرة إلى الكاميرا. لكنه، لكونه المخرج كذلك، لم يرد البقاء في الصورة لدقائق الفيلم التي تقترب من عشرين دقيقة، بل وزّع على الفيلم، ومن بدايته حتى النهاية، صوراً متحركة وكثيرة ثابتة عن كل مرحلة من مراحل مهنته. نجده يقوم بمهمة الإخراج في مطلع الفيلم. نتابع صور العمل خلال «سلام بعد الموت» ثم خلال كل فيلم آخر حققه حتى في هوليوود وصور الأشخاص الذين التقى بهم سواء من نجوم الشاشة الكبيرة (بو ديريك وستيفن سيغال وشوشو بين وآخرين) أو من بين مساعدين وفنيين آخرين.
هناك، أيضاً، تلك الصورة اللافتة التي التقطت لجورج شمشوم خلال تصوير «لبنان لماذا؟» نراه فيها يحمل بعض معدات التصوير وينتقل موطأ الرأس خلف أحد المتاريس لتجنب إطلاق النار عليه من الجانب الآخر.
هو، قبل كثيرين من المخرجين اللبنانيين الذين تطرّقوا إلى تلك الحرب اللبنانية، كان البادئ في تصويرها ومعالجتها. وإذ أنجز فيلمه ذاك بعد أربع سنوات من اندلاعها، ترك في البال صرخة مواطن لبناني يطرح السؤال الموجع عن كيف يمكن للبنان أن يتحوّل إلى ساحة حرب. لبنان دون - (وقبل سواه) - الدول العربية الأخرى.
مشاهدة الفيلم من جديد الآن تعلن عن دور السينمائي حين يريد أن يكون وسيطاً بين اتجاهات. قد لا ينجح تماماً إذ يميل قليلاً إلى وجهة نظر معينة ثم إلى وجهة نظر أخرى مضادة وبقدر من التفاوت، لكنه يبقى صلباً في موقفه الباحث عن إجابات. بعد هذا المشوار الطويل من المهنة يحق له أن ينجز هذا الفيلم القصير عن مسيرته حتى وإن لم يعتزل العمل السينمائي ولا يرضى أن يفكر باعتزاله: «إذا كنت تحب ما تقوم به فإنك تعتزل فقط عندما تموت. ما أردته من خلال هذا الفيلم هو التذكير بأنني وجّهت حياتي إلى حيث رغبت بها أن تكون. أحببت السينما وعملت لها وانتقلت عبر بلدانها. أنا نيجيري المولد، لبناني الانتماء، فرنسي الدراسة وأميركي الروح».