«بدو النقب وبئر السبع»... 100 عام من الاحتلالات والكفاح

«بدو النقب وبئر السبع»... 100 عام من الاحتلالات والكفاح
TT

«بدو النقب وبئر السبع»... 100 عام من الاحتلالات والكفاح

«بدو النقب وبئر السبع»... 100 عام من الاحتلالات والكفاح

صدر كتاب «بدو النقب وبئر السبع 100 عام من السياسة والنضال» للدكتور منصور النصاصرة، ترجمة ساندرا الأشهب، وهو أحد إصدارات مركز الملك فيصل للأبحاث والدراسات الإسلامية للكتب المُترجَمة. يتألف الكتاب من 11 فصلاً، إضافة إلى ثبْت بالمصادر والملاحق والصور التي تضمّنها الكتاب.
يتمحور الفصل الأول على «فهم مشروع الدولة - السلطة والمقاومة والأصلانية القانونية». فالدولة الحديثة - بحسب تعريف ماكس فيبر - هي «منظمة سياسية إلزامية ذات تنظيم متصل، تنجح حكومتها في احتكار الاستخدام الشرعي للقوة في تنفيذ أوامرها ضمن منطقة إقليمية معيّنة». وإذا كانت السلطة والمقاومة مفهومين واضحين، فإن مصطلح «الشعوب الأصلانية» لا يزال غامضاً ويثير اللبس حتى الوقت الحاضر؛ لأنه يتشابك ويتشابه مع مصطلحات أخرى مثل الشعوب الأولى، والسكان الأصلانيين، وشعوب العالم الرابع وغيرها من التسميات التي تشير إلى تجمعات بشرية مبثوثة في أميركا، وأستراليا، ونيوزيلندا، والمكسيك، والبرازيل، وإسرائيل. ولعل أسهل تعريف للشعب الأصلاني، أنه «يتألف من أمة عاشت لأجيال في إقليم غزاهُ مجتمع استيطاني جديد».
يستأنس الباحث برأي ابن خلدون الذي وصف البدو «بأنهم غير متمدنين، لكنهم هم العرب الأصليون الذين وُجدوا قبل سكّان المدن المستقرين». وعندما سيطرت الإمبراطورية العثمانية على فلسطين لأكثر من 400 عام (1516 - 1917) حاولت دمج البدو في الإدارة المركزية بعد أن جعلت معظم الأراضي تابعة لها، وشرعت في بناء مدينة بئر السبع كمركز إداري عام 1900 فانتقلت السيطرة على جنوب فلسطين إلى العثمانيين بعد أن كانت بئر السبع تُدار إمّا من غزة أو القدس. أما البدو الذين كانوا يدفعون الضرائب على الأراضي الزراعية والمواشي فهو مؤشر واضح يعترف بمِلكية الأراضي للبدو الذين استوطنوا بئر السبع التي تُعدّ أهمّ رمزٍ خلّفه العثمانيون في جنوب فلسطين.
يناقش الفصل الثالث احتلال الجيش البريطاني لبئر السبع والخسارة الكبيرة التي تكبّدوها في الأرواح، لكنّ المواجهة انتهت لمصلحة البريطانيين. ويرصد الباحث طبيعة علاقة المُستعمِر البريطاني مع العرب البدو في جنوب فلسطين وكيفية اعتماد السلطة البريطانية على الشيوخ الذي ساهموا في حفظ النظام، وتأمين الحدود، مقابل الاستجابة لتخفيض الضرائب على الأراضي الزراعية والمواشي، خاصة في سنوات القحط والجفاف، إضافة إلى مطالبتهم بتحسين الخدمات الإدارية، والصحية، والتعليمية. كما يركز هذا الفصل على إنشاء المحاكم العشائرية الإقليمية التي تبتُّ في مئات القضايا، وتنفِّذ أحكامها. يعرِّج الباحث على انسحاب القوات البريطانية من بئر السبع في 14 مايو (أيار) 1948 ورفع العلم الفلسطيني على بناياتها الرسمية، لكن المدينة سرعان ما سقطت بأيدي القوات الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته لتبدأ نكبة التهجير المعروفة.
يكتب بن غوريون في رسالة لابنه عاموس «إن أراضي النقب محجوزة للمواطنين اليهود متى أرادوا... ويجب أن نطرد العرب لضمان حقنا في الاستيطان على هذه الأرض». يتضمن الفصل الرابع حلم ثيودور هرتزل في تأسيس دولة أحادية الدين ولم ينكر بأن فلسطين كانت مأهولة بالشعب الفلسطيني، لكنه كان يراهم «رجعيين ومتخلفين». كما يستعرض الباحث الهجرات اليهودية المتتالية وبناء المستوطنات وإعلان دولة إسرائيل في 14 مايو 1948 وهجوم الجيوش العربية على إسرائيل، وهجرة العرب البدو، وتوقيع اتفاقيات الهدنة مع البلدان العربية المحيطة بإسرائيل.

يسلّط الباحث الضوء على عدد من الحكّام العسكريين الذين يجيدون اللغة العربية ويعرفون ثقافتها مثل ساسون بار تسفي، ويتسحاق تسيماح اللذين كانا يتصرفان كعرب، لكن منظومة الحكم العسكري ظلت أنموذجاً استيطانياً للمحسوبية والفساد.
أصبح الحاكم العسكري الصارم هو الذي يرسم مستقبل البدو، ويعيد تشكيلهم من جديد، فمن بين 95 عشيرة بدوية في جنوب فلسطين بقيت منها 19 عشيرة في النقب وبئر السبع أسكنوهم في منطقة مغلقة أطلقوا عليها اسم «السياج»، وهجّروا بعض مشايخهم إلى الأردن ومصر. كما طلبت السلطات الإسرائيلية من هذه العشائر أن تؤدي قسم الولاء لتطرد بالنتيجة العشائر غير الموالية مثل عشيرة الصانع التي هُجِّرت إلى الأردن، لكن الملك لم يسمح لهم بالإقامة الدائمة خشية من انضمام المزيد من القبائل المُهجّرة. وقد أجرت الحكومة الإسرائيلية خمس عمليات تعداد سكاني، لكنها لم تنجح لأن البدو رفضوا التعاون مع الجهود المبذولة لإحصائهم.
لجأت سلطات الحكم العسكري إلى تعيين شيوخ القبائل للسيطرة على السكّان الأصليين لدرجة أن هؤلاء المشايخ أصبحوا وكلاء للإدارة العسكرية يزوّدونها بالمعلومات التفصيلية عن المواليد والوفيات وحالات الزواج. تبنى البدو استراتيجية «اقتصاد الحدود» حيث لجأوا إلى تهريب القهوة والحلويات والأقمشة والمواشي التي تُعينهم على تحمّل نفقات المعيشة اليومية الصعبة. كما كانوا يستقبلون المهجّرين ويلمّون الشمل. وعلى الرغم من انتفاع الشيوخ مادياً فإنهم كانوا يقاومون المحتل بطرق متعددة، أبسطها التضليل وعدم التعاون. ارتأى الساسة الإسرائيليون بعد مجزرة كفر قاسم ضرورة إنهاء الحكم العسكري؛ وذلك لتناقضه مع اشتراطات الدولة الديمقراطية التي شجعّت على تخفيض بعض القيود عن العرب البدو الذين يتعرضون للتهميش، وحظر التجوال، ومصادرة الأراضي، ورغم المضايقات التي شهدها النقباويون، فإنهم نجحوا في بناء المدارس، والمشاركة في الانتخابات، والوصول إلى الكنيست، لكن بعضهم رضخ لسياسة التوطين التي يسعى لها المحتل أو اختاروها طوعياً بأنفسهم، وطلبوا السكن في الأماكن المختلطة بعيداً عن المناطق الحدودية في الجزء الشمالي الشرقي من النقب.
استمرت إسرائيل بعد انتهاء الحُكم العسكري بفرض سياسة الاستعمار الداخلي على البدو الأصليين، حيث تمّ بناء سبعة مواقع لتوطين أهل النقب قسرياً، وكان الهدف من هذا التوطين الإلزامي هو تفكيك قبائل النقب وتفتيتها، وسلخها من بداوتها وعروبتها ثم تمدينها لتهويد الأرض والإنسان. وقد فشل مشروع التوطين في قرية «تل السبع»، لكنه نجح جزئياً في قرية «رهط» وأصبحت حركة التنقّل أكثر حرية، وصار بإمكان العربي الحصول على تصريح تنقّل من أي مركز شرطة. وعلى الرغم من انتقال السلطة الرسمية إلى الشرطة، فإن السياسة الجديدة كانت وجهاً آخر للعملة نفسها لأنهم لا يزالون يعاملون العربي كخطر أمني.
يفحص الفصل العاشر الوعي السياسي الذي برز بعد اتفاقية أوسلو، حيث شهد النقب نهضة ثقافية متميزة أسفرت عن تأسيس أحزاب وطنية تسعى لتمثيل أهالي النقب سياسياً، وتحاول تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية مثل حزب «نداء الوفاق». كما يركِّز هذا الفصل على دعم وصايا لجنة غولدبيرغ الداعية للاعتراف بأكبر عدد من القرى النقباوية ومنع تمرير قانون «برافر» العنصري ودخوله حيّز التنفيذ.
يخلص الدكتور منصور النصاصرة إلى أن العثمانيين والسلطات البريطانية قد اعترفوا بحقوق القبائل الفلسطينية الأصلية في الأرض وبقية الموارد الأخرى في النقب وبئر السبع في جنوب فلسطين، بينما ظل الحكم العسكري الإسرائيلي يرى فيهم خطراً على الأمن وتهديداً للتوازن السكاني في الدولة الجديدة. وقد دعّم الباحث طروحاته بالأدلة والسجلات الأرشيفية العثمانية والبريطانية.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».