محمد جبريل: أرفض الحياد في الفن

صاحب «رباعية بحري» حصد جائزة الدولة التقديرية في مصر

محمد جبريل
محمد جبريل
TT

محمد جبريل: أرفض الحياد في الفن

محمد جبريل
محمد جبريل

على مدى 47 عاما قضاها الروائي المصري محمد جبريل في كتابة الرواية والقصة، سيطرت أجواء مدينته الإسكندرية وحي بحري الذي ولد فيه على عالمه، الذي انعكس في 81 عملا أدبيا ما بين رواية وقصص قصيرة وسيرة ذاتية ودراسات أدبية، أهلته لنيل جائزة الدولة التقديرية في الرواية.
هنا حوار معه عن تجربته الروائية والكتابية، وتأثير المكان على أعماله، ونظرته للتجريب والعلاقة بين الرواية والتاريخ:
> تسيطر أجواء الإسكندرية على معظم عوالم رواياتك فيما تختفي القاهرة رغم أنك تعيش فيها منذ سنوات طويلة... ما سر ذلك؟
- تفتح وعيي على الإسكندرية. وهي المكان الذي تخلقت فيه - حتى الآن - غالبية أعمالي، وبالذات: هذه المنطقة ما بين المنشية وسراي رأس التين، فيها مارس أبطال قصصي حيواتهم، سكنوا البيوت، وتنقلوا في الميادين والشوارع والأزقة، جلسوا على شاطئ الكورنيش، قضوا الأمسيات في حدائق رأس التين، عاشوا اللحظات الهانئة، والقاسية، اصطادوا بالصنارة والجرافة والطرّاحة، واصطادوا المياس ساعات العصاري، ترقبوا النوات وعانوا تأثيراتها، بدءاً باختطاف الرجـال في البحر، إلى الكساد الذي يعشش في ملازمة البيوت، أو شغل الوقت بالجلوس في المقاهي.
ذلك كله هو الذي دفعني للكتابة عن بحري، الحي الذي ولدت فيه، ووعيت على المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد التي تسمه بخصائص مغايرة.
> لكن ما السبب الذي جعلك تختار منطقة بحري بالتحديد فضاء لمعظم رواياتك؟
- منطقة بحري، أصل الإسكندرية، كيلومتر مربع، من اليمين المينا الشرقية، ومن اليسار المينا الغربية، وفي المواجهة خليج الأنفوشي، لسان أرضي، شبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية. سمي الخليج ربما لوصله بين الميناء الشرقي والميناء الغربي. أذكر وقفتي على الشاطئ، بالقرب من قصر رأس التين، الصخرة - التي صارت بطلاً أعتز بها - في مدى النظر. أذكرك بروايتي «صخرة في الأنفوشي».
ولا أتصور الإسكندرية من دون البحر، يحيط بها، تمضي شوارعها إليه، تعيش على المهن المتصلة به، فغالبية الشخصيات يتنقلون في مهنة الصيد، وحلقة السمك، وورش المراكب، والمهن المتصلة بالميناء، وفي الأجواء الروحانية المتمثلة في الجوامع والزوايا وأضرحة الأولياء ومقاماتهم، وما يتصل بذلك من موالد وأذكار وطرق صوفية.
> في معظم لوحات «رباعية بحري»، لاحظنا التنوع في أساليب تقديم المكان والتعبير عنه وسرد حكاياته، وتصوير عاداته وتقاليده...
- اعتادت - في طفولتي - قراءة لافتات الدكاكين وأفيشات السينما، وكل ما يحض على القراءة، فقد تشكل وعيي بالتعرف إلى الملامح والقسمات، والشوارع والأزقة والأبواب والنوافذ، كما تعرفت إلى ميادين وشوارع وحواري ومعالم حياة، في الموازيني وأبو العباس والبوصيري والسيالة وحلقة السمك والمسافرخانة والمغاوري والحلوجي والعدوي وقبو الملاح والتمرازية والكورنيش وسراي رأس التين.
هذا هو بحري الذي أعرفه، داخلته ظواهر جديدة، لكن ناس بحري الأصليين، أهل الحي القديم، فرضوا عاداتهم وتقاليدهم وسلوكيات حياتهم اليومية على السكان القادمين من أحياء ومدن أخرى.
> إذا كان ذلك بالنسبة للمكان، فماذا عن الزمان في رواياتك وقصصك؟
- الزمان الذي أحبه هو الذي أجد فيه مادة فنية خصبة تدفعني إلى التوحد معها، والتعبير عنها في عمل فني، بمعنى أنني قد أنفعل بفترة من الزمن الفرعوني أجد أنها تصلح للتناول في عمل أدبي، فأقرأ فيها كثيراً حتى أتوحد معها في العادات والتقاليد ومفردات الحياة اليومية، بحيث - في النهاية - أتخيل أنني أصبح جزءاً من هذا الزمان والمكان، ثم أبدأ في الكتابة.
> تعتمد كتاباتك السردية في أحيان كثيرة على لغة مكثفة تحمل طاقة شعرية... وكأن ثمة شاعرا فيك. هل كتبت الشعر يوماً؟
- أحب الشعر، وأحاول العمل والمثابرة - كما فعل ثربانتس - لاجتلاء موهبتي الشعرية، توقفت عن كتابته، وإن حاولت أن أضع طاقتي الشعرية في كتابة السرد القصصي، لذلك «أوافق إيزابيل الليندى على أن إدمان السرد القصصي مرض لا شفاء منه!». أحببت في النثر صوت الكلمات، المفردة، الجملة، التعبير، الجمال في اللغة.
> ألا تخشى أن يحد اهتمامك بحياة الصيادين وسكان المناطق الشعبية من رحابة عالمك الروائي؟
- أرفض الحياد في الفن. الفنان يجب أن يكون منحازاً لجماعة أو لقضية. لا أزعم المباشرة، ولكن يهمني أن يكون للفنان نظرة شمولية أو ما أسميه بفلسفة الحياة. أعمال أي كاتب يجب أن تشكل وحدة متكاملة، وما أنشده في مجموع أعمالي - ومجموع أعمال الآخرين أيضاً - أن ينطوي على فلسفة حياة متكاملة. وبالطبع فأنا لا أدعو الأديب أن يكون فيلسوفاً، ولا أدعو الفيلسوف - في المقابل - أن يكون أديباً، فالأدب جنس يختلف تماماً عن جنس الفلسفة، والعكس صحيح. ما يشغلني في مجموع أعمال فنان ما هو صورة العالم لديه بما يختلف عن صورته في نظر الآخرين.
> تلجأ في روايتك وآخرها «النوارس» إلى تقنيات حداثية مثل المونتاج، والخلط بين الأزمنة، ما يحتاج إلى جهد كبير في تفكيكها وقد يحصر دائرة تلقيها على الكتاب والنقاد فقط...
- أحاول - منذ تحولت القراءة إلى هاجس للكتابة - أن أقدم المغاير. أخوض رحلة لا تنتهي من التجريب، سواء على مستوى اللغة، أو «الثيمة» التي أتناولها، أو التكنيك الذي يفرض نفسه في كل عمل، بحيث تأتي المغايرة من داخل العمل، تنبثق في أثناء عملية الكتابة، عملية التخلق.
> هناك كثير من الأدباء والكتاب يعلون من قيمة ودور فترة تكوينهم الأولى في تشكيلهم وإبراز مواهبهم... ماذا عنك؟
- وجدت في مكتبة أبي ما يحضني على القراءة. كان أبي يعمل مترجماً بين العديد من اللغات، مجاله شركات التصدير والاستيراد التي أثمرتها الطبيعة الكوزموباليتينية لمدينتي الإسكندرية. أذكر أنه ظل يعمل - حتى أقعده المرض - في ثلاث شركات عربية وألمانية وإنجليزية، في مواعيد متقاربة خلال ساعات النهار. ومع أن عمله اقتصر على المجال الاقتصادي، فإن مكتبته شملت معارف وإبداعات، أغرتني بقراءتها، وأتاحت لي عالما سحرياً جميلاً.
> لكن كيف ترى الآن قصص مجموعتك الأولى «تلك اللحظة»؟
- قصص المجموعة الأولى أقرب إلى اسكتشات لأعمال تالية لـ«مصر في قصص كتابها المعاصرين» حيث استغرق ذلك ما يقرب من التسع سنوات. وجد فيها عدد من الأصدقاء ما يستحق الثناء، لكن رأيي الذي لم أبدله أنها تجارب أولية لأعمال تالية، لذلك فإني أعتبر كتابي الإبداعي الذي أطمئن - أو أكاد - إلى قيمته هو روايتي «الأسوار». أدعي أنها كانت محاولة غير مسبوقة لوحدة الفنون، أو تفاعل الأنواع.
> لجأت إلى التاريخ وأنت تكتب روايتك «من أوراق أبي الطيب» كيف ترى استفادة الأديب من التراث وتوظيفه في أعمال أدبية؟
- الحنين إلى الزمان الماضي هو الباعث للروايات الكبرى في القرن التاسع عشر، ولعله - بالنسبة لي - يتكشف في الأعمال التي تحاول توظيف التراث، سواء كان الزمان فرعونياً كما في «اعترافات سيد القرية»، أو هيلينيا كما في «غواية الإسكندر»، أو إخشيدياً كما في «من أوراق أبي الطيب المتنبي»، أو فاطمياً كما في «ما ذكره رواة الأخبار من سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله»، أو عثمانياً كما في «الجودرية»، أو ينتسب إلى ألف ليلة وليلة كما في «زهرة الصباح».
وحين أنشغل بقصة تحاول توظيف التاريخ، أو تحاول توظيف التراث، فإني أحيا ذلك الزمن البعيد، أحياه بكل تفصيلاته وجزئياته ومنمنماته.
> ما الفرق في تقديرك بين كتابة التاريخ والكتابة التي توظف التاريخ؟
- ينبغي ألا نتوقع أن يخضع الفن لوقائع التاريخ. العمل الأدبي ليس وقائع التاريخ، لكنه الوقائع بعد أن تصرف الفنان في أحداثها وشخصياتها. ولأن الأديب غير مقيد بتتابع الخطى للكتابة التاريخية، فإن حبكته قد تتبع وحدات مختلفة. ليس معنى ذلك أن الأحداث والشخصيات التاريخية لا يمكن أن تظهر كما كانت في العمل الإبداعي، وقد تصنف بعض الأحداث التي وقعت فعلاً ضمن الأحداث المحتملة أو الممكنة الحدوث. وإذا كنت أوافق فورد مادوكس على أن الفنان الحقيقي «هو الذي يسجل عصره بما يتفق وهذا العصر، فإني أختلف معه في أن المبدع يجب أن يحدّ نفسه بحدود ما يعرف عن قرب، وبما يستطيع أن يعبّر عنه أكمل تعبير، وهو يسجل الحقيقة الواقعة». والحق أنه مهما يرد في الرواية التي توظف التاريخ من حقائق تاريخية، فإنها تخضع للخيال، وهو الذي يحرك الشخصيات والأحداث... الدراسة التاريخية تحرص على مقولة الواقعة المقدسة والرأي الحر، والعمل الروائي يحاول الإيهام بصحة الحدث التاريخي. المؤرخ يسجل، أما الروائي فيخلق، والخلق يعني استحداث ما قد يشكل شخصية تاريخية، أو حدثاً تاريخياً، وما يشكل إضافة إلى وقائع التاريخ، أو حذفاً منه.
الفنان يغزل الصورة التاريخية في نسيج روايته بما يلائم طبيعة العصر وروحه، وبما قد يلائم تنامي أحداث الرواية.
أنا لا أحب تعبير الإسقاط التاريخي. ذلك نوع من المعادلات الذي قد يحد من عفوية العمل الإبداعي. الفن إضمار.
قد أجد في الفترة التاريخية مشابهة للواقع المعاصر، لكنني أقدم على الكتابة الإبداعية بروح المبدع. أفضل أن يكتب العمل الإبداعي نفسه، لا أفرض عليه مقولات ربما تكشف عنها طبيعته. أستفيد من الأبعاد التاريخية، لكن تظل للعمل الإبداعي خصوصيته وعالمه المستقل.



«جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر تحتفي بالفائزين غداً

«جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر تحتفي بالفائزين غداً
TT

«جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر تحتفي بالفائزين غداً

«جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر تحتفي بالفائزين غداً

تكرّم «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر، الثلاثاء، الفائزين في فئات الدورة العاشرة، وذلك خلال انعقاد حفلها السنوي.

وخلال هذه الدورة، توصلت الجائزةُ إلى مشاركات من 35 دولة حول العالم، تمثل أفراداً ومؤسسات معنية بالترجمة، من بينها 17 دولة عربيّة.

وقد عرفت الدورة العاشرة اختيار «اللغة الفرنسية» لغةً رئيسة ثانية إلى جانب اللغة الإنجليزية، كما اختيرت «البلوشية» و«التترية» و«الهنغارية» و«لغة يورُبا» في فئة اللغات القليلة الانتشار.

وتعقد الجائزة على هامش الحفل السنوي، الثلاثاء، ندوة ثقافية تجمع نخبة من أهم العاملين في مجال الترجمة والمثاقفة من اللغة العربية وإليها، بعنوان: «من العربية إلى البشرية: عقد من الترجمة وحوار الحضارات».

وتتناول الندوةُ في الجلسة الأولى «الترجمة من اللغة العربية وإليها: واقع وآفاق»، ويشارك فيها كلٌّ من المترجم والأكاديمي المغربي الدكتور حسن حلمي، والدكتورة ربا رياض خمم الأستاذة المشاركة في اللغة العربية واللغويات والترجمة في جامعة ليدز (المملكة المتحدة)، والدكتور سلفادور بينيا مارتين الأستاذ في قسم الترجمة في جامعة مالقة الإسبانية، والدكتورة نبيلة يون أون كيونغ أستاذة ورئيسة قسم اللغة العربية في جامعة هانكوك للدراسات الأجنبية بكوريا الجنوبية، ويديرها الدكتور يوسف بن عثمان أستاذ الفلسفة وتاريخ العلوم الحديثة بجامعة تونس المنار.

وتتناول الجلسةُ الثانية دورَ الجائزة في الارتقاء بمعايير جودة الترجمة، وكيفية تطوير هذا الدور. ويُشارك فيها كلٌّ من الدكتور والمترجم التركي أرشد هورموزلو رئيس المنتدى الدولي للحوار التركي - العربي، والدكتور الزواوي بغورة أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة الكويت، والمترجم الدكتور شكري مجاهد أستاذ الأدب الإنجليزي المتفرغ بجامعة عين شمس، والدكتور علي حاكم صالح أستاذ الفلسفة بجامعة ذي قار بالعراق، ويديرها الدكتور خالد أرن مدير مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلاميّة في تركيا.

وتهدف الجائزة إلى تكريم المترجمين وتقدير دورهم في تمتين أواصر الصداقة والتعاون بين شعوب العالم، وتقدير دورهم عربياً وعالمياً في مد جسور التواصل بين الأمم، ومكافأة التميز في هذا المجال، وتشجيع الإبداع، وترسيخ القيم السامية، وإشاعة التنوع، والتعددية والانفتاح، كما تطمح إلى تأصيل ثقافة المعرفة والحوار، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وتنمية التفاهم الدولي، وتشجيع عمليات المثاقفة الناضجة بين اللغة العربية وبقية لغات العالم عبر فعاليات الترجمة والتعريب. ويبلغ مجمل قيمة الجائزة في مختلف فئاتها مليونَي دولار أميركي.

عقد من الإنجاز

وفي ندوة بعنوان «عقد من الإنجاز» نظمتها «جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي»، مؤخراً، قال الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، إن هذه الجائزة «قامت بتوسيع دائرة اللغات التي يُترجم منها وإليها، حيث تضاف في كل دورة لغات جديدة إلى قائمة اللغات المعتمدة للترجمة حتى غطت الجائزة خلال عشر سنوات 37 لغة حول العالم؛ مما يوسع نطاق التفاعل الثقافي»، مشيراً إلى أن من مزايا الترجمة «إنقاذ الثقافة الإنسانية من الضياع والتلاشي والحرق والإتلاف والتهميش والإقصاء، فهي حافظة مستمرة، بل أشبه بذاكرة صامدة في وجه الزمن ودعاة الانغلاق الفكري. فالترجمة حافظت على ما ساهمت به الشعوب من إبداعات في الفكر والفن والعلم».

وفي الندوة ذاتها، أوضحت الدكتورة حنان الفياض المستشارة الإعلامية لـ«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي»، أن الجائزة التي انطلقت عام 2015، فاز بها 214 شخصاً يمثلون 48 دولة، كما غطت الجائزة خلال عشر سنوات 37 لغة حول العالم.