أمبرتو إيكو: «اللامرئي»... والعالم المحتمل في العمل السردي

أحياناً يكشف عن تناقضات واضحة في علاقته بالعالم الحقيقي

أمبرتو إيكو: «اللامرئي»... والعالم المحتمل في العمل السردي
TT

أمبرتو إيكو: «اللامرئي»... والعالم المحتمل في العمل السردي

أمبرتو إيكو: «اللامرئي»... والعالم المحتمل في العمل السردي

قال الفيلسوف البولندي رومان إنغاردن إنه من الزاوية الأنطولوجية، تعد الشخصيات الروائية «غير محققة» تماماً –بتعبير آخر، نعرف القليل عن سماتها– في حين أن الأشخاص الحقيقيين «متحققون بالكامل» ويمكننا أن نؤكد كل اختلافاتهم. أعتقد أنه أخطأ: في الواقع لا يمكن لأحد أن يعدد كل سمات شخص ما، لأنها ضمنياً لا نهائية، في حين أن سمات الشخصيات الروائية مقيَّدة بشكل صارم في النص الذي يتحدث عنها –وليس سوى تلك السمات المذكورة في النص مما ينظر إليه لتحديد هويتها.
وفي الحقيقة أنني أعرف شخصية أليساندرو مانزوني، رينزو تراماغلينو، في رواية «المخطوب»، أفضل مما أعرف أبي. ففيما يتعلق بأبي، هناك حكايات في حياته –لا يعلم عددها إلا الله– لا أعرفها ولن أعرفها. كانت هناك أفكار سرية لم يبح بها، قلق يخفيه، مخاوف ومسرات لم يتحدث عنها. أنا مثل مؤرخي «الروائي الفرنسي أليكساندر» دوماً، سأظل أستدعي هذه الشبح العزيز لأتساءل عنه. على عكسه تماماً، أعرف كل شيء ينبغي أن أعرفه عن رينزو تراماغلينو. كل ما لم يخبرني مانزوني عنه ليس مهماً بالنسبة لي، مثلما أنه ليس مهماً لمانزوني بل حتى لرينزو بقدر ما هو شخصية متخيلة.
هل الأشياء حقاً هكذا؟ لأنها تخبرنا عن أشياء متخيلة، أشياء لم تثبت مطلقاً في العالم الحقيقي، لذلك السبب بالضبط تكون المقولات في الرواية دائماً غير صحيحة. ومع ذلك فإننا لا نعد مقولات الروايات كذباً، ولا نتهم هوميروس أو سرفانتيس بأنهما كاذبان. إننا نعلم تماماً أننا بقراءة عمل سردي ندخل في اتفاق ضمني مع المؤلف الذي يتظاهر بأنه يقول شيئاً «حقيقياً» ونتظاهر نحن بأننا نأخذ كلامه أو كلامها «بجدية».
بهذه الطريقة كل عبارة سردية تصمم وتبني عالماً محتملاً وكل أحكامنا بشأن الحقيقة والكذب لن تشير إلى العالم الحقيقي وإنما إلى العالم المحتمل في العمل السردي. لذا يكون من الكذب في العالم المحتمل لآرثر كونان دويل أن يقول إن شيرلوك هولمز عاش على ضفاف نهر سبون، أو في عالم تولستوي المحتمل أن يقول إن آنا كارينينا عاشت في شارع بيكر.
ثمة عوالم محتملة كثيرة: مثلاً، هناك العالم المحتمل الذي أتخيل فيه ما يمكن أن يحدث لو أن سفينتي تحطمت على جزيرة بولينيزية غير مأهولة مع شارون ستون. كل عالم محتمل هو بطبيعته ناقص أو يختار العديد من المشاهد من العالم الحقيقي لتكون خلفيته: في عالمي الفانتازي، حيث تحطمت سفينتي في بولينيزيا مع شارون ستون، ستتوج الجزيرة حتماً بأشجار نخيل حول شاطئ من الرمل الأبيض وأشياء أخرى كتلك التي يمكن أن أصادفها في العالم الحقيقي.
لا يمكن للعوالم الممكنة في الخيال أن تجعل خلفيتها مستمدة من عالم يختلف كثيراً عن العالم الذي نعيش فيه، بل إن ذلك لا يحدث حتى في الحكايات الخرافية، حيث الغابة تشبه الغابات التي نعرف –مع أن فيها حيوانات ناطقة. قصص شيرلوك هولمز تحدث في لندن كما هي أو كما كانت، وسننزعج لو أن الدكتور واتسون فجأة عبَر سانت جيمس بارك ليزور برج إيفل على الدانوب قرب زاوية نيفسكي بروسبيكت.
بل إن كاتبة يمكنها أن تأخذنا إلى عالم من هذا النوع لكن عليها أن تعتمد على عدة أساليب سردية لجعلنا نتقبلها «كأن تقدم لنا ظاهرة تدمج المكان بالزمان أو شيء من هذا القبيل». في نهاية المطاف إن كنا سنتحمس للحكاية فلا بد لبرج إيفل أن يكون البرج الذي في باريس.
أحياناً يمكن للعالم المتخيَّل أن يكشف عن تناقضات واضحة في علاقته بالعالم الحقيقي. مثلاً في «حكاية شتاء»، يخبرنا شكسبير في المشهد الثاني من الفصل الثاني أن الأحداث تجري في بوهيميا في قفر موحش قرب البحر –في حين أن بوهيميا ليست بها شواطئ، مثلما أنه لا توجد منتجعات سويسرية قرب البحر. لكنه لا يكلفنا شيئاً أن نتقبل «أو نتظاهر بالتصديق» أنه في ذلك العالم المحتمل تكون بوهيميا قرب البحر. أولئك الذين يشتركون في الاتفاق السردي ليسوا ممن يصعب إرضاؤهم، ولا هم بالذين يفتقرن إلى المعلومات بذلك القدر.
بمجرد ما نؤكد هذه الاختلافات بين العالم المتخيَّل والعالم الحقيقي، فإننا نعترف بأن عبارة «آنا كارينينا انتحرت بإلقاء نفسها تحت عجلات قطار» ليست حقيقية بالمعنى الذي تكون به عبارة «أدولف هتلر انتحر في قبو أرضي في برلين» حقيقية أيضاً.
ومع ذلك فالسؤال هو: ما الذي يجعلنا نرسّب تلميذة في امتحان تاريخ لو أنها قالت إن هتلر أُطلقت عليه النار على بحيرة كومو ثم نرسّب أيضاً تلميذاً في امتحان أدب لو أنه قال إن آنا كارينينا هربت إلى سيبيريا مع أليوشا كارامازوف؟
المسألة يمكن حلها من زاوية منطقية ودلالية بإدراك أن من الصحيح أن «آنا كارينينا انتحرت بإلقاء نفسها تحت عجلات قطار» هي فقط طريقة أسرع حسب المعتاد لقول: «إن من الصحيح أنه في العالم الحقيقي كتب تولستوي أن آنا كارينينا تنتحر بإلقاء نفسها تحت عجلات قطار». ولذا فإن تولستوي وهتلر هما اللذان ينتميان إلى نفس العالم، وليس هتلر وآنا كارينينا.
لهذا فإنه من الناحية المنطقية كون آنا كارينينا تنتحر سيكون صحيحاً فيما يتعلق بالقول «دي ديكتو de dicto» بينما أن «هتلر انتحر» تكون صحيحة فيما يتعلق بالفعل «دي ري de re». أو أفضل من ذلك، ما يحدث لآنا كارينينا لا علاقة له بمعنى العبارة وإنما بدالّها (signifier).
بتعبير آخر، يمكننا أن نقول عبارات صحيحة حول شخصيات روائية بنفس الطريقة التي نقول بها إن السيمفونية الخامسة لبيتهوفن في «سي ماينور» «وليس في إف ميجور مثل السادسة» وتبدأ بـ«جي جي جي المنخفض». سيكون ذلك حكماً على المقطوعة الموسيقية. تبدأ «آنا كارينينا» بالقول المأثور: «العائلات السعيدة تتشابه، وكل عائلة تعيسة تعيسة بطريقتها الخاصة» وهي وجهة نظر، ولكن القول المأثور تتبعه مباشرة عبارة حقيقية «كان كل شيء مقلوباً في بيت أوبلونسكي» التي علينا بالإشارة إليها ألا نتساءل عما إذا كان صحيحاً أن كل شيء كان مقلوباً في بيت أوبلونسكي وإنما عما إذا كان صحيحاً أن المقطوعة الموسيقية التي عنوانها «آنا كارينينا» تقول فعلاً «كل شيء كان مقلوباً في بيت أوبلونسكي»، أو ما يقابل ذلك بالروسية...

- من مقالة بعنوان «اللامرئي» في كتاب «على أكتاف عمالقة»، (هارفرد، 2019) الذي نُشر بعد وفاة إيكو عام 2016 ويضم سلسلة من المقالات التي كانت في الأصل محاضرات ألقاها الروائي والناقد الإيطالي الشهير في مهرجان «ميلانيزيانا» في مدينة ميلانو على مدى الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.