فؤاد الظاهري... فن صياغة الجملة الموسيقية لتتوافق مع الصورة السينمائية

من الظواهر السلبية في السينما العربية التركيز فقط على الممثلين النجوم، بينما يقبع في الهامش كثيرون من صناع الفيلم الحقيقيين، في الإخراج والتأليف والمونتاج والموسيقى التصويرية، لينعم هؤلاء النجوم وحدهم بحلم المجد والشهرة.
يسعى كتاب «فؤاد الظاهري - مصرية الجذور وعالمية الإبداع»، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب إلى تصحيح بعض هذا الخلل عبر محاولة إنصاف واحد من رموز التأليف الموسيقي في السينما المصرية.
الكتاب يكتسب أهمية خاصة فمؤلفته د. رانيا يحيى، متخصصة في النقد الموسيقي بالأكاديمية المصرية للفنون، وواحدة من أهم عازفات الفلوت عربياً، مما ساعدها على بذل جهد في تقصي مسيرة هذا المؤلف الموسيقي البارع عبر أكثر من نصف قرن. وتذكر أن أي عنصر من عناصر الفيلم السينمائي لم يقترن باسم مبدع معين مثلما اقترنت موسيقى الأفلام في مصر باسم المؤلف فؤاد الظاهري. صحيح أن قائمة المؤلفين الموسيقيين الكبار تضم إلى جانبه أسماء أخرى مهمة مثل علي إسماعيل وأندريه رايدار وعلي فرج، لكن يبقى الظاهري الأهم والأعظم بين هؤلاء في تقدير المؤلفة، ليس فقط لأنه أكثر غزارة في الإنتاج، وإنما أيضاً لوجود اسمه على غالبية الأفلام ذات القيمة الفنية العالية.
وحول علاقة الصورة السينمائية وموسيقاه تقول رانيا يحيى: «كانت موسيقى فؤاد الظاهري تحديداً مكوناً أساسياً في بناء الفيلم ومعادلاً مهماً في خلق أجواء الحدث الدرامي والتعبير عنه، وإحداث الأثر النفسي الذي يسعى إليه صانعوه. لذلك تلازمت الصورة السينمائية في وجدان المتلقي وذهنه مع الجملة الموسيقية التي صاغها بدرجة متفردة بحيث بات تذكر إحداها يستدعي الأخرى بالضرورة».
وتدلل المؤلفة على ذلك من واقع الأفلام نفسها، كما صرخات الفنان عمر الشريف بعد الحكم بإعدام والده في فيلم «صراع في الوادي» ليوسف شاهين 1954 وكيف امتزجت بصرخات أصوات بشرية أو الكورال التي كان الظاهري يجيد دائماً استخدامها والكتابة لها والتي كررها على أفضل ما يكون في القصيد السيمفوني بفيلم «رد قلبي» للمخرج عز الدين ذو الفقار 1957. وفيلم «شباب امرأة» للمخرج صلاح أبو سيف، وكيف اتكأت على التيمة الموسيقية الشعبية «آه يا زين...آه يا زين العابدين» بصورة متلازمة ومتكررة.
الجذور الأولى
وتعود المؤلفة إلى الجذور الأولى في التاريخ الموسيقي للظاهري حيث تكشف لنا اسمه الحقيقي وهو» فؤاد جرابيد بانوسيان، ولد في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1916. من أصل أرمني، وينتمي للجيل الثاني من المؤلفين الموسيقيين، ولقب باسم فؤاد الظاهري نسبة إلى حي الظاهر بالقاهرة الذي شهد مراحل متعددة من حياته. بعد التحاقه بمدرسة «الفرير»، أشهر المدارس الخاصة لتعليم اللغة الفرنسية في مصر، وحصوله على شهادة «الكفاءة» شجعه الأستاذ الفلسطيني الأصل قسطندي الخوري على دراسة آلة الكمان، ثم التحق بمعهد «فؤاد الأول» للموسيقى العربية وأصبح عازفاً لهذه الآلة. وبعد تخرجه عين مدرساً للأناشيد بوزارة المعارف (التعليم)، كما اشترك في الكورال والأوركسترا بكنيسة سان جوزيف التي تقدم أعمال المؤلفين العالميين، كما كان قائداً لكورال فرقة الأوبرا التي أنشأتها مدرسة الآباء اليسوعيين. وفي عام 1948 عين أستاذاً لآلة الكمان بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، بعدها عمل قائداً لفرقة الفجر للموسيقى العربية كما أشرف على فرقة الإذاعة للوتريات. سجل أول عمل من مؤلفاته للإذاعة المصرية بعنوان «متتالية مصرية» وكتب كونشرتو القانون والأوركسترا من حركتين فقط في نفس العام ثم أضاف حركة ثالثة لهذا الكونشرتو عام 1964.
عاصر فؤاد الظاهري مجموعة من الموسيقيين المحترفين المشهورين منهم: عزيز صادق، ومحمد حسين الشجاعي، ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، ومحمد فوزي. ولم يقتصر عطاؤه على الفن السينمائي فحسب، إنما ارتبطت موسيقاه بالعديد من الأعمال في المسرح والتلفزيون، مثل «العش الهادئ»، و«خان الخليلي»، و«الناس والبحر» وفي المسرح القومي قدم موسيقى مسرحيات «سليمان الحلبي»، و«رجل عجوز»، و«طيور الحب».
قراءة تحليلية
ومن الأشياء المهمة في الكتاب قراءة نقدية تحليلية قدمتها المؤلفة عن ملامح المشروع الموسيقي للظاهري كما يتبدى في العديد من أفلامه. فتعود بالتفضيل لفيلم «صراع في الوادي» بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، ويتناول الصراع الداخلي بين طبقة الإقطاعيين والفلاحين، أي جدل العلاقة بين العبد والسيد. توضح المؤلفة أن موسيقى الفيلم تبدأ مع خلفية حوار البطل قبل التتر أو ما يعرف بـ«أفان تتر» بعزف ناي منفرد مصاحب لصوته وهو يعطي نبذة عن موضوع الفيلم، مشيرة إلى أن الظاهري، استخدم «الراست» وهو مقام موسيقي شرقي يناسب أجواء المواويل والأغاني الشعبية وموروث الريف مع الناي كآلة شعبية تناسب أجواء الفلاحين والأراضي الزراعية. ثم تنتقل موسيقى الفيلم للعزف بآلة «التيمباني» الإيقاعية كريشندو، أي التدرج في شدة الصوت من الضعف إلى القوة، ثم دخول الأوركسترا والكورال بتيمة أيضاً تعبر عن جو الفيلم. ويستخدم المؤلف الآلات الشرقية بكثرة مع الأوركسترا. وتعتمد موسيقى المشاهد الدرامية على العزف المنفرد «صولو» لآلة القانون مع التقطيع الموسيقى كخلفية للحوار على نحو يمنح الإحساس للمشاهد بقيمة الأرض وأهميتها ليس فقط للمزارعين بل للجميع.
وعن فيلم «باب الحديد» للمخرج يوسف شاهين، بطولة هند رستم وفريد شوقي، وهو فيلم اجتماعي واقعي يعبر عن حياة المجتمع المصري بكل فئاته وطوائفه من خلال عدد من الشخصيات المهمشة التي تتخذ من محطة السكة الحديد الرئيسية موطناً لها. توضح المؤلفة كيف أن من جماليات الفيلم، موسيقى ما قبل التتر المصاحبة لصوت الفنان القدير حسن البارودي والتي تبدأ بالعزف على آلة التيمباني الإيقاعية باهتزاز الصوت، لافتة إلى أنه بدخول آلة «القانون» تكتمل الروح الشرقية للمكان ومع آلة «الهارب» ودخول الكورال بآهاته تكتمل أجواء الحلم المستحيل للبطل «قناوي» الذي يعاني من الحرمان ويطارد بعينيه المسافرات وفتيات الشاي والقهوة، ثم يأتي العزف المنفرد للناي ليجسد مأساته في أشد صورها وضوحاً وجلاء.