من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر
TT

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

أذكر أنني تناولت حياة بطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة في هذا الباب، وقد كنت أدرك دوما أهمية هذا الرجل بالنسبة لروسيا وتاريخها، وكيف أنه أخرجها من ظلمات عصور الجاهلية إلى الحداثة من خلال عملية «تغريب» استمرت منذ اعتلائه سدة الحكم بشكل مطلق في عام 1696 وذلك بعد قضائه على كامل نفوذ أخته صوفيا التي كانت وصية عليه وعلى أخيه إيفان الخامس الذي توج قيصرا إلى جانب بطرس. وبمجرد أن اعتلى الرجل سدة الحكم في البلاد بعد موت أخيه وقيامه بنفي أخته صوفيا، قرر أن يغير روسيا ليخرجها من عزلتها الشرقية ويجعلها دولة أوروبية شكلا ومضمونا وسياسة.
وقد واجه هذا الرجل مشكلات كثيرة في سعيه هذا، إلى الحد الذي جعله يدرك، ضمن أمور أخرى، ضرورة تغيير العاصمة الروسية موسكو لصالح مدينة أخرى بعيدة عنها كل البعد؛ ليس فقط من حيث المسافة، ولكن من حيث الفكر والتقاليد.. فلقد كانت موسكو رمزا للفكر والتقاليد المحافظة، فكانت ترفض كل أنواع الحداثة أو التطوير، التي رأتها نوعا من الخروج على الكنيسة الأرثوذكسية وتقاليد الشعب الروسي. وبالتالي، وصل الرجل لقناعة بأن فرص تطبيق مشروعه التحديثي لن تتأتي إلا بترك موسكو التي لم يكن لها في قلبه حب كبير بسبب طفولته البائسة وسط مؤامرات الكرملين وخيالة «السترليتزي» أو الحرس القيصري، الذين كادوا يودون بحياته بسبب ثوراتهم الممتدة وتحالفهم مع أخته صوفيا، وحتى بعد القضاء عليهم وإعدام 1183 منهم (تروى القصص التاريخية أن الرجل شارك في قطع رقابهم بنفسه انتقاما مما فعلوه به والخوف الذي أدخلوه في قلبه وهو صغير) فإن القيصر الجديد كان يريد الخروج من موسكو بأي ثمن نحو مدينة تكون «نافذة روسيا على العالم»، فتكون أول مدينة تطل على البحر.
كان لا بد للرجل أن يجد المدينة المناسبة لبداية مشروع الحداثة، وهو ما قرره في عام 1703م عندما استقر رأيه على بناء مدينة سان بطرسبورغ على نهر نيفا Neva، التي تطل أيضا على بحر البلطيق لتصبح منفذا بحريا ومركزا للتفاعل مع القارة الأوروبية بعدما كانت روسيا دولة قارية منعزلة لا موانئ لها إلا بعد الحملات الجنوبية في البحر الأسود للاستيلاء على ميناء أزوف من الدولة العثمانية. وقد بدأ الرجل رحلة بنائه للمدينة بنفسه، وقلما نجد قائدا يقوم ببناء البيوت بنفسه وبهذه السرعة، فلقد تعلم الرجل النجارة والعمارة خلال رحلة له في أوروبا لمدة عام ونصف العام وهو قيصر تاركا ملكه في سبيل العلم. ويقال إن الرجل بدأ في بناء المدينة ببناء كوخ خاص لإقامته في 3 أيام فقط. وحقيقة الأمر أن رحلة بناء المدينة كانت صعبة للغاية لأن القيصر الشاب قد اختار منطقة استراتيجية، ولكنها كانت على مستنقعات، بالتالي كانت عملية تجفيف هذه المدينة صعبة للغاية وتحتاج لجهود مضنية، ولكن الرجل لم يتورع عن استخدام كل الأساليب الإنسانية وغير الإنسانية لبناء مدينته في أسرع وقت، بما في ذلك السخرة، والأسرى، وأبناء الشعب، والجنود، وكل ما استطاع أن يضع يده عليه من رجال، بل تورد بعض المصادر التاريخية أن الرجل فرض على ضباط جيشه الحديث العمل بأيديهم، وهو ما كانوا على أتم استعداد لفعله ما داموا قد رأوا قائدهم وقيصرهم يفعل الشيء نفسه، بل إن كثيرا من البناة استخدموا أياديهم لهذا الغرض لقلة الأدوات وكثرة ضغط القيصر عليهم.. وفي أشهر قليلة، بدأت معالم المدينة تتضح، وخلال السنوات القليلة التالية استطاع الرجل بضغطه وقوة شخصيته أن يفرض على العاملين الانتهاء منها، وأصبحت سان بطرسبورغ العاصمة الجديدة للقيصر الروسي الذي توج نفسه إمبراطورا بعدما أصبح له جيش حديث على الطراز الغربي ومعه أسطول لا بأس به ينافس به القوى المتوسطة في أوروبا. وقد نصره الله على عدوه اللدود الملك شارل الثاني عشر في معركة بولتافا الشهيرة في عام 1708 التي حسمت نهائيا الأطماع السويدية في الأراضي الروسية وجعلت روسيا القوة البحرية الأساسية في الشمال وفي بحر البلطيق.
لقد استعرضت كل هذه الحقائق وأنا أخرج من محطة قطار سان بطرسبورغ، وقد كنت على يقين من أنني على لقاء مع التاريخ الذي شممت رائحته منذ أول دقيقة وطأت فيها قدماي المدينة، فهي مدينة لا تختلف شكلا أو موضوعا عن العواصم الأوروبية الكبرى، بل لها طابعها الخاص الجميل سواء من حيث المعمار أو الروح العامة لروسيا؛ فمن المباني ومعمارها يشعر الإنسان أنه في القرن الثامن عشر في أي دولة أوروبية. وقد وجدت نفسي أزور معظم أنحاء هذه المدينة الجميلة ومبانيها المختلفة التي عكست عظمة هذه الدولة العريقة وعبقرية بطرس الأكبر وبعض القياصرة من بعده، وقد تأثرت كثيرا في الساعات التي قضيتها في القصر الخاص ببطرس الأكبر (Peter Hoff)، الذي يبعد عن وسط المدينة قرابة 40 كيلومترا، فهو بكل تأكيد محاولة لتقليد قصر فرساي في فرنسا، ووضح من خلال معماره أنه يعكس الرغبة والتصميم لدى بطرس لجعل العاصمة الجديدة على الطراز المعماري الأوروبي حتى لا تكون روسيا أقل من أي دولة أوروبية أخرى، بل إن مصمم الحديقة الخاصة به كان أحد تلاميذ المهندس الذي شيد هذا قصر فرساي ذاته.
وعند خروجي من هذا القصر العظيم وجدت نفسي أصطدم بحقيقية كنت أعرفها، ولكنني لم أدركها إلا بعد زيارة المدينة والتعلم من تاريخها، فهذه المدينة تعتبر في تقديري نموذجا قليل الوجود للمدن التي تبنى لتغيير المجرى الثقافي لدولة، فسان بطرسبورغ نموذج واقعي للانتقال الحضاري والثقافي آنذاك في روسيا، فهي تعبير عن الحداثة والخروج من العزلة الثقافية والفكرية التي كانت سائدة في روسيا وموسكو، فالمدينة ليست معمارا أو شكلا أو حتى طرازا مختلفا، ولكنها تمثل فكرة وفعل جسد مفهوم التنوير الذي يختلف تماما عن المدن الروسية الأخرى، وقد ساعدها على ذلك أن الله منّ على روسيا بإمبراطورة اسمها كاثرين الكبرى استطاعت أن تستكمل بناء المدينة وتمنحها الوهج الثقافي والمعماري والثقافي العظيم الذي هي عليه اليوم.
وقد وجدت نفسي أقف أمام تمثال كبير يسمي «الفارس البرونزي» وهو لشخصية ضخمة للغاية طويل القامة عريض المنكبين، وهو لبطرس الأكبر، تم إنشاؤه في عهد القيصرة كاثرين الكبرى تخليدا لذكرى مؤسس المدينة، وقد وقفت أمامه متأملا شخصية هذا الرجل العظيم الذي يصعب أن يجود التاريخ بمثله على الدول. وحقيقة الأمر أنني فقدت السيطرة على الزمن ولم يخرجني من حالة الخيال التاريخي والاندهاش والإعجاب إلا شدة البرودة التي زادتني احتراما لبطرس الأكبر الذي استطاع أن يتحدى كل العوامل الطبيعية القاسية في روسيا ليبني هذه المدينة في أسرع وقت اندفاعا خلف حلمه القومي والتنويري لبلاده الحبيبة. ولكنني لم أخرج من هذه الانتعاشة التاريخية إلا وأنا مدرك ليقين بداخلي بدأ يساعدني على إعادة رؤية التاريخ من خلال هذا الرجل ومدينته الجميلة، وهو أن حكام الشعوب في بعض المناسبات قد تكون لهم رؤية أكبر وأعمق من الشعوب التي يحكمونها، خاصة إذا ما تميزت هذه المجتمعات بالتخلف أو العزلة كما كانت روسيا أثناء عهد بطرس الأكبر، وهنا أدركت عظمة المنحة الإلهية للدول عندما يضع لها المولى عز وجل من يقوم بتطويرها ويدفع شعبها نحو الرقي والتحضر، وهي قناعة أدركتها كلما مررت بهذه المدينة الجميلة.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.