من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر
TT

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

أذكر أنني تناولت حياة بطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة في هذا الباب، وقد كنت أدرك دوما أهمية هذا الرجل بالنسبة لروسيا وتاريخها، وكيف أنه أخرجها من ظلمات عصور الجاهلية إلى الحداثة من خلال عملية «تغريب» استمرت منذ اعتلائه سدة الحكم بشكل مطلق في عام 1696 وذلك بعد قضائه على كامل نفوذ أخته صوفيا التي كانت وصية عليه وعلى أخيه إيفان الخامس الذي توج قيصرا إلى جانب بطرس. وبمجرد أن اعتلى الرجل سدة الحكم في البلاد بعد موت أخيه وقيامه بنفي أخته صوفيا، قرر أن يغير روسيا ليخرجها من عزلتها الشرقية ويجعلها دولة أوروبية شكلا ومضمونا وسياسة.
وقد واجه هذا الرجل مشكلات كثيرة في سعيه هذا، إلى الحد الذي جعله يدرك، ضمن أمور أخرى، ضرورة تغيير العاصمة الروسية موسكو لصالح مدينة أخرى بعيدة عنها كل البعد؛ ليس فقط من حيث المسافة، ولكن من حيث الفكر والتقاليد.. فلقد كانت موسكو رمزا للفكر والتقاليد المحافظة، فكانت ترفض كل أنواع الحداثة أو التطوير، التي رأتها نوعا من الخروج على الكنيسة الأرثوذكسية وتقاليد الشعب الروسي. وبالتالي، وصل الرجل لقناعة بأن فرص تطبيق مشروعه التحديثي لن تتأتي إلا بترك موسكو التي لم يكن لها في قلبه حب كبير بسبب طفولته البائسة وسط مؤامرات الكرملين وخيالة «السترليتزي» أو الحرس القيصري، الذين كادوا يودون بحياته بسبب ثوراتهم الممتدة وتحالفهم مع أخته صوفيا، وحتى بعد القضاء عليهم وإعدام 1183 منهم (تروى القصص التاريخية أن الرجل شارك في قطع رقابهم بنفسه انتقاما مما فعلوه به والخوف الذي أدخلوه في قلبه وهو صغير) فإن القيصر الجديد كان يريد الخروج من موسكو بأي ثمن نحو مدينة تكون «نافذة روسيا على العالم»، فتكون أول مدينة تطل على البحر.
كان لا بد للرجل أن يجد المدينة المناسبة لبداية مشروع الحداثة، وهو ما قرره في عام 1703م عندما استقر رأيه على بناء مدينة سان بطرسبورغ على نهر نيفا Neva، التي تطل أيضا على بحر البلطيق لتصبح منفذا بحريا ومركزا للتفاعل مع القارة الأوروبية بعدما كانت روسيا دولة قارية منعزلة لا موانئ لها إلا بعد الحملات الجنوبية في البحر الأسود للاستيلاء على ميناء أزوف من الدولة العثمانية. وقد بدأ الرجل رحلة بنائه للمدينة بنفسه، وقلما نجد قائدا يقوم ببناء البيوت بنفسه وبهذه السرعة، فلقد تعلم الرجل النجارة والعمارة خلال رحلة له في أوروبا لمدة عام ونصف العام وهو قيصر تاركا ملكه في سبيل العلم. ويقال إن الرجل بدأ في بناء المدينة ببناء كوخ خاص لإقامته في 3 أيام فقط. وحقيقة الأمر أن رحلة بناء المدينة كانت صعبة للغاية لأن القيصر الشاب قد اختار منطقة استراتيجية، ولكنها كانت على مستنقعات، بالتالي كانت عملية تجفيف هذه المدينة صعبة للغاية وتحتاج لجهود مضنية، ولكن الرجل لم يتورع عن استخدام كل الأساليب الإنسانية وغير الإنسانية لبناء مدينته في أسرع وقت، بما في ذلك السخرة، والأسرى، وأبناء الشعب، والجنود، وكل ما استطاع أن يضع يده عليه من رجال، بل تورد بعض المصادر التاريخية أن الرجل فرض على ضباط جيشه الحديث العمل بأيديهم، وهو ما كانوا على أتم استعداد لفعله ما داموا قد رأوا قائدهم وقيصرهم يفعل الشيء نفسه، بل إن كثيرا من البناة استخدموا أياديهم لهذا الغرض لقلة الأدوات وكثرة ضغط القيصر عليهم.. وفي أشهر قليلة، بدأت معالم المدينة تتضح، وخلال السنوات القليلة التالية استطاع الرجل بضغطه وقوة شخصيته أن يفرض على العاملين الانتهاء منها، وأصبحت سان بطرسبورغ العاصمة الجديدة للقيصر الروسي الذي توج نفسه إمبراطورا بعدما أصبح له جيش حديث على الطراز الغربي ومعه أسطول لا بأس به ينافس به القوى المتوسطة في أوروبا. وقد نصره الله على عدوه اللدود الملك شارل الثاني عشر في معركة بولتافا الشهيرة في عام 1708 التي حسمت نهائيا الأطماع السويدية في الأراضي الروسية وجعلت روسيا القوة البحرية الأساسية في الشمال وفي بحر البلطيق.
لقد استعرضت كل هذه الحقائق وأنا أخرج من محطة قطار سان بطرسبورغ، وقد كنت على يقين من أنني على لقاء مع التاريخ الذي شممت رائحته منذ أول دقيقة وطأت فيها قدماي المدينة، فهي مدينة لا تختلف شكلا أو موضوعا عن العواصم الأوروبية الكبرى، بل لها طابعها الخاص الجميل سواء من حيث المعمار أو الروح العامة لروسيا؛ فمن المباني ومعمارها يشعر الإنسان أنه في القرن الثامن عشر في أي دولة أوروبية. وقد وجدت نفسي أزور معظم أنحاء هذه المدينة الجميلة ومبانيها المختلفة التي عكست عظمة هذه الدولة العريقة وعبقرية بطرس الأكبر وبعض القياصرة من بعده، وقد تأثرت كثيرا في الساعات التي قضيتها في القصر الخاص ببطرس الأكبر (Peter Hoff)، الذي يبعد عن وسط المدينة قرابة 40 كيلومترا، فهو بكل تأكيد محاولة لتقليد قصر فرساي في فرنسا، ووضح من خلال معماره أنه يعكس الرغبة والتصميم لدى بطرس لجعل العاصمة الجديدة على الطراز المعماري الأوروبي حتى لا تكون روسيا أقل من أي دولة أوروبية أخرى، بل إن مصمم الحديقة الخاصة به كان أحد تلاميذ المهندس الذي شيد هذا قصر فرساي ذاته.
وعند خروجي من هذا القصر العظيم وجدت نفسي أصطدم بحقيقية كنت أعرفها، ولكنني لم أدركها إلا بعد زيارة المدينة والتعلم من تاريخها، فهذه المدينة تعتبر في تقديري نموذجا قليل الوجود للمدن التي تبنى لتغيير المجرى الثقافي لدولة، فسان بطرسبورغ نموذج واقعي للانتقال الحضاري والثقافي آنذاك في روسيا، فهي تعبير عن الحداثة والخروج من العزلة الثقافية والفكرية التي كانت سائدة في روسيا وموسكو، فالمدينة ليست معمارا أو شكلا أو حتى طرازا مختلفا، ولكنها تمثل فكرة وفعل جسد مفهوم التنوير الذي يختلف تماما عن المدن الروسية الأخرى، وقد ساعدها على ذلك أن الله منّ على روسيا بإمبراطورة اسمها كاثرين الكبرى استطاعت أن تستكمل بناء المدينة وتمنحها الوهج الثقافي والمعماري والثقافي العظيم الذي هي عليه اليوم.
وقد وجدت نفسي أقف أمام تمثال كبير يسمي «الفارس البرونزي» وهو لشخصية ضخمة للغاية طويل القامة عريض المنكبين، وهو لبطرس الأكبر، تم إنشاؤه في عهد القيصرة كاثرين الكبرى تخليدا لذكرى مؤسس المدينة، وقد وقفت أمامه متأملا شخصية هذا الرجل العظيم الذي يصعب أن يجود التاريخ بمثله على الدول. وحقيقة الأمر أنني فقدت السيطرة على الزمن ولم يخرجني من حالة الخيال التاريخي والاندهاش والإعجاب إلا شدة البرودة التي زادتني احتراما لبطرس الأكبر الذي استطاع أن يتحدى كل العوامل الطبيعية القاسية في روسيا ليبني هذه المدينة في أسرع وقت اندفاعا خلف حلمه القومي والتنويري لبلاده الحبيبة. ولكنني لم أخرج من هذه الانتعاشة التاريخية إلا وأنا مدرك ليقين بداخلي بدأ يساعدني على إعادة رؤية التاريخ من خلال هذا الرجل ومدينته الجميلة، وهو أن حكام الشعوب في بعض المناسبات قد تكون لهم رؤية أكبر وأعمق من الشعوب التي يحكمونها، خاصة إذا ما تميزت هذه المجتمعات بالتخلف أو العزلة كما كانت روسيا أثناء عهد بطرس الأكبر، وهنا أدركت عظمة المنحة الإلهية للدول عندما يضع لها المولى عز وجل من يقوم بتطويرها ويدفع شعبها نحو الرقي والتحضر، وهي قناعة أدركتها كلما مررت بهذه المدينة الجميلة.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».