تقلبات أسعار النفط.. تاريخ طويل من التجارب

من حرب 73 إلى الهبوط الكبير عام 1986 وصولا إلى الأزمة المالية العالمية

تقلبات أسعار النفط.. تاريخ طويل من التجارب
TT

تقلبات أسعار النفط.. تاريخ طويل من التجارب

تقلبات أسعار النفط.. تاريخ طويل من التجارب

في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما اجتمع وزراء منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في العاصمة النمساوية فيينا في الغرفة المغلقة التي لا يدخلها سوى الوزراء والأمين العام للمنظمة، تقدمت بعض الدول من بينها فنزويلا والجزائر بمقترح يعتمد على إخراج 2 مليون برميل يوميا من السوق في آخر محاولة لإقناع وزير البترول السعودي علي النعيمي ورفاقه الخليجيين بخفض إنتاج المنظمة لدعم الأسعار التي هبطت قبيل الاجتماع إلى أقل مستوى في 4 سنوات.
كان المقترح يعتمد على أن تخفض دول أوبك 1.5 مليون برميل يوميا من سقف إنتاجها البالغ 30 مليون برميل يوميا، فيما يقوم وزير خارجية فنزويلا ومبعوثها إلى أوبك رافاييل راميرز بإقناع روسيا والمكسيك بتخفيض الـ500 ألف برميل الباقية.
لكن النعيمي رفض هذا المقترح قائلا للجميع «من خبرتي الطويلة التي دامت 60 عاما في قطاع النفط أحب أن أقول لكم إننا لا يمكن أن نعتمد على روسيا أو غيرها لمساعدتنا في رفع الأسعار»، بحسب ما أوضحته مصادر في أوبك لـ«الشرق الأوسط» على اطلاع بما دار في الاجتماع.
لقد أزعج قرار النعيمي هذا وزراء البترول الباقين في الاجتماع الذين رأوا في التوجه إلى روسيا «القشة التي سيتعلق بها الغريق»، إلا أنهم استسلموا جميعا للأمر الواقع، فالسوق يعاني من فائض كبير بين 1 إلى 2 مليون برميل يوميا وجزء كبير من هذا الفائض تراكم بسبب زيادة إنتاج النفط من خارج أوبك وخصوصا من حقول النفط الصخري في الولايات المتحدة، ولن ترتفع الأسعار إلا إذا قامت السعودية ودول الخليج بالمساهمة في تخفيض كبير لإنتاجهم، وهذا ما لن يحدث بسهولة.
وأمام هذه المعطيات اتفق الوزراء على أن يبقوا سقف إنتاج المنظمة كما هو ويسلموا السوق مهمة تصحيح الأسعار وموازنة العرض مع الطلب. وخرجوا من الاجتماع وهم مدركون تماما أن الأسعار لن ترتفع إلى 90 أو 100 بعد اليوم. ومنذ ذلك اليوم وأسعار النفط مستمرة في الهبوط، وفي هذا الأسبوع تتداول حول مستويات 65 إلى 67 دولارا وهي أقل مستويات لها منذ منتصف عام 2009.
يرى الكثير من المحللين أن هذا الهبوط سيكون قاصمة ظهر لأوبك إذ إنها ولأول مرة تسلم الأمر بالكامل للسوق لتحديد الأسعار وقد تصل الأسعار إلى مستويات منخفضة جدا أقل مما يتوقعه الجميع.
لكن هذه ليست هي المرة الأولى التي تهبط فيها أسعار النفط بالنسبة لأوبك ولن تكون الأخيرة، ولكن ما يميز هذه المرة عن غيرها هو أن الهبوط تم بإدارة من أوبك لكن موازنة السوق لن تكون بالأمر السهل وستتطلب نفسا طويلا جدا إذا ما أراد الجميع أن يتركوا الأسعار لقوى السوق. وهنا أبرز محطات أسعار النفط صعودا وارتفاعا منذ عام 1973.

* حظر النفط العربي 1973
* كانت أسعار النفط مستقرة طيلة السنوات التي سبقت عام 1973 عند مستوى قريب من 3.6 دولار إذ إن أسعار النفط كانت بيد الشركات العالمية وخاصة مجموعة من الشركات تعرف باسم الأخوات الـ7 (إكسون وموبيل وشيفرون وغلف وتكساكو وشل وبي بي) وكانت هذه الشركات هي التي تضع الأسعار بالاتفاق فيما بينها وكانت هي التي تحدد حجم العرض في السوق ولهذا كان السوق مستقرا ومتوازنا في أغلب الأحيان.
وانهار هذا النظام بعد القرار الذي اتخذه المنتجون العرب للنفط داخل أوبك في الكويت عام 1973 بحظر تصدير النفط العربي إلى الولايات المتحدة احتجاجا على دعمها لإسرائيل في حربها ضد مصر آنذاك. وسرعان ما بدأت أسعار النفط في الارتفاع. وواصلت الأسعار ارتفاعها تدريجيا حتى بلغت 12 دولارا بنهاية عام 1974.
واستقرت الأسعار عند مستوى بين 12.5 دولار و14 دولارا خلال الفترة ما بين 1974 و1978 وكان إنتاج أوبك حينها مستقرا عند 30 مليون برميل يوميا. ولكن بقاء الأسعار مرتفعة ساهم كذلك في زيادة الإنتاج من خارج أوبك خلال نفس الفترة ليرتفع من 25 مليون برميل يوميا إلى 31 مليون برميل يوميا.

* الحرب العراقية - الإيرانية
* في عام 1979 انطلقت الثورة الإسلامية في إيران وانقطعت إمدادات النفط حينها عن السوق بما يقارب نحو 2 مليون برميل يوميا. وتضاعفت الأسعار في ذلك العام لتصل القيمة الاسمية للبرميل إلى 25 دولارا. وكانت هذه أعلى قيمة يصل إليها سعر برميل النفط منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1980 بدأت الحرب العراقية - الإيرانية التي تسببت في هبوط إجمالي إنتاج النفط من البلدين من 6.5 مليون برميل يوميا قبل الحرب إلى نحو مليون برميل يوميا في عام 1981. وبسبب الحرب في الخليج ارتفع متوسط أسعار النفط إلى 35 دولارا في 1980 ثم إلى 37 دولارا في 1981 وكانت هذه هي أعلى قيمة يصل إليها برميل النفط في التاريخ.

* سنوات سوء إدارة أوبك
* بين أعوام 1982 و1985 انخفضت أسعار النفط بصورة كبيرة والسبب في ذلك كان سوء إدارة أوبك للسوق وطمع وجشع الدول الأعضاء الذين عملوا المستحيل لإبقاء أسعار النفط عالية. لكن بقاء أسعار النفط عالية هو ما تسبب في تدمير الطلب على النفط واتجاه العالم نحو ترشيد الطاقة واستخدام البدائل، كما ساهم ذلك في زيادة الإنتاج من خارج أوبك وبخاصة من بحر الشمال الذي كان قاصمة ظهر لأوبك.
وانخفضت أسعار النفط من 35 دولارا في 1981 إلى 31 دولارا في 1982 ثم تواصل الهبوط إلى 29 دولارا في عام 1983 واستمر ليصل إلى 28 دولارا في 1984 وأخيرا إلى 26 دولارا في 1985 قبل أن تنهار في عام 1986 وتصل إلى 14 دولارا مجددا كما كانت عليه في عام 1978.
وخلال هذه الفترة حاولت السعودية من خلال وزير نفطها السابق الشيخ أحمد زكي يماني إقناع باقي أوبك بضرورة خفض الأسعار وأن هذا لن يفيد أوبك في المدى البعيد ولكن من دون جدوى.
ونتيجة لسياسات أوبك الخاطئة وجشع دولها انخفض إنتاج أوبك ليصل إلى قرابة نصف إنتاجها السابق البالغ 30 مليون برميل مع تراجع الطلب وزيادة الإنتاج من خارج أوبك. وحاولت أوبك خلال هذه الفترة فرض نظام الحصص على دولها ولكن من دون فائدة إذ لم يرغب أحد في الالتزام بالإنتاج بأي حصة مما تسبب في تدهور الوضع. ثم حاولت السعودية خلال هذه الفترة لعب دور المنتج المرجح في محاولة يائسة لرفع الأسعار. وتحت هذا الدور كان على السعودية أن تدع كل دول أوبك تنتج كل ما تقدر عليه للوصول إلى سقف الإنتاج حينها ثم تقوم هي بإكمال النقص.
وحاولت أوبك في ذلك الوقت الدفاع عن سعر محدد وهو 28 دولارا ثم عادت للدفاع عن سعر 18 دولارا إلا أن النفط كان لا يزال عند 14 دولارا. وبسبب دور المنتج المرجح الذي لعبته السعودية انخفض إنتاجها اليومي إلى 2 مليون برميل بحلول منتصف عام 1986 وانتهت هذه الأمور المأساوية بإعفاء الشيخ يماني من منصبه.

* الهبوط الكبير عام 1986
* لا يمكن أن ينسى كل من عاشوا وعملوا في القطاع النفطي الهبوط الكبير في أسعار النفط الذي بدأ من عام 1986 بعد أن أعلنت أوبك فيما بينها أشرس حرب أسعار. فبعد أن تخلت السعودية عن دور المنتج المرجح وأعلنت أنها ستدافع عن حصتها في السوق أمام باقي المنتجين في أوبك، بدأت الأمور تتغير إذ قدمت تخفيضات كبيرة على نفطها ورفعت الإنتاج بصورة كبيرة لإغراق السوق واستعادة حصتها. وبطبيعة الحال لم يستسلم أحد في أوبك وبدأ الجميع في تقليد السعودية وإعطاء تخفيضات كبيرة وهو ما أدى في الأخير إلى هبوط أسعار النفط إلى أقل من 10 دولارات. وكانت بعض الدول في أوبك تبيع برميل النفط في ذلك العام بسعر 7 دولارات.
وانتصرت السعودية في تلك الحرب ثم عادت أوبك إلى الاتفاق على أنها يجب أن تحمي سعر 18 دولارا واتفق الجميع في ديسمبر (كانون الأول) عام 1986 على أنه يجب عليهم تقليص الإنتاج مجددا للدفاع عن هذا السعر وخفضه من 17 مليون برميل يوميا إلى 15.8 مليون برميل. وظلت أسعار النفط أقل من 18 دولارا بين أعوام 1987 و1989 قبل أن ترتفع إلى 23 في عام 1990 بعد غزو العراق للكويت.

* الأزمة الآسيوية 1997
* ظلت أسعار النفط تدور في فلك العشرين دولارا طيلة السنوات الـ7 بين 1990 و1997 وهو العام الذي انهارت فيه الاقتصادات الآسيوية وتسبب بما يعرف بالأزمة الآسيوية. وكانت أوبك قد اجتمعت في إندونيسيا في ذلك العام واتفقت على رفع إنتاجها وتزامن هذا مع انهيار الطلب وفي الوقت ذاته مع بدء الأمم المتحدة للعراق تصدير نفطها تحت برنامج النفط مقابل الغذاء. وبفضل هذه الظروف انهارت الأسعار لتصل إلى 10 دولارات مجددا وسجل متوسط سعر النفط في 1998 11 دولارا للبرميل.
وانتهت هذه الأزمة بفضل محاولة ماراثونية من الوزير السعودي علي النعيمي الذي أكمل حينها عامه الثاني في الوزارة. وتمكن النعيمي من إقناع أوبك والمنتجين خارجها مثل المكسيك والنرويج بخفض الإنتاج لرفع الأسعار. وفي عام 1999 ارتفعت أسعار النفط إلى 16 دولارا ثم إلى 27 دولارا في عام 2000 واستعادت أوبك ومنتجو النفط عافيتهم.

* الأزمة المالية العالمية
* في الأعوام ما بين 2000 و2008 ازداد الطلب على النفط في العالم بصورة كبيرة جدا بعد نمو الطلب من الصين والهند وباقي الدول الناشئة كما أطلق عليها حينها. إلا أن النمو في الطلب كان مفاجئا ولم تكن أوبك جاهزة له وهو ما تسبب في ارتفاع الأسعار بسبب محدودية نمو المعروض النفطي أمام نمو الطلب.
لكن عام 2008 كان مخيبا للآمال. ففي ذلك العام اشتدت المضاربة على أسعار النفط وساهمت في ارتفاع الأسعار ووصولها إلى 147 في يوليو (تموز) ذلك العام وهو أعلى مستوى لها في التاريخ. إلا أن الأسعار انهارت في النصف الثاني من ذلك العام بعد أن تقلصت المضاربة وضعف الطلب بسبب الأزمة المالية العالمية التي نشأت نتيجة سقوط المصارف الأميركية الكبرى وانهيار شركات الرهن العقاري. وانخفضت الأسعار بنهاية عام 2008 إلى ما دون 40 دولارا للبرميل.
واتخذت أوبك قرارا في ذلك العام في اجتماع وهران التاريخي في الجزائر بعمل أكبر تخفيض جماعي في تاريخ المنظمة وعلى أثره تم سحب 4.2 مليون برميل يوميا من السوق. واستعادت الأسعار عافيتها منذ ذلك الحين.

* الربيع العربي
* في عام 2011 تفاقمت الاضطرابات السياسية في المنطقة العربية في أعقاب الربيع العربي وأدى ذلك إلى انقطاع الإمدادات من الكثير من الدول المنتجة مثل ليبيا وسوريا واليمن. وخرج نحو 1.6 مليون برميل يوميا من النفط الليبي الخفيف عالي الجودة ولم تتمكن دولة في أوبك من تعويضه. ولهذا ارتفعت أسعار النفط منذ ذلك الحين فوق مستوى 100 دولار واستقرت عند ذلك الحد حتى سبتمبر (أيلول) من العام الجاري نظرا لأن ليبيا ما زالت غير مستقرة إضافة إلى سوريا والعراق.
وفي عام 2012 فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حظرا على تصدير النفط الإيراني تسبب في خروج نحو مليون برميل يوميا من نفطها من السوق. وأدى هذا الأمر إلى تفاقم المخاوف من رد فعل عسكري إيراني وهو ما أبقى أسعار النفط عالية.
وكما حدث في الثمانينات، فإن بقاء أسعار النفط فوق 100 دولار لـ3 سنوات ونصف ساهم في إضعاف الطلب نوعا ما وسمح بدخول حقول جديدة ومصادرة جديدة لإنتاج النفط إلى السوق. ففي الثمانينات دخل بحر الشمال، وفي السنوات الأخيرة دخل النفط الصخري إلى السوق. وتسبب هذا الأمر إضافة إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي وانحسار المخاوف السياسية في المنطقة، في هبوط أسعار النفط من 115 دولارا في يونيو (حزيران) إلى 65 دولارا حتى وقت كتابة هذه السطور.



«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.