المأساة الجماعية والهم الفردي في أعمال فلسطينية

الغالبية روت «نكبتها».. وقليلون التفتوا إلى الحكايات الفردية

من كاريكاتير ناجي العلي ... و إميل حبيبي
من كاريكاتير ناجي العلي ... و إميل حبيبي
TT

المأساة الجماعية والهم الفردي في أعمال فلسطينية

من كاريكاتير ناجي العلي ... و إميل حبيبي
من كاريكاتير ناجي العلي ... و إميل حبيبي

في أواخر القرن الماضي، منحت بلدية حيفا رجل أعمال من تل أبيب رخصة بناء عمارة شاهقة فوق منزل متهالك مؤلف من طابقين، تعود ملكيته لأسرة عربية. لدى توجه مالك المنزل، إيلي، إلى مقر البلدية لتصحيح ما بدا له خطأ، إذ ليس لأحد الحق في التعدي على أملاكه الخاصة، فوجئ بالموظف يخبره أن صك الملكية الذي لديه يعطيه فقط حق التصرف بالأرض التي يقع عليها المنزل، أما الفضاء الشاسع الممتد فوقه فتعود ملكيته إلى السلطات، التي بدورها باعت «حقوق ملكية الهواء» لرجل الأعمال ذاك! فما كان من إيلي، أمام هذا الواقع «الكافكاوي» إلا أن أعلن استسلامه، ومن يومها ما انفك يتلو قصته على مسامع أصدقائه الغارقين في بحر من الضحك.
قلّما تتطرق وسائل الإعلام، أو حتى الكتاب والفنانون، لمجريات الحياة اليومية داخل الأراضي الفلسطينية، من دون أن تستحضر الظرف التاريخي لتلك البقعة الجغرافية، والمتمثل بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. فالصورة عن الواقع هناك يحكمها منظور مسيّس يختلف باختلاف الميول الآيديولوجية لصاحبها. لذلك غالبا ما تبدو الشخصية الفلسطينية أحادية الجانب، تتمحور جلّ اهتماماتها حول الصراع. لكن أن يكون المرء فلسطينيا، لا يعني ذلك أن تدور حياته فقط حول مقارعة الاحتلال وفضح جرائمه، إن كان في الداخل، أو الحنين إلى فردوسه المفقود، إن كان في الشتات. فالهوية الفلسطينية ليست كتلة مصمتة متماثلة التجارب والخبرات، ولا بد أن لكل واحد من منتسبيها همومه الشخصية بمعزل عن الإطار الجمعي للمأساة الفلسطينية. صحيح لا يمكن تجاهل 6 عقود من الظلم والإجحاف، ولكن في نهاية الأمر، يبقى للفلسطيني، كغيره من بني البشر، أحلامه وانكساراته الخاصة. فالإعراض عن التطرق لمثل هذه الجوانب الفردية يهدد بخلق صورة مبتسرة تحجب الذات الفلسطينية أكثر مما تكشف ملامحها ومزاياها.
حمى تجاهل الجوانب الفردية أصابت حتى الفلسطينيين العاديين أنفسهم، إذ قلما نراهم يتحدثون عن نكبتهم على المستوى الشخصي، خارج الإطار الجمعي لنكبتهم كشعب. وتعتقد المعمارية الفلسطينية سعاد العامري: «انه لا يوجد بين الفلسطينيين من يتحدث بحسرة وألم عن فقدانه لممتلكاته الشخصية، كغرفة النوم، والحديقة، والسيارة، على سبيل المثال، بقدر ما يتحدث عن النكبة بسياقها الجمعي المتمثل باقتلاع شعب كامل من وطنه.
في كتابها الجديد «غولدا نامت هنا»، الصادر بالإنجليزية في أكتوبر (تشرين الأول)عن دار «بلومزبري قطر»، تقول صاحبة «شارون وحماتي»: «أكثر ما يدهشني هو أننا، كشعب، لم نكف عن رواية قصة طردنا الجماعي خارج فلسطين، لكن بطريقة ما يشعر الفرد الفلسطيني بالخجل من أن يروي قصته الشخصية حول طرده من منزله وغرفة جلوسه وغرفة نومه» (ص 172).
لذلك تأخذ العامري على عاتقها، في كتابها الذي يقع في 200 صفحة، تناول 5 شخصيات فلسطينية واقعية، مثل إيلي، كل منها يتحدث عن ذكرياته حول المنزل الذي فقده، إما خلال النكبة أو النكسة. يعرض الكتاب رؤية بانورامية عن الإنسان الفلسطيني، إذ تتراوح ردود فعل الشخصيات تجاه الفقد بين التسليم (إيلي)، والضحك الهستيري (أنضوني برامكي)، والإصرار على عدم فقدان الأمل (هدى).
يمتاز الكتاب باقتناصه لـ«عادية» الإنسان الفلسطيني، إذ يقدم صورة مباينة لما هو سائد حول «خوارقية» هذا الشعب. فبدلا من أن نقرأ عن شخصيات تتمثل أرفع قيم البطولة والتضحية والصمود، نصادف أشخاصا عاديين، إما يبكون مساكن فقدوها، أو تكتويهم نيران الحنين إلى ذكريات عائلية ما عاد من الممكن تكرارها، ولكن من دون أن يصرفهم ذلك عن الاستمتاع بتفاصيل حياتهم اليومية.
«غولدا نامت هنا» لا يحتفي بفلسطين كمكان جمعي شاهد على مأساة شعب، بقدر ما يذكرنا بأن للفلسطيني أيضا مأساته الفردية المنفصلة عن السياق السياسي للصراع. وما استخدام اسم الإشارة للمكان القريب «هنا» في عنوان الكتاب إلا للدلالة على خصوصية الطرح.
أسلوب الكتاب يتنوع ما بين النثر والشعر والمونولوج، والقصص الـ5 التي ينطوي عليها، بعضها لا يُصدق، لا بل أحيانا يقترب من لا معقولية وعبثية أعمال فرانز كافكا، من أمثال «المحاكمة» و«القلعة»، وهو أمر غير مألوف في الأعمال التي تعالج الواقع الفلسطيني. لذلك ليس من المستغرب أن يجد القارئ نفسه مضطرا، ولو خلال الـ20 صفحة الأولى على الأقل، لاستشارة محرك البحث «غوغل» للتأكد ما إذا كان الكتاب، بشخوصه ومجريات أحداثه، يعالج قضايا واقعية وليس من نسج الخيال. ولكن ليس كل سائد يخلو بالضرورة من الخيال.
هذا يعيدنا إلى نموذجين، أحدهما مستخلص من فن الكاريكاتير والآخر من جنس الرواية، يلقيان الضوء على اتجاهين رئيسيين في تجسيد صورة الفرد الفلسطيني وموقعه في سياق صراعه مع الإسرائيلي.
النموذج الأول، الذي يمثل المسار الغالب طبعا، هو «حنظلة»، تلك الشخصية «الأيقونة» التي صاغتها ريشة ناجي العلي تعبيرا عن الذات الفلسطينية المقاومة للاحتلال داخل فلسطين، أو تلك التائقة إلى العودة إليها. فحنظلة، بظهره المدار للقارئ ويديه المعقودتين إلى الخلف، بات أبلغ تعبير عن الرفض القاطع لأي مساومة على القضية الفلسطينية. هو ذلك الفلسطيني الذي لا شغل له سوى تذكير محيطه بمأساة شعبه. لذلك لم يكن ناجي العلي معنيا بالكشف عن خصائص شخصيته بقدر ما كان راغبا في توكيد حالة جمعية تؤطرها ملامح آيديولوجية خاضعة لمحددات زمانية ومكانية.
يقول ناجي العلي على لسان حنظلة: «عزيزي القارئ، اسمح لي أن أقدم لك نفسي.. أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا.. اسمي: حنظلة، اسم أبي مش ضروري، أمي.. اسمها نكبة، وأختي الصغيرة فاطمة.. نمرة رجلي: ما بعرف لأني دايما حافي.«
كما هو جلي من صورته، يقدم حنظلة الحد الأدنى من المعلومات حول شخصيته، لا اسم أب أو أم يميزه عن غيره، حتى نمرة حذائه غير معلومة. وهذا أمر طبيعي، إذ لا وجود لحنظلة من دون القضية، هو انعكاس لظرفية تاريخية متمثلة بالصراع.
على النقيض من حنظلة، يقف «سعيد أبي النحس المتشائل»، الشخصية الفريدة التي ابتكرها إميل حبيبي في روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» وباتت واحدة من كلاسيكيات السرد الفلسطيني. هناك سيل جارف من التفاصيل التي تدور حول حياة سعيد ومغامراته الشخصية، مع إشارات عابرة هنا وهناك للواقع السياسي والظرف التاريخي للمنطقة. كل ذلك من خلال نبرة هجائية ساخرة تدفع القارئ إلى البكاء ضحكا من شدة عبثية المشهد الفلسطيني.
يقول سعيد مقدما نفسه للقارئ: «اسمي، وهو سعيد أبو النحس المتشائل، يطابق رسمي مخلقا منطقا. وعائلة المتشائل عائلة عريقة نجيبة في بلادنا. يرجع نسبها إلى جارية قبرصية من حلب لم يجد تيمورلنك لرأسها مكانا في هرم الجماجم المحزوزة.. فأرسلها مع أحد قواده إلى بغداد لتغتسل فتنتظر عودته. فاستغفلته، وفرت مع أعرابي من عرب التويسات، اسمه أبجر، فطلقها حين وجدها تخونه مع الرغيف بن أبي عمرة، من غور الجفتلك، الذي طلقها في بير السبع. وظل جدودنا يطلقون جداتنا حتى حطت بنا الرحال في بسيط من الأرض أفيح متصل بسيف البحر، قيل إنه عكاء، فإلى حيفاء على الشاطئ المقابل من البسيط. وبقينا مطلاقين حتى قامت الدولة. وبعد النحس الأول، في سنة 1948. تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجر احتلالها. فلي ذوو قربى يعملون في بلاط آل رابع في ديوان الترجمة من الفارسية وإليها. وواحد تخصص بإشعال السجائر لعاهل آخر، وكان منا نقيب في سوريا، ومهيب في العراق، وعماد في لبنان. إلا أنه مات بالسكتة يوم إفلاس بنك أنترا» (ص 18 - 19).
حبيبي لا يكتفي بإمطارنا بوابل من التفاصيل عن سعيد فحسب، وإنما يوسع دائرة المعلومات المحيطة بشخصيته لتمتد إلى أبعد أجداده. يجعل حبيبي من سعيد مركز ثقل ومحور دوران العملية السردية، بينما يسكب ناجي العلي منظوره للصراع في قالب بصري يطلق عليه اسم حنظلة. وعليه يمكن القول إن مأساة سعيد كفرد تأخذ الأسبقية على مأساة الجماعة، أما مأساة حنظلة فتبدأ وتنتهي في مأساة شعبه.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!