مالي في عين العاصفة: إرهاب واحتجاجات شعبية

احتجاجات أمام مسجد السلام معقل الإمام ديكو بحي بادالابوغو أثناء صلاة الجنازة على 4 قتلى أمس (أ.ف.ب)
احتجاجات أمام مسجد السلام معقل الإمام ديكو بحي بادالابوغو أثناء صلاة الجنازة على 4 قتلى أمس (أ.ف.ب)
TT

مالي في عين العاصفة: إرهاب واحتجاجات شعبية

احتجاجات أمام مسجد السلام معقل الإمام ديكو بحي بادالابوغو أثناء صلاة الجنازة على 4 قتلى أمس (أ.ف.ب)
احتجاجات أمام مسجد السلام معقل الإمام ديكو بحي بادالابوغو أثناء صلاة الجنازة على 4 قتلى أمس (أ.ف.ب)

عقب انتهاء قمة دول الساحل الخمس (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد) في نواكشوط، يوم 30 يونيو (حزيران) الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن قوات الدول المشاركة استطاعت أن «تقلب ميزان القوى» بينها وبين المجموعات المتطرفة التي تقاتلها هناك، وعلى رأسها «القاعدة في بلاد المغرب»، خصوصاً في المثلث الحدودي مالي - النيجر - بوركينا فاسو.
وأضاف ماكرون أن هذه القوات «حققت نجاحات مهمة»، وأنها «على الطريق الصحيح». وكان الرئيس الفرنسي يستند في ذلك إلى نجاح قوة «برخان» الفرنسية في القضاء على زعيم «القاعدة» في المنطقة، عبد الملك دروكدال، ومجموعة من أعوانه، وإلى عمليات عسكرية مشتركة ناجحة مع القوة الأفريقية «جي 5». يضاف إلى ذلك أن باريس كانت تنتظر البدء بنشر طلائع قوة الكوماندوز الأوروبية المسماة «تاكوبا» المفترض أن تعمل بشكل أساسي في مالي.
بيد أن ما لم يشر إليه الرئيس الفرنسي علناً، كانت تقوله المصادر الفرنسية بصوت منخفض، بعيداً عن كاميرات التلفزة، ويركز على «القلق» من الوضع السياسي والاجتماعي الداخلي في مالي. ومنذ سنوات، تدعو باريس سلطات باماكو إلى إجراء الإصلاحات اللازمة، وإلى ضرورة «التصالح» بين الفئات والمجموعات والمكونات المختلفة، وإلى الشفافية ومحاربة الفساد؛ وهذه المسائل تم التشديد عليها منذ أن أرسلت باريس قواتها لوقف تقدم القوات المتطرفة نحو العاصمة بداية عام 2013.
وبعد 7 سنوات، ما زال الوضع الأمني متحركاً، فيما الوضع الاجتماعي والسياسي أصبح على شفير الهاوية. وما حصل في الأيام الأربعة الأخيرة جاء ليؤكد صدق المخاوف الفرنسية والأفريقية والدولية. فقد شهدت العاصمة أعمال عنف وعمليات كر وفر منذ يوم الجمعة الماضي بين رجال الأمن من جهة، ومتظاهرين من حركة «5 يونيو (حزيران) - تجمع القوى الوطنية» من جهة أخرى، هي الأسوأ التي تعرفها منذ سنوات، إذ أدت إلى مقتل 11 شخصاً، وجرح العشرات.
وليست هذه المرة الأولى التي تدعو فيها هذه الحركة مناصريها إلى النزول إلى الشوارع، فقد فعلت ذلك في أبريل (نيسان)، وفي مايو (أيار)، وخصوصاً في 19 يونيو (حزيران). إلا أنها المرة الأولى التي يتدهور فيها الوضع إلى هذا الحد، بعد مظاهرة حاشدة جمعت عشرات الآلاف في باماكو. وثمة إجماع على أن منطلقها هو الانتخابات التشريعية التي جرت في أبريل (نيسان)، حيث تعد المعارضة أنه تم التلاعب بنتائجها، وهي تحمل المجلس الدستوري المسؤولية، لأنه أعطى الحزب الرئاسي (التجمع من أجل مالي) مجموعة من المقاعد من غير وجه حق.
وتضم الحركة التي تريد التشبه بما عرفه السودان العام الماضي، وأدى إلى رحيل الرئيس عمر حسن البشير، خليطاً من المعارضة، وتنظيمات من المجتمع المدني، ووزراء سابقين ومناهضي فساد، وأنصار الإمام محمود ديكو الذي يعد إلى حد ما زعيم الحراك الشعبي.
وبعد أن كانت المطالب محصورة بالانتخابات، تطورت لتصبح شاملة، بما فيها الدعوة إلى «العصيان المدني». وبات الحراك يطالب بحل البرلمان، واستقالة قضاة المجلس الدستوري، وتشكيل حكومة جديدة يعين هو رئيسها، ورحيل رئيس الجمهورية إبراهيم بوبكر كيتا الذي يحكم البلاد منذ عام 2013، وأعيد انتخابه في عام 2018. وكان هذا الشعار الأخير هو الجامع في مظاهرة يوم الجمعة الماضي.
وما أجج الوضع قيام القوى الأمنية بالقبض على نحو 20 من «زعماء» الحراك. وثمة معلومات تفيد بأن العنف انطلق في العاصمة، عندما حاولت هذه القوى القبض على الإمام محمود ديكو الذي تصفه بعض الأوساط بـ«المتشدد دينياً».
وعقب المواجهات، دعا الأخير إلى التزام الهدوء. وواضح أن الوضع المتفجر يتغذى من تدهور الاقتصاد، وتفشي الفساد، وتراجع صدقية المؤسسات، إضافة إلى الوضع الأمني في وسط وشمال البلاد. ويحمل الحراك السلطات مسؤولية الانحدار إلى العنف الذي بلغ الذروة مساء السبت، وتراجع لاحقاً.
وسعى كيتا، ليل السبت، إلى تهدئة الاحتجاجات، وإلى تفكيك المطالب، بالإعلان عن «الحل الفعلي» للمجلس الدستوري، وإعادة الانتخابات في الدوائر المختلف عليها، وعددها 30 دائرة، إلا أن المعارضة لم تعد ترضى بهذه الإجراءات، وتصر على تحقيق مطالبها كافة، وقد أصبح رحيل كيتا على رأسها.
وبالنظر للمخاوف التي يثيرها الوضع وتداعياته، في مالي وخارجها، سارع ممثلو المنظمات الأفريقية والدولية في باماكو (الاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، ومجموعة دول غرب أفريقيا) إلى إصدار بيان مشترك شديد اللهجة، عبروا فيه عن قلقهم، ودعوا الأطراف كافة إلى «ضبط النفس»، منددين بالعنف، بما فيه عنف القوى الأمنية. والأهم أنهم دعوا إلى الإفراج عن زعماء الحراك المحتجزين، وعددهم 20 شخصاً. وثمة تعويل على ما يمكن أن تقوم به هذه المنظمات لوقف تدهور الوضع نحو الأسوأ.
وفي ظل التطورات الدراماتيكية التي تعصف بأحد أفقر بلدان العالم، بدا إعلان وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي عن بدء نشر قوات «كاتوبا» الأوروبية الخاصة في هذا البلد، انطلاقاً من غد (الأربعاء)، باهتاً، رغم أنه منتظر منذ شهور لمساندة قوة «برخان» الفرنسية.
ويتسم إعلان الوزيرة الفرنسية بتواضع القوة المنشورة التي تتشكل كتيبتها الأولى من مائة جندي فرنسي وإستوني. ولاحقاً، في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ستنتشر كتيبة ثانية تشيكية، تتألف من 60 جندياً.
وأشارت بارلي إلى أن إيطاليا أعربت عن استعدادها للانضمام للقوة. ويبدو لافتاً غياب الدول الأوروبية الرئيسية عنها، مثل ألمانيا وإسبانيا وبولندا.
وتراهن باريس على بقاء الدعم الأميركي، المتمثل بتوفير الاستعلامات الضرورية، وانخراط الطائرات المسيرة (الدرون) التي تنطلق من قاعدة شمال النيجر. كذلك تود باريس باستمرار الدعم اللوجيستي الذي تقدمه بريطانيا، من خلال طوافات النقل الثقيلة من طراز «شينوك». أما ألمانيا، فإنها ضالعة في تدريب القوات المالية وقوة «جي 5».
يضاف إلى ذلك وجود القوة الدولية المنتشرة منذ سنوات في مالي، بيد أن هذه القوى كافة ما زالت حتى اليوم عاجزة عن السيطرة الميدانية، رغم النجاحات التي تتحدث عنها فرنسا. وجاءت الاضطرابات في باماكو، والنزاع بين السلطات والمعارضة، لتزيد الوضع تعقيداً وغموضاً.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟