إيتالو كالفينو... و«أرقام في الظلام»

صدر حديثاً عن دار «نوستالجيا» المصرية مختارات قصصية بعنوان «أرقام في الظلام»، للكاتب الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، ترجمها إلى العربية ناصر الحلواني، وتتضمن 21 قصة، يتسم بعضها بالقصر الشديد والكثافة، ورهافة اللغة والحساسية، والسخرية السياسية اللاذعة، كما يبرز هاجس الفلسفة بصفته عنصراً معرفياً كاشفاً في القصص التي يستدعي كالفينو موضوعاتها من تفاصيل يومية مرتبطة بحياة الناس، مألوفة لدى القراء، لكنه يقدمها في صورة مبتكرة، ويلبسها روحاً جديدة لم يتعرفوا عليها من قبل، من خلال المزج بين الحقيقة والخيال التاريخي، الواقع والأسطورة، وذلك عبر لغة جميلة وسرد محكم، ما جعله يحتل موقعاً متقدماً في الرواية الإيطالية والعالمية.
وفي إشارة إلى اهتمامه بالتركيز على اللمحات السياسية والسخرية اللاذعة، تحكي قصة «ضمير»، الثالثة في ترتيب القصص، عن شخص يدعى «لويجي» انتهز فرصة اندلاع حرب، وقرر المشاركة بعد قراءته إعلاناً عن قبول متطوعين لـ«قتال الأعداء»؛ وجدها الرجل فرصة لقتل شخص يدعى «ألبرتو»، وقال مبرراً نيته لقادة المعسكر: «إنه محتال؛ لقد خانني، وجعلني أبدو أحمق أمام امرأة من أجل لا شيء. إذا كنتم لا تصدقونني، فسأخبركم بالأمر كله»، لكنهم رفضوا سماعه، وأخبروه أنه ليس من حقه أن يذهب حيث يشاء، ويقتل من يشاء، وأن عليه أن يتجه إلى جبهة القتال التي يحددونها. وبعد أخذ ورد ونفاد صبر، ترفق به أحدهم، وأفهمه ما معنى الحرب، فحاول الانسحاب قائلاً إنه لا يريد أن يقتل بشراً لا يعرفهم، وسوف يكون مستاء إن فعل ذلك، لكنهم أجبروه على الذهاب لساحة القتال، حيث قتل كثيرين، وحصد الأوسمة، واحداً تلو الآخر. لكنه ظل يمني نفسه بأنه حتماً سوف يعثر على ألبرتو غريمه، ما دامت الحرب مستمرة. لكن المدينة استسلمت، وانتهى القتال، عند ذلك «شعر بالضيق لأنه قتل كثيراً من الناس من غير سبب»، ولكي يشعر بقليل من الراحة، حمل أوسمته، وذهب لزوجات وأسر القتلى، ووزعها عليهم. وبينما يتجول في الطريق، عثر على ألبرتو فقتله. لكن المفاجأة أن السلطات التي أرسلته للقتال، قبضت عليه وحاكمته لأنه ارتكب جريمة قتل، ثم نفذت فيه حكم الإعدام، رغم أنه كرر كثيراً في أثناء المحاكمة أنه فعل ذلك ليريح ضميره، لكن ما من أحد استمع إليه.
ويذكر دارسو كالفينو أنه اهتم في الستينيات بالمدارس النقدية والفلسفية الجديدة في فرنسا، رولان بارت وجاك دريدا على وجه الخصوص، مما أثر كثيراً على طبيعة أعماله، ومنحها عمقاً فلسفياً، وأسبغ على نظرته إلى الأشياء والعالم طابعاً جديداً مختلفاً محملاً بسخرية مريرة، كثيراً ما انصبت على الذات، قبل أن تتجه للآخر، وهو ما يمكن ملاحظته في قصة «القبيلة وعيونها إلى السماء» التي يظل أفرادها طوال ليلهم الصيفي يتطلعون للصواريخ المدمرة، والطائرات النفاثة التي تتبادلها قوتان متحاربتان، وتعبر الأسلحة سماءهم، فيما هم لا دور لهم ولا تأثير، ينصاعون لجشع واستغلال التجار، يجمعون محصولهم من جوز الهند، ويبيعونه لهم بأرخص الأثمان.
وفي قصة «تعايش»، وفيما يشبه الومضة، وبلغة مكثفة تحمل دلالات شفيفة، راح الكاتب يحذر من مخاطر الاستهانة بما اعتاده الناس من أشياء، أو التقليل من أثر حرمانهم مما ألفوه. وتدور القصة عن مدينة تعود سكانها على ممارسة لعبة «العصفور الخشبي»، إذ لم يكن من شيء مسموح به سواها، وهكذا مضت السنون، بعدما صار المنع جزءاً من حياتهم، لكن رجال الشرطة رأوا فجأة أنه ما من معنى لمنع أي شيء، وقرروا إطلاق يد الناس في فعل ما يحبونه، وأرسلوا الرسل لإبلاغهم، فرد مواطنوهم: «جيد، وها نحن نلعب العصفور الخشبي». لكن الرسل راحوا يذكرونهم بأشياء كثيرة رائعة كانوا يقومون بها في سالف الأيام، فرد الناس بالاستمرار في اللعب، عندها خاب رجاء الرسل، أما قادتهم فرأوا أن الحل بسيط «قانون يمنع لعبة العصفور»، عندها تمرد الناس، وقتلوا كثيراً من رجال الأمن. ودون إضاعة للوقت، عادوا للعبتهم المفضلة.
ولد إيتالو كالفينو في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1923، وتوفي في 19 سبتمبر (أيلول) 1985، ومن أشهر أعماله: ثلاثية «أسلافنا»، والمجموعة القصصية «كوزمو كوميكس»، ورواية «مدن لا مرئية»، ورواية «لو أن مسافراً ذات ليلة شتوية» التي اشتهرت في بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وكان حتى وفاته أكثر الكتاب الإيطاليين المعاصرين ترجمة، وقد استغرب كثيرون من متابعيه عدم حصوله على جائزة نوبل، وذهابها بعد ذلك بسنوات قليلة عام 1997 إلى مواطنه الكاتب الممثل المسرحي داريو فو الذي كان قبل منحه جائزة نوبل مغموراً خارج بلاده.