قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
TT

قبضة بوتين تخترق جدران الأنظمة الغربية

بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)
بوتين يصوت في الاستفتاء الأخير الذي يتيح له البقاء في الحكم إلى عام 2036 (أ.ف.ب)

تتلاحق التهم التي تلاحق بها أجهزة استخبارات الغرب ووسائل إعلامه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتلتقي هذه التهم مع مخاوف قادة غربيين من تعزيز بوتين قبضته على الكرملين لسنوات طويلة مقبلة. مرة يُتهم بوتين بأنه يتدخل في انتخابات البيت الأبيض، ومرة بأنه حقق انتصاراً على الاتحاد الأوروبي عندما دعم فريق بريطانيا الساعي إلى الخروج. وكانت السفارة الروسية في لندن شريكة في حملة أنصار «بريكست». وفي مرة ثالثة مؤخراً عندما ذكرت تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية أن بوتين دفع أموالاً لعناصر مرتبطة بحركة «طالبان» لقتل جنود أميركيين وبريطانيين في أفغانستان.
وتذكر معلومات رسمية أميركية تم تداولها مع مسؤولين بريطانيين، أن «الوحدة رقم 29155» في وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، هي التي وعدت بدفع الأموال لـ«طالبان». والمثير أن هذه الوحدة هي نفسها التي قام عنصران منها بمحاولة قتل المعارض الروسي سيرغي سكريبال (الذي كان ضابطاً سابقاً في الاستخبارات العسكرية)، بغاز «نوفيتشوك» السام مع ابنته في مدينة سالزبوري البريطانية في مارس (آذار) 2018. ورغم احتجاج رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في ذلك الحين، وإقرار حزمة عقوبات بريطانية على روسيا، كان نفي بوتين قاطعاً: «لا علاقة لنا بالأمر».
وكما في كل مرة عندما يتعلق الأمر بالتدخل الروسي في الشأن الأميركي، تجد إدارة دونالد ترمب نفسها في مواجهة انتقادات التغطية على هذا التدخل. في قضية دفع أموال لـ«طالبان»، قال المنتقدون إن تقرير الاستخبارات الأميركية الذي يتهم بوتين كان موجوداً على مكتب ترمب قبل خمسة أشهر من كشف صحيفة «نيويورك تايمز» عنه في الشهر الماضي؛ لكن لم يُعر أحد في المكتب البيضاوي الأمر اهتماماً، إما لأن ترمب لا يريد إغضاب بوتين في فترة تسبق الانتخابات الرئاسية، وإما لأن معلومات خطيرة بحجم قيام عناصر من «طالبان» بقتل جنود أميركيين ستحبط خطة ترمب لإبرام اتفاق مع هذه الحركة.
في كل الأحوال يمضي فلاديمير بوتين في طريقه حاكماً مطلقاً لروسيا، ليدخل التاريخ منافساً للإمبراطورة كاترين الثانية التي حكمت روسيا 34 سنة (من 1762 إلى 1796) بينما سيتيح التعديل الدستوري الأخير لبوتين أن يتجاوزها بسنتين، إذا بقي متربعاً على عرش الكرملين إلى عام 2036 (أطال الله أعماركم) عندما يكون قد بلغ الرابعة والثمانين ويكون قد بقي في الحكم 36 سنة، متنقلاً بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، وحاكماً فعلياً في كل الأحوال.
قال بوتين للروس عندما طلب منهم تعديل الدستور: «نحن لا نصوت على هذه التعديلات باعتبارها قواعد قانونية فقط؛ نحن نصوت من أجل البلد الذي نريد أن نعيش فيه والذي نريد توريثه لأولادنا وأحفادنا». إنه الشعور الذي يسيطر على بوتين منذ توليه قيادة روسيا: أن تلك البلاد سوف تصبح يتيمة، وسوف تعود إلى فترة الضعف التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي عندما يغيب هو عن المسرح.
هذا الشعور هو الذي يدفع بوتين إلى فرض هيمنة كاملة على مراكز القرار في الداخل، وقمع أي معارضة يمكن أن تظهر في وجهه؛ لكنه يدفعه أيضاً إلى محاولة اختراق مركز القرار في الدول الغربية، واستغلال اللعبة الديمقراطية فيها لخدمة المصالح الروسية.
في كتاب مهم بعنوان «رجال بوتين: كيف استعاد (الكا جي بي) روسيا وانطلق إلى الغرب»، للصحافية كاثرين بيلتون التي غطت شؤون روسيا لسنوات طويلة كمراسلة لصحيفة «الفايننشيال تايمز» وأقامت شبكة علاقات مع مسؤولين في الكرملين ودبلوماسيين روس وعناصر في الاستخبارات، تروي قصة صعود بوتين، وكيف شكَّل شبكة من الضباط السابقين في جهاز الاستخبارات (كا جي بي)؛ عرفت باسم «سيلوفيكي» للتمهيد لتوليه الحكم أولاً كرئيس للوزراء في آخر أيام الرئيس السابق بوريس يلتسين، ثم كخليفة ليلتسين بعدما استقال الأخير عام 2000. هذه الشبكة هي التي تربط عناصرها عقيدة مشتركة تهدف إلى استعادة قوة ونفوذ الإمبراطورية الروسية، وشعور مشترك بأن الغرب يسعى باستمرار إلى محاربة دور روسيا حول العالم. وجاءت الثورتان في جورجيا وأوكرانيا سنتي 2004 و2005 لتعززا مخاوف بوتين من أن الغرب يعمل على الانقلاب على سلطته، ومن هنا كان الرد الاستثنائي بالتدخل العسكري في شرقي أوكرانيا، واحتلال شبه جزيرة القرم الذي نفذه رغم معارضة واسعة من المجتمع الدولي.
تروي كاثرين بيلتون أيضاً كيف يعمد نظام بوتين إلى دفع أموال لأحزاب غربية تتبنى أفكاراً متطرفة؛ سواء كانت يمينية أو يسارية، مثل «الجبهة الوطنية» في فرنسا، وحركة «النجوم الخمس» في إيطاليا، وحزب «جوبيك» اليميني العنصري في هنغاريا، وجماعة «بريكست» في بريطانيا. وما يجمع هذه الأحزاب والحركات هو عداؤها للاتحاد الأوروبي ولحلف الأطلسي. وبالطبع فمصلحة روسيا واضحة في إضعاف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعدما فتحا الباب لدول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا) للانضمام إليهما. هذه الخطوة ضاعفت قلق السياسيين الروس وأجهزة استخباراتهم من التقدم الغربي إلى حدود «الإمبراطورية الروسية».
وكرد على ذلك، تجمع تقارير أجهزة الاستخبارات الغربية، الأميركية والبريطانية خصوصاً، على محاولات التدخل الروسي في عمليات تبادل السلطة في الأنظمة الأوروبية، وهو ما عجز عنه الاتحاد السوفياتي في عز نفوذه، ورغم اتساع شبكة الأحزاب الشيوعية في الدول الأوروبية آنذاك، وعلى الأخص في إيطاليا وفرنسا.
من أبرز التقارير ما سربته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) عن دور الكرملين في دعم حملة ترمب للفوز بالرئاسة سنة 2016، وهو المعروف بعدائه لنفوذ وتلاحم الاتحاد الأوروبي، وانتقاداته الدائمة لحلف الأطلسي. وفي بريطانيا كانت شهادة كريستوفر ستيل الذي كان يعمل في الجهاز الخارجي للاستخبارات البريطانية (MI6) أمام لجنة الأمن والاستخبارات في مجلس العموم البريطاني فاضحة؛ عندما تناول فيها دور روسيا في دعم رئاسة ترمب، وكذلك دعم حملة بوريس جونسون وأعوانه لكسب الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي جرى سنة 2016. أعدت تلك اللجنة على أثر ذلك تقريراً يتناول الدور الروسي، وصار جاهزاً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؛ لكن جونسون رفض الكشف عنه، كي لا يؤثر - كما يقول معارضوه - على نتائج الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها بأكثرية كبيرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ولا يزال هذا التقرير نائماً في أدراج «10 داوننغ ستريت» إلى اليوم.
من بين ما كشفت عنه شهادة كريستوفر ستيل، أن السفير الروسي في لندن ألكسندر ياكوفنكو (غادر لندن في العام الماضي بعدما عمل فيها سفيراً لثماني سنوات) شكل مجموعة من أعضاء حزب المحافظين أطلق عليها «أصدقاء روسيا في حزب المحافظين»، وضمت عدداً من النافذين في الحزب الداعمين للخروج من الاتحاد الأوروبي، وكانت من بينهم كاري سيمونز صديقة بوريس جونسون ووالدة طفله الأخير، ونايجل فاراج أبرز رموز حركة «vote leave» الذي كان رأس الحربة في حملة «بريكست».
«حرب» مفتوحة على النفوذ والمصالح بين روسيا والغرب، ليس فيها ما يشبه صراع العقائد الذي كان قائماً في زمن الاتحاد السوفياتي. في هذه «الحرب» تشكل قبضة بوتين القوية الممسكة بالداخل الروسي، سياسةً واقتصاداً، السلاح الأقوى في وجه غرب مفكك وعاجز عن رسم سياسة موحدة تواجه تلك القبضة.



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي