محمد بعاصيري.. لغز القطاع المالي اللبناني انضم إلى «المرشحين لرئاسة الحكومة»

يعتز بتواصله مع الخليجيين... وعلاقته بالأميركيين «مؤسساتية»

محمد بعاصيري.. لغز القطاع المالي اللبناني انضم إلى «المرشحين لرئاسة الحكومة»
TT

محمد بعاصيري.. لغز القطاع المالي اللبناني انضم إلى «المرشحين لرئاسة الحكومة»

محمد بعاصيري.. لغز القطاع المالي اللبناني انضم إلى «المرشحين لرئاسة الحكومة»

تحول محمد بعاصيري فجأة إلى «لغز» مالي في لبنان تضج به اجتماعات السياسيين وصالوناتهم واتصالاتهم. وبدينامية لافتة وسريعة، جرى ضم اسمه إلى نادي المرشحين الأقوياء لرئاسة الحكومة اللبنانية المقبلة، مسبوقاً بتعميم «معلومة» تتضمن الإشارة الصريحة التي أبلغتها السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، إلى مرجع أمني كبير، بأهمية إعادة تعيينه نائباً لحاكم مصرف لبنان مختصرة برمزية «لا بعاصيري.. لا دعم مالي» (No Baasiri, No Money).
ورغم شيوع المعلومة الخاصة بالسفارة الأميركية بعد تأكيدها من مصادر كثيرة، وعدم نفيها من ذوي العلاقة المباشرة، يتوخّى بعاصيري الدقّة المطلقة في التعليق قائلاً: «سمعت المعلومة من مصادر إعلامية ولست معنياً بنفيها أو تأكيدها».
لا ينكر المصرفي ورجل الأعمال اللبناني محمد بعاصيري سعيه للتجديد في منصب نائب الحاكم. وهذا منصب سبق له أن شغله لولايتين متتاليتين (2009 - 2019)، وكان يشرف شخصياً على عدد من مديريات المصرف المركزي، فضلاً عن عضويته السابقة في الهيئة المصرفية العليا ورئاسته السابقة للجنة التنسيق الوطنية لمكافحة تبييض الأموال.
وفي مسيرته العملية أيضاً، وقبل تعيينه نائباً للحاكم، شغل بعاصيري عدة مناصب مهمة، فترأس لجنة الرقابة على المصارف من يونيو (حزيران) 1990 إلى منتصف عام 2000. ونال تقديراً رسمياً من الحكومة اللبنانية لخدماته في هذا المجال، ثم عُيّن لمدة سنة مستشاراً مقيماً لـ«صندوق النقد الدولي» لدى المصرف المركزي في سلطنة عُمان. وعام 2001. اختير لبكون أول أمين عام لـ«هيئة التحقيق الخاصة»، أي «وحدة الإخبار المالي» الحديثة النشأة آنذاك في لبنان. وهو في الأصل، حاز شهادته الجامعية من الجامعة الأميركية في بيروت، حيث حاضَر مراراً، ثم قصد نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية لمتابعة تحصيله الجامعي، ونال شهادة محاسب مجازٍ من جامعة ولاية نيويورك.
الأهم، برأي بعاصيري، «توسيع مروَحة اتصالات لبنان خارج منظومة المناكفات السياسية السائدة. وهذه إشارة بالغة الدلالة والتأثير في وقت نخوض فيه، كفريق رسمي ومالي، مفاوضات صعبة ومعقدة مع خبراء صندوق النقد الدولي، وتطلب الحكومة رسمياً برنامج تمويل ضمن آلية مضاعفة حقوق السحب الخاصة، وبما يصل إلى 10 مليارات دولار خلال 3 سنوات».
ويتابع بعاصيري موضحاً: «لا أتحدث عن شراكة في التحرك بين سفارتي واشنطن والرياض في بيروت، إنما حصل تزامن بين الدعم الأميركي المعلن لتعييني مجدداً في مركز نائب الحاكم الذي شغلته على مدى 10 سنوات متتالية. ولقد سعيتُ بالفعل للعودة إليه اعتقاداً مني بأهمية الاستثمار في مخزون التواصل والثقة مع السلطات المالية الأميركية، وبالأخص في هذه الفترة الأخطر نقدياً ومالياً في تاريخ لبنان الحديث، وبين تحرّك السفير السعودي الذي التقى علناً مسؤولين كباراً في القطاع المالي المحلي، متوخياً الاطلاع مباشرة على مقاربات حاكمية البنك وجمعية المصارف وغيرهما للأزمة النقدية والمالية العاتية التي يعانيها لبنان، وتقديراتهم للمخاطر المحتملة واقتراحاتهم لسبل المعالجة».

العلاقة مع واشنطن
هنا، يستغرب بعاصيري إثارة «كل هذا الضجيج عن علاقتي بالأميركان. فهي علاقة مؤسسية نشأت أصلاً عندما كنت أشغل، منذ نحو عقدين ونيف، منصب أمين سر هيئة التحقيق الخاصة في البنك المركزي اللبناني، وهي المولجة تشريعياً بمهام مكافحة غسل (تبييض الأموال) ومكافحة تمويل الإرهاب. وحالياً أتولى الإشراف، معيناً من قبل حاكم البنك المركزي - أي (مصرف لبنان) - على تصفية مصرف (جمال ترست بنك)، وذلك بعد إدراج هذا البنك في 29 أغسطس (آب) 2019 على لائحة مكتب رقابة الأصول الأجنبية أوفاك (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية».
ثم يضيف «لقد كان لي، كممثل لبلدي، دور مشهود في تأسيس المرجعية الإقليمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (المينا فاتف) MENA FATF، وترؤس أول مجالسها ضمن الهيئة الدولية لمكافحة غسل الأموال. وعبر هذه المؤسسة نشأت علاقات مباشرة مع وزارة الخزانة الأميركية وبنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) والبنوك الأميركية الكبرى، بوصفها جميعاً المرجعيات المعنية بغالبية التحويلات المالية والنقدية حول العالم. ثم تواصلت علاقاتي مع هذه المرجعيات من خلال موقعي كنائب للحاكم مكلف رسمياً بمتابعة كل ما يتصل بالقوانين المالية والعقوبات الصادرة عن السلطات المالية الأميركية والدولية».
وفي البُعد العربي، يتابع بعاصيري معدداً بعض ما فعله: «ساهمت في تأسيس (المنظمة العربية لوضع معايير مكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب). كما شاركتُ بالتحضيرات لانضمام وحدات الإخبار لكل من المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا إلى مجموعة (إيغمونت) Egmont الدولية. إلى جانب المساعدة في نشر التوعية المصرفية في العالم العربي لمكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب. فضلاً عن قيادة الحوار العربي - الأميركي بالنسبة إلى تعزيز العمل المصرفي بين الفريقين، خصوصاً فيما يتعلق بموضوع تجنب المخاطر (De - risking)».
وبالفعل، حققت هيئة التحقيق الخاصة بقيادة بعاصيري إنجازات كثيرة، مثل شطب اسم لبنان من لائحة البلدان والأقاليم غير المتعاونة التي تعدّها «مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال» (فاتف) FATF، فضلاً عن انضمام هيئة التحقيق الخاصة إلى مجموعة (إيغمونت). وساهمت جهوده أيضاً في إنشاء «مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» (المينا فاتف) التي عيّن أول رئيس لها عام 2005. كما ساعد على إطلاق حوار القطاع الخاص بين الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي يترأسه حالياً. كما عمل البعاصيري في القطاع الخاص في مجالات استثمارية مختلفة، وكمدقق خارجي في شركات تدقيق عالمية في لبنان ونيويورك. وهو أحد مؤسسي وعضو في نقابة خبراء المحاسبة المجازين في لبنان وكذلك عضو في المعهد الأميركي لخبراء المحاسبة المجازين.
أما عن مبادرة السفير السعودي السيد وليد بخاري «فهي بنّاءة وواعدة»، كما يؤكد بعاصيري. «فحرص قيادة المملكة، ممثلة برئيس بعثتها الدبلوماسية في بيروت، على التواصل مع المرجعيات والمسؤولين اللبنانيين في القطاع المالي تنم عن مشاركة وجدانية بأوجاعنا الحاضرة بالدرجة الأولى، وتتيح لنا ولهم تبادل الآراء والرؤى وتبيان خلفيات الأزمة وحجم تداعياتها على النقد الوطني ومعيشة الناس وعلى قطاعات العمل ومؤسسات الإنتاج. وقد لمستُ شخصياً سعة معرفة الدبلوماسي الشقيق وصدق محبة السعوديين لبلدنا وخوفهم على تكاثر الانهيارات والتداعيات. وبدوري كنت شفافاً وصريحاً بتقدير استعصاء الأزمات وعقم أي معالجات آنية أو لاحقة ما لم تلتزم بتنفيذ الإصلاحات الشاملة التي تقدمت بها الحكومة اللبنانية مراراً إلى مؤتمرات المانحين، وما لم يواكب الجهود الإصلاحية دفق دعم مالي من قبل المجتمع الدولي».

الإصلاحات المنشودة
تبعاً لهذه الخبرات التراكمية، كان السؤال البديهي: ما هي برأيك طبيعة الإصلاحات المنشودة التي تتوافق مع السياسات المعتمدة لدى إدارة الصندوق؟
يجيب محمد بعاصيري: «طالما قررت الحكومة اللبنانية اعتماد خيار طلب التمويل الإنقاذي من (صندوق النقد الدولي)، وهو الخيار الوحيد المتاح في الظروف السائدة، ينبغي الانطلاق من قناعة راسخة بأن هذه المؤسسة المالية الدولية تخضع تلقائياً لمواقف كبار مساهميها الأعضاء في مجلس محافظيها، وفي مقدمهم الولايات المتحدة واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، رغم هامش المرونة المتاح للإدارة التنفيذية. وهي تمتلك عبر بعثتها الدائمة بموجب المادة الرابعة ومن خلال شبكة علاقاتها مع المسؤولين والخبراء المحليين في القطاع المالي، وأيضاً باستثمار التنسيق والتواصل مع البنك الدولي ومؤسسات التقييم الدولية، قاعدة بيانات ومعلومات أكثر من وافية عن حقائق الوضع في بلدنا ومسببات أزماته المترابطة. وتدرك جيداً حصيلة التجارب غير المشجعة مع مؤسسات الدولة وتنصلها غالباً من تنفيذ التزامات إصلاحات هيكلية وإدارية ومالية».
«نحن الآن في قلب الدوامة»، يضيف بعاصيري، و«أي فشل جديد سيجعل من التدهور المحقق ذكريات (طيبة) في معيشة الناس واقتصاد البلد. لا وقت متاح لمزيد من التأخير في إظهار سلوك مناقض للسابق. وانطلاقاً ينبغي الشروع فوراً في إقرار الخطوات التنفيذية الإدارية والعملية لإصلاح قطاع الكهرباء الذي استنزف نحو 40 مليار دولار في عقدين متتاليين، ويستمر باستهلاك نحو الملياري دولار سنوياً. أيضاً يتوجب الشروع فوراً بتحديد الحجم الفعلي للقطاع العام؛ فلا يُعقَل ألا تعلم الدولة أو لا تريد أن تعلم كم هو عدد العاملين في إداراتها وأسلاكها ومؤسساتها التابعة، وعدد من هم يعملون بالفعل. فضلاً عن ضرورة البتّ سريعاً بالتوظيف المخالف للقوانين وازدواجية المداخيل وأكلاف العمل الإضافي والرواتب المنتفخة وعشوائيات أنظمة التقاعد وسواها». بالإضافة إلى أنه ثمة رزمة إصلاحية لا تقل أهمية في قطاعات الإنتاج والمصارف توخياً للنهوض الاقتصادي المنشود. وكل المسار الإصلاحي يتطلب مساندة من الدول الشقيقة ودعم المجتمع الدولي. لكن، يتابع بعاصيري: «حتى الساعة، لم نسمع عن أي تحرّك واعد في قطاعي الكهرباء والقطاع العام، وهما الأكثر صرفاً من واردات الخزينة، بعدما أقرت الحكومة الامتناع عن خدمة الدين العام، أصولاً وفوائد، تحت وطأة الأزمة. ولا نلمس أيضاً أي إجراءات تنفيذية تطابق التوجهات المعلنة لمكافحة الفساد والمحسوبيات والمحاصصة. بل إن التعيينات المالية وغير المالية الأخيرة لم تخضع فحسب، لهذه المواصفات الرديئة، إنما تعدتها استعجالاً غير مقنع تهرباً من قانون منظم كان في طريقه للنشر في الجريدة الرسمية، بعد إقراره من قبل مجلس النواب».

لوائح الاشتباه بغسل الأموال
لا يغفل محمد بعاصيري عن الاعتزاز ببداية حياته العملية. ففضلاً عن التقدير الرسمي لجهوده في إخراج لبنان من لوائح الاشتباه بغسل الأموال، والمساهمة في تصويب البنية القانونية وإطلاق المؤسسات المولجة بمكافحة كل أنواع الجرائم المالية، يود الإشارة إلى أنه في سنة 1974، نال جائزة المحاسبة التي تمنحها شركة «سابا»، واختارته «جمعيّة الخبراء المجازين في مكافحة تبييض الأموال ACAMS» رجل عام 2008 عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وكان صحافي يساري لبناني، قد وصف بعاصيري - من وجهة نظر شخصية بعيدة عن الإيجابية، طبعاً - بأنه «شاب لبناني من عائلة متوسطة الحال. خريج الجامعة الأميركية. في زمن الحرب الأهلية، لم ينسجم مع توجهات البيئة السنية اللبنانية التقليدية التي غالت في الموالاة للثورة الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات، ثم في موالاة الحقبة السورية». وتابع منتقياً عبارات مثل «رجل براغماتي إلى أبعد الحدود. لا يتوه في التفاصيل، وإن كان لا يغفل أياً منها. الأساس هي الاستراتيجية التي يحددها لنفسه ولا يغادرها أبداً»... إلى أن يقول: «خلاصة القول إن بعاصيري شخصية إشكالية، بالتعبير الدبلوماسي. أما بالتعبير غير الدبلوماسي، فهو لا يخفي (أميركيته). من رأسه حتى أخمص قدميه!».
أما في الحياة الشخصية، فإن المطالعة تحوز اهتماماً خاصاً لدى بعاصيري، وتستهويه كتب التاريخ والفلسفة، ولا سيما متابعة أفكار وكتب الفلاسفة المسلمين من أمثال ابن خلدون وابن رشد والغزالي. إنما من ضمن التواصل مع الثقافات المختلفة وعبرها قراءة تجارب وسير الشخصيات المؤثرة في ازدهار وتقدم بلادها؛ علماً بأن الانشغالات والمشاركة في المؤتمرات الإقليمية والدولية، وخصوصاً في مجال المصارف والحوكمة الرشيدة، لا تترك الكثير من الوقت لاهتمامات أخرى.
ومن الهوايات الدائمة الاستماع إلى الموسيقى، خصوصاً الطربية العربية منها والموسيقى الكلاسيكية، والسفر سياحياً إلى الأماكن ذات الطبيعة التاريخية. بينما يهمس أصدقاء بأن لعبة النرد (الطاولة) لها حصة في وقت الترفيه.



اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

 

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».