الاقتصاد العالمي بعد «كوفيد – 19»... عولمة يجرّ عربتها حصانان

حاويات في مرفأ تشاندونغ الصيني تنتظر التصدير (رويترز)
حاويات في مرفأ تشاندونغ الصيني تنتظر التصدير (رويترز)
TT

الاقتصاد العالمي بعد «كوفيد – 19»... عولمة يجرّ عربتها حصانان

حاويات في مرفأ تشاندونغ الصيني تنتظر التصدير (رويترز)
حاويات في مرفأ تشاندونغ الصيني تنتظر التصدير (رويترز)

في أقل من ستة أشهر، غيّر فيروس كورونا المسبب لمرض «كوفيد – 19» وجه العالم. ومن الواضح أن الجائحة باقية معنا وقتاً طويلاً، وتضرب ذات اليمين وذات اليسار مسببة أضراراً كبيرة على أكثر من صعيد، أخطرها على الإطلاق الصعيد الاقتصادي. ولعلّ أولى المسلّمات في ظل التراجع والانكماش، هي أن العالم كله يجب أن يعيد ترتيب أولوياته في انتظار عبور النفق والخروج إلى النور.
رأينا الحكومات في أنحاء العالم تستجيب للأزمة الصحية والاقتصادية بسرعة نسبية، إنما بطرق غير منسقة إلى حد كبير، وهو أمر ليس بمفاجئ لأن النظرة إلى المشكلة تختلف باختلاف الثقافات والأنظمة السياسية. وتفصيلاً، كانت هناك مقاربتان للتعامل مع الوباء، قضت الأولى بجعل الأولوية تقليل الضرر الاقتصادي من خلال السماح للفيروس بالانتشار دون رادع حقيقي، على الرغم من الضغط الذي سببه ذلك على النظام الصحي. أما الثانية فأوجبت اعتماد إبطاء متعمَّد للنشاط الاقتصادي بهدف احتواء الأخطار الصحية، وشمل هذا النهج إغلاق الحدود والتباعد الاجتماعي والحجر...
ويجدر بنا الالتفات إلى أن ضعف المناعة الاقتصادية ناجم في جزء منه عن كون الاقتصاد العالمي تلقّى ضربة قاسية قبل 12 عاماً وعرف أزمة كانت الأكبر منذ ثلاثينات القرن العشرين. ولم يكد العالم يتخلّص من آخر تداعيات هذه الأزمة حتى جاء وباء كورونا ليُطلق عاصفة غير مسبوقة. يضاف إلى ذلك، أن الركود المستجدّ حصل في ظل حرب تجارية شرسة بين الولايات المتحدة والصين أثّرت على العالم من أقصاه إلى أقصاه.
لهذا كله، وأياً تكن المقاربة المعتمدة في مواجهة الوباء، نرى أننا نتخبّط في خضم أعمق ركود على مدى السنوات الـ150 الماضية، مع استثناء سنوات الحروب من هذه الفترة. وتُظهر كل التوقعات الاقتصادية الموثوقة، من مؤشرات البنك الدولي إلى أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وما بينهما من مؤسسات ومعاهد، أن تأثير كورونا مدمّر في كل زوايا الكرة الأرضية، وإن ببعض التفاوت بين دولة وأخرى.
نرى أيضاً أن الأوبئة ليست أمراً من كتب التاريخ بل يمكن أن تحدث في الحاضر والمستقبل. ونرى ونلمس أن حشد استجابة عالمية متضافرة وفعالة في وجه تهديد شامل وضارٍ أمر مستحيل في عالم مليء بالمصالح المادية المتناقضة المزيّنة بكلام شعبوي وديماغوجي.
وإذا كنا نعلم أن الضرر لن يوفّر أحداً، فإن ما لا نعلمه هو مدى الانكماش في النشاط الاقتصادي وحدّة فقدان الوظائف والأعمال على المديين القصير والمتوسط، ومتى وكيف سينتعش الاقتصاد.
وبما أن هناك دلائل على أن موجة ثانية من الوباء بدأت في مناطق معينة، فيما تتسارع وتيرة الموجة الأولى في مناطق أخرى، وفي غياب أفق واضح لإيجاد لقاح أو اجتراح دواء للتخلص من المرض، فإن أي توقع لانتعاش اقتصادي في النصف الثاني من السنة أو في السنة المقبلة يبقى مجرّد تكهّن إن لم نقل أضغاث أحلام.

*أين يقف العالم؟
يبدو السؤال عن الوضع الاقتصادي في عالم ما بعد الوباء ملحاً، بل يمكن السؤال: أي عالم سيكون بعد الوباء؟
لا جواب عند أحد الآن بما أننا لا نزال في مرحلة إحصاء الاضرار ومحاولة وقفها. ومع ذلك، يمكن إطلاق بعض الاستنتاجات المؤكدة التي لا مفر منها:
- تغيّر وجه العولمة من النموذج الذي ساد في العقدين الأخيرين نحو شمولية أقل، وهذا ما كان يحصل في أي حال بسبب الحرب التجارية على «الجبهة» الأميركية – الصينية، والجبهة الأميركية – الأوروبية وسواهما...
- اعتماد تقنيات جديدة غاياتها صحية في المرحلة الأولى، أي مراقبة الناس ضبطاً لتفشّي وباء كورونا. إلا أن هذه الممارسة قد تتحول إلى وسيلة لضبط المجتمعات لغايات أخرى، كما بدأ يحصل في الصين. واستطراداً، لن تترك الحكومات عمالقة التكنولوجيا الذين يسيطرون على الإنترنت يسرحون ويمرحون ويتحكمون في العالم كما يشاؤون، بل ستمارس عليهم رقابة سياسية صارمة.
- صعود القوميات في ظل غياب التعاون الفعّال بين الدول في مكافحة كورونا، وبالتالي تعاظم التيّارات المتطرفة والأحزاب ذات الأجندات الشعبوية التي تستقطب «الجماهير» أيام المحن والأزمات.
- الاستنتاج الرابع هو أن العلاقات الدولية ستكون شائكة جداً في ظل مناخ عدم الثقة والتنافس على أي منفذ اقتصادي في زمن الضائقة. من هنا نرى تشققات في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، واتهامات وتحديات بين بكين وواشنطن لها مسارح عدة في العالم، وعودة سباق التسلح النووي بين الأميركيين والروس، وكذلك اهتزاز الجهاز الأول الذي يعتمد عليه العالم في مواجهة أي وباء، أي منظمة الصحة العالمية التي وجهت إليها الولايات المتحدة ضربة كبيرة بانسحابها منها.

*آفاق التعافي الاقتصادي
تلتقي سيناريوهات ومقاربات مختلفة على أن التعافي الاقتصادي الذي سيكون أساس أي تقارب سياسي و«شفاء» اجتماعي، لن يحصل فعلياً قبل نهاية الربع الثاني من العام 2021، وذلك مع عودة الناتج الإجمالي العالمي إلى المستوى الذي كان عليه في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2019، أي نحو 142 تريليون دولار حسب موقع «ستاتيستا» الألماني للإحصاءات، طبعاً إذا افترضنا أن الوباء سلك طريق الانحسار.
في الوقت الراهن، نرى دولا عدة، المقتدرة منها بالطبع، تطلق خططاً لإنعاش الاقتصاد، وآخرها بريطانيا التي أعلنت خطة تحفيز قيمتها 30 مليار جنيه استرليني (37.6 مليار دولار)، قال وزير المال ريشي سوناك إنها موجهة خصوصاً لمكافحة البطالة بين الشباب.
غبر أن إطلاق الخطط وإنفاق المال في اللحظة الراهنة قد لا يكونان دواء ناجعاً قبل أن ينقشع غبار جائحة «كوفيد – 19»، لأن أي انتكاسة جديدة قد تطيح الجهود المبذولة لإنعاش الاقتصاد وتذهب بالأموال التي أُنفقت أدراج الرياح...
يقول الخبير الاقتصادي والأكاديمي الأميركي جوزف ستيغليتز، الفائز بنوبل الاقتصاد 2001، إن العالم لم يأخذ العبر اللازمة من أزمة 2008 – 2009، خصوصاً ضرورة تمتع الاقتصاد العالمي والنظام المالي بالمرونة اللازمة للحؤول دون سقوطه مثل حجار الدومينو عند أول اهتزاز. ويرى أن النظام الاقتصادي الذي سينشأ بعد الوباء يجب أن يستوعب واقع أن العولمة الاقتصادية تجاوزت العولمة السياسية بكثير. وبالتالي على البلدان أن تسعى لتحقيق توازن أفضل بين الاستفادة من العولمة وامتلاك مقدار من الاعتماد على الذات.
من جهته، يرى الأكاديمي البريطاني آدم توز خطراً في اعتماد الأفراد والمجتمعات والحكومات سياسة التقشف في مواجهة الديون الناجمة عن الأزمة الاقتصادية، ويدعو بالتالي إلى الإنفاق بقوة لإطلاق عجلة النشاط والعمل وزيادة الاستهلاك لزيادة الإنتاج. إلا أنه يحذّر هنا من أن تقع قيادة هذه العملية في اليد السياسية السيئة التي لن تحسن قيادة السفينة إلى شاطئ الأمان، بل ستعتمد سياسة حمائية منغلقة تعطّل سلاسل الإمداد وتعقّد العلاقات بين الدول.
الدبلوماسي والأكاديمي كيشور مهبوباني من سنغافورة لا يرى في الأفق سوى عولمة جديدة هي بمثابة عربة يجرّها حصانان: الولايات المتحدة والصين. والمهم في رأيه أن يشدّ الحصانان في الاتجاه نفسه. وعلى القوتين بالتالي التخلي عن المواقف المسبقة والنيّات المبيّتة والطموحات الجيوسياسية للتمكن من إخراج الاقتصاد العالمي من عنق الزجاجة قبل أن ينفد الهواء...


مقالات ذات صلة

تقلبات اليورو تهدد الاستقرار العالمي

الاقتصاد مسؤول في البنك المركزي النمساوي يتسلم أوراقاً نقدية جديدة من فئة 200 يورو (رويترز)

تقلبات اليورو تهدد الاستقرار العالمي

مع اقتراب اليورو من أسوأ شهر له منذ أوائل 2022، يحذر المحللون من أن التقلبات الحادة في العملة قد تصبح المصدر القادم لعدم الاستقرار بالأسواق العالمية.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد مبنى «البنك المركزي الأوروبي» في فرنكفورت بألمانيا (رويترز)

الرسوم الجمركية تهدد النمو الاقتصادي... و«المركزي الأوروبي» يحذّر من تداعيات الحرب التجارية

أشار صناع السياسة في «البنك المركزي الأوروبي»، يوم الثلاثاء، إلى أن أسعار الفائدة بمنطقة اليورو ستستمر في الانخفاض، مع القضاء على التضخم إلى حد كبير.

«الشرق الأوسط» (فرنكفورت (ألمانيا) - لشبونة)
الاقتصاد مفوض الاتحاد الأوروبي للعمل المناخي فوبكي هوكسترا في مؤتمر صحافي على هامش «كوب 29» (رويترز)

«كوب 29» في ساعاته الأخيرة... مقترح يظهر استمرار الفجوة الواسعة بشأن تمويل المناخ

تتواصل المفاوضات بشكل مكثّف في الكواليس للتوصل إلى تسوية نهائية بين الدول الغنية والنامية رغم تباعد المواقف في مؤتمر المناخ الخميس.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد أشخاص يقومون بتعديل لافتة خارج مكان انعقاد قمة المناخ التابعة للأمم المتحدة (أ.ب)

أذربيجان تحذر: «كوب 29» لن ينجح دون دعم «مجموعة العشرين»

استؤنفت محادثات المناخ التابعة للأمم المتحدة (كوب 29)، يوم الاثنين، مع حث المفاوضين على إحراز تقدم بشأن الاتفاق المتعثر.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد سفينة شحن في نهر ماين أمام أفق مدينة فرنكفورت الألمانية (رويترز)

«المركزي الألماني»: خطط ترمب الجمركية نقطة تحول في التجارة العالمية

أعرب رئيس البنك المركزي الألماني عن خشيته من حدوث اضطرابات في التجارة العالمية إذا نفّذ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خططه الخاصة بالتعريفات الجمركية.

«الشرق الأوسط» (برلين)

«المركزي» التركي: سنواصل سياسة التشديد النقدي للسيطرة على التضخم

البنك المركزي التركي (رويترز)
البنك المركزي التركي (رويترز)
TT

«المركزي» التركي: سنواصل سياسة التشديد النقدي للسيطرة على التضخم

البنك المركزي التركي (رويترز)
البنك المركزي التركي (رويترز)

قال رئيس البنك المركزي التركي فاتح قره خان، اليوم الأربعاء، إن البنك سيبقي على سياسة التشديد النقدي لدعم جهود خفض التضخم.

وتوقع أن يبلغ التضخم السنوي 44 في المائة بنهاية العام الحالي و21 في المائة بنهاية 2025.

وفي كلمة ألقاها في إسطنبول، قال قره خان إن طبيعة الطلب في النمو أصبحت أكثر توازناً، وإن البنك يتوقع أن يستمر هذا في بيانات النمو للربع الثالث التي ستصدر يوم الجمعة.

كان البنك المركزي قد كشف الثلاثاء، عن «توقعات التضخم القطاعي» لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. وجاءت التوقعات نتيجة لتحليل بيانات توقعات التضخم الاستهلاكي السنوي للأسرة وشركات الصناعات التحويلية وخبراء القطاع الحقيقي والمالي، واستطلاع الاتجاه الاستهلاكي الذي يتم إعداده بالتعاون مع هيئة الإحصاء التركية واستطلاع الاتجاه الاقتصادي واستطلاع المشاركين بالسوق.

وعكست النتائج تراجع توقعات التضخم السنوي بعد 12 شهراً بنحو 0.2 نقطة ليسجل 27.2 في المائة على صعيد المشاركين بالسوق وبنحو 1.7 في المائة ليسجل 47.8 في المائة على صعيد القطاع الحقيقي وبنحو 3.1 نقطة ليسجل 64.1 في المائة على صعيد الأسرة.

هذا وتراجعت أيضاً نسبة الأسر التي تترقب انخفاض التضخم خلال الاثني عشر شهراً المقبلة بنحو 2 في المائة لتسجل 26.3 في المائة.