المكتبات السعودية والخروج من «عنق الزجاجة»

رئيس هيئة المكتبات لـ«الشرق الأوسط»: 153 مكتبة ستكون بيوتاً ثقافية ومراكز جذب للجميع

عبد الرحمن العاصم
عبد الرحمن العاصم
TT

المكتبات السعودية والخروج من «عنق الزجاجة»

عبد الرحمن العاصم
عبد الرحمن العاصم

يعيش القطاع الثقافي في السعودية مرحلة مختلفة بعد تأسيس أول وزارة معنية بتطويره ودعمه، وانعكس الحراك الحكومي الرسمي لدعم القطاعات الثقافية كافة على قطاع المكتبات، فبعد أن كانت المكتبة في السعودية مصدراً من مصادر المعرفة والحراك الثقافي، عاشت فترة جمود، يصفها عبد الرحمن العاصم، رئيس هيئة المكتبات، وهي هيئة حكومية تتبع وزارة الثقافة، بأنها «لا تعكس حقيقة تاريخ المكتبات السعودية، وما تحظى به من دعم القيادة السعودية منذ عهد مؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن».
وكان الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي رئيس إدارة هيئة المكتبات، قد أطلق مبادرة تطوير المكتبات العامة لتحويلها إلى منصاتٍ ثقافية بمفهوم اجتماعي شامل وحديث، «تلتقي فيه أنماط الإبداع الثقافي كافة، ويجد فيه الأفراد من مختلف شرائح المجتمع ما يمنحهم المعرفة والمشاركة والتفاعل في تجربة ثقافية متكاملة». وتستهدف المبادرة إنشاء 153 مكتبة عامة في جميع مناطق المملكة بحلول عام 2030، فيما وعدت الوزارة بأن تكمل أول 13 مكتبة منها خلال العامين المقبلين.
ويعزو كثير من المختصين قلة رواد المكتبات العامة إلى عوامل عدة، بيد أن وزارة الثقافة، في تقريرها عن الحالة الثقافية في المملكة العربية السعودية، تقر بأن كثيراً من المكتبات لم تثبت وجودها أساساً ولم تدع الزائر لزيارتها بتقديم الخدمات التي يحتاجها؛ بل إن كثيراً منها يقع في أماكن صعب الوصول إليها. ويشير العاصم إلى أن أكثر من 50 في المائة من المكتبات العامة الحالية هي مكتبات مستأجرة المباني، ولكنه يؤكد أنه بحلول عام 2030 لن تكون هناك مكتبات عامة في مبان مستأجرة، ويضيف: «ستعمل هيئة المكتبات على بناء مكتبات جديدة بدلاً من تلك المستأجرة، وسيتم تقييم المكتبات القائمة وفق رؤية هيئة المكتبات واتخاذ القرار بإعادة بنائها أو تأهيلها».
وربما تشكل قلة الزوار قاسماً مشتركاً بين المكتبات العامة في السعودية، بينما في المقابل لكل ألف شخص في الولايات المتحدة 4480 زيارة، وفق إحصاءات رسمية، وقد يرجع ذلك إلى عوامل عدة؛ منها محدودية التنوع للمواد المعروضة، وغياب الفعاليات المكتبية، مثل معارض الكتب والندوات والحلقات النقاشية، والاقتصار على تقديم خدمات المكتبات التقليدية.
وبعيداً عن النظرة السوداوية لحالة القراءة والنشاط الثقافي في المجتمعات العربية، ورغم قلتها، فإن مبادرات نوعية ومحاولات محلية في المكتبات العامة السعودية تؤكد - وفقاً لتقرير وزارة الثقافة - قدرتها على جذب زوار للمكتبات، كبرامج فن الإلقاء والخطابة، وتعزيز القراءة لدى الطفل، والماراثون الخطابي، والتفاعل مع الأيام الدولية الثقافية.
ويشير العاصم إلى أن إضافة مرافق مفتوحة بساعات عمل أطول في 153 مكتبة لتحتضن الشباب الراغبين بالقراءة والدراسة، أمر إيجابي سيلبي احتياجات ملحّة للقرّاء والطلاب والباحثين.
وحول ما يمكن وصفه بـ«السبب الكبير» وراء تأخر كثير من المكتبات العامة في السعودية عن ركب نظيراتها في العالم، فإن توفير الحلول التقنية والإنترنت في مرافق المكتبات العامة لا يزال ضعيفاً، ففي السعودية بين 65 و85 في المائة من المكتبات لا تتوفر فيها خدمة الإنترنت، أو يكون استخدامه مقتصراً على العاملين فيها. كما يعاني عدد من المكتبات من نقص حاد في مستوى التجهيزات والتقنيات، باستثناء المكتبات الجامعية التي تميّزت - حسب التقرير - بمواكبتها التحول التقني المتسارع، واحتوائها على الحجم الأكبر من المقتنيات والمواد.
ويعد التطور التقني من أبرز التحديات التي تواجه قطاع المكتبات، وتبلور في الأعوام الماضية «نور في آخر النفق» يتمحور حول ربط شبكي بين المكتبات العربية، وتم البدء في تنفيذ أحد مشروعاته «الفهرس العربي الموحد»، وهو مشروع تعاوني يهدف إلى بناء قاعدة بيانات تسهم في تبادل البيانات الببليوغرافية بين مؤسسات المعرفة والثقافة في العالم العربي. كما تنص المبادرة التطويرية السعودية على أن تشمل المكتبات العامة بالمملكة مكوّناً إضافياً لعناصرها وهو العروض المرئية والسينمائية، الذي قد يساهم في جذب شريحة جديدة من المجتمع وإطلاعهم على مجالات جديدة من المعرفة. فيما 83 في المائة من المكتبات العامة في السعودية تعاني من قصور في المواد المرئية والسمعية.
ويبدو أن أمام وزارة الثقافة السعودية وهيئة المكتبات تحدياً كبيراً يتمثل في إعادة الروح أيضاً للمكتبات الخاصة، والتي كانت تقوم على المبادرات الشخصية من الأفراد، ولكنها كانت تعاني من عدم التشجيع والدعم رغم أهميتها في المنظومة الثقافية، ولا تزال بعض الأسر السعودية تفتح مكتباتها للعامة، ولكنهم في تناقص، ويرى مختصون أن دعمهم سيساهم في صناعة الفارق.
وأمام الأصوات المنادية بتطوير المكتبات الرقمية، والتخلي عن أعباء وجودها الفيزيائي وتكلفة إنشائها وتشغيلها، يرى رئيس هيئة المكتبات السعودية أن مفهوم المكتبات العامة الحديث اختلف اليوم، مشيراً إلى أن المكتبات العامة في المملكة لن تكون مصدراً للمعلومات بشكليها التقليدي والإلكتروني فحسب؛ بل ستكون مركز جذب للمجتمع بكل أطيافه بجهوزيتها لاستضافة الحلقات التدريبية وورشات العمل وكل ما يخدم المثقف.
ويضيف العاصم: «باستضافتها الفعاليات الثقافية التفاعلية التي بلا شكّ لن تغني عنها المكتبات الإلكترونية، ستكون المكتبات العامة أحد الأماكن التي سيتردد عليها أفراد المجتمع باستمرار».
ويلفت إلى أن المكتبات العامة ستقوم بدور محوري في الثقافة السعودية من خلال رؤية هيئة المكتبات التي تتطلع من خلالها إلى أن تكون المكتبات العامة منارة ممكّنة للإثراء الفكري والتنمية الثقافية وتعزيز مفهوم التعليم المستمر والتأهيل والتطوير.
ومبادرة تطوير المكتبات التي أطلقها وزير الثقافة السعودي، يصفها العاصم بأنها «جاءت لتغطي جوانب عدة، كإضافة مرافق جديدة في المكتبات العامة في المملكة لتعقد رابطاً قوياً بينها وبين المثقف. مع الاحتفاظ بدورها الأساسي بوابةً للمعرفة».
ويذهب المسؤول السعودي إلى القول إن هيئة المكتبات انضمت لنهج تأمين الإيرادات المالية ذاتياً، مؤكداً أن هذا النهج يوفر ضماناً لاستمرار تقديم خدمات الهيئة بأعلى مستويات الجودة وتعزيز تجربة المستفيد، «وستعمل الهيئة على تعزيز موارد المكتبات العامة عبر فتح باب الاستثمار وتعزيز الشراكات مع القطاعات المختلفة التي تخدم المكتبات العامة في المملكة».
ويبدو أن السعوديين ذاهبون إلى أبعد من تأسيس المكتبات وإعادة تأهيلها في بلادها لتكون بيوتاً للثقافة؛ إذ أعلن وزير الثقافة عن برنامج طموح وضخم للابتعاث الثقافي في تخصصات عدة؛ من ضمنها تخصص المكتبات، الذي يرى مختصون أنه سيرفد قطاع المكتبات بكوادر وطنية مؤهلة ستساهم في نهضة القطاع. كما أقر مجلس الوزراء السعودي مؤخراً «التصنيف السعودي الموحد للمهن»؛ ومن بينها أكثر من 80 مهنة ثقافية، وكان قطاع المكتبات حاضراً لمهن عدة، مما سيزيد من جاذبية القطاع عند الشباب السعودي والقطاع الخاص وغير الربحي.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».