فيلم إسرائيلي عن التعايش.. وآخر أميركي عن رامسفيلد وحرب العراق

لم يعد جديدا القول إن واحدا من مهرجانات السينما بات يعكس الوضع السياسي المنتشر حول العالم. فكل مهرجان رئيس، على الأقل، بات يحفل بأفلام تقوم بتقديم وضع معين أو التعليق عليه. صحيح أن «مهرجان برلين» داوم على تقديم النسبة الأعلى من الأفلام ذات النبرة السياسية (من أيام ما كانت أوروبا شرقية وغربية)، إلا أن المسألة انتشرت فيما بعد وهي اليوم متوافرة أكثر من أي وقت مضى.
مع ما يحدث في العالم العربي من أوضاع ومع ما يبدو سائدا لحين قصير قبل أن يسود ما سواه لحين آخر في هذا الجزء من العالم، ومع الحرب الباردة وقضايا البيئة والذعر الإرهابي الضارب أطنابه، هناك أيضا المسائل غير المحلولة منذ زمن بعيد مثل الوضع في فلسطين ومع الفلسطينيين، ومثل ما تخلل وتلا الحرب الخليجية الثانية عندما تم تغيير وجه النظام العراقي مرة - مؤلمة ومكلفة - واحدة وإلى الأبد.
فيلمان في دورة فينيسيا السبعين هذا العام يتناولان هذين الوضعين. فيلم إسرائيلي من المخرج المحسوب على اليسار آموس غيتاي، وآخر للمخرج الأميركي (الذي من الصعب حسبانه على أي خط) إيرول موريس.
«أنا عربية»، وهي عبارة ترددها واحدة من شخصيات فيلم غيتاي النسائية قرب النهاية، هو جديد مخرج عـرف بتطرقاته السياسية. هو في الواقع، لم يتطرق إلى ما سواه. أحيانا عبر الفيلم التسجيلي وأحيانا عبر الفيلم الروائي، لكن دوما ما يمارس الروائي على نحو تسجيلي. ليس بأسلوب الدوكيودراما تماما، لأن هذا الأسلوب لا يزال بحاجة إلى تحديد لأجل تعريفه صحيحا، بل على نحو من يريد لممثليه حضورا طبيعيا، طالبا منهم ما هو أصعب الأشياء: اللاتمثيل. كما يريد من موضوعه ألا يحتوي على دراما بقدر ما لا يريد له أن ينتمي تماما إلى ما هو تسجيلي.
هذا واضح في فيلمه الجديد الذي صوره بلقطة واحدة تستمر 81 دقيقة، بدءا من وصول صحافية إسرائيلية (الجميلة يوفال شارف) لكتابة تحقيق حول امرأة يهودية من ناجي الهولوكوست اسمها سيام، كانت اعتنقت الإسلام حبـا للرجل الذي تزوجته رغم معارضة العائلة وهو يوسف (يوسف أبو وردة). غيرت اسمها من هانا كليبانوف إلى مريم إمعانا في الانتماء إلى بيئة فلسطينية تعيش اليوم في وسط مدينة حيفا. ليس واضحا إذا ما كان الفيلم يستند إلى حكاية حقيقية. إذا ما كان كذلك، فهو اختار ممثلين لتأديتهم ما يجعله أقل تسجيلا وأكثر درامية بصرف النظر عن الأسلوب المتـبع.
تتحرك الصحافية داخلة مجموعة من المنازل المبنية قبل العصرنة، يعيش فيها يوسف وعائلته كما بعض الجيران الآخرين. تتحدث ليوسف أولا الذي يقدمها لزوجته ولابنته. هي السائل، وهو من يساعد في تعريفها بالمحيط. يقودها إلى شخصية أخرى، ثم ينسحب، ثم يعود لتعريفها بشخصية أخرى، وما بين الشخصية والأخرى يسرد عليها أحاديث كثيرة عن تاريخه وقراءاته وأسطورة عنترة بن شداد. في كلامه ألم دفين، لكنه لا يخرج جليـا.
ليس جليـا أيضا ما يعنيه المتحدثون إليها حين يتفوهون ببعض العبارات ذات المدلولات التي تبقى غامضة. مثل ابن يوسف (شادي سرور) حين يتحدث عن احترافه بيع الخردة عوض صيد السمك، أو حين يقول يوسف نفسه، «كل واحد ينال ما يستحقه». هل يعني ذلك أنه يؤمن بأن الفلسطيني هو ما عليه اليوم بسببه هو فقط؟
بانتقالها بين أربع أو خمس شخصيات، تشعر الصحافية بأن لديها قصـة مثيرة ومليئة بالمفاجآت. تخابر هاتفيا رئيس تحريرها وتقول له ذلك. لكن، ما يحتويه الفيلم وما تستمع إليه الصحافية من حكايات لا يصب في خانة صنع تحقيق كبير، خصوصا أن مريم لم تعد موجودة بيننا.
لو كان لدى الصحافية قصـة متطورة تتجاوز العناوين وجوهر الموضوع لكان للفيلم ذاته قصة متطورة في إطار موضوع فعلي. لكن الفيلم في نهاية مطافه يسجـل ما يحدث من دون افتعال أو تفاعل. الافتعال مرفوض، لكن التفاعل مطلوب. لكي يتحقق، على الفيلم أن يحتوي على أكثر من قيام الصحافية بالاستماع ولأكثر من كاميرا الفيلم متابعة ما تقوم به الشخصيات.
في النهاية، يريد الفيلم أن ينجز تعليقا آخر. تعود الكاميرا بلقطتها الواحدة من دون قطع (وبالتالي من دون أسلوب تبادل فعل وردود فعل) إلى حيث ترتفع من المكان، تاركة تلك البقعة لتظهر مكانها في المدينة. المباني الحديثة تحيط بها وهي تبدو مثل بستان لا يدخله إلا أهله. بعد ذلك، تتحرك الكاميرا (من نوع آري أليكسا) إلى السماء للحظات قبل نهاية الفيلم.
الفيلم هادئ ربما أكثر من اللزوم، وذلك يثير شجنا في مكانه. هؤلاء أناس من الذين تمر الحياة مثل تلك الطائرة التي نسمعها تعبر السماء من دون أن نراها… تعبر فقط. غيتاي دائما ما سعى لتصوير إمكانية تآلف الفلسطيني مع الإسرائيلي ويدعو إليه. لا يتدخل كثيرا في الكيفية ولا يعالج الصد الذي يواجهه الفلسطينيون في سبيل تحقيق هذا التعايش، لذلك هو أمل وأمنية أكثر منه بحثا في الوضع على حقيقته.
* المجهول معلوم والمعلوم كذلك
* الفيلم الثاني تسجيلي بكل تأكيد. وهو من إنتاج وإخراج واحد من أكثر المخرجين الأميركيين تعاملا مع السينما السياسية. سابقا ما قدم ما اعتبر نصرا في هذا المجال عبر فيلم بعنوان «ضباب حرب» سنة 2003 الذي فحص، عبر وزير الدفاع الأميركي روبرت مكنمارا، الحرب الفيتنامية منذ سنواتها الأولى وعبر أوحالها، وصولا إلى نهايتها التي لم تبرر مقتل كل من سقط من الجانبين فيها.
الفيلم الجديد هو «المجهول المعلوم» الذي يختار فيه المخرج إيرول موريس وزير الدفاع الأميركي في عهد جورج بوش الابن، دونالد رامسفيلد للحديث إليه وسؤاله عن الحقب السياسية المختلفة التي أمـها من أول منصب حكومي حصل عليه، أيام الرئيس نيكسون، إلى حين ترك التقاليد لكوندوليزا رايس.
في نحو ساعتين يستمر الحديث. ها هو السياسي الأميركي الذي اشترك مع بوش الابن ونائبه ديك تشيني في تغيير بعض الثوابت في أفغانستان والعراق إثر تلك العملية الإرهابية التي ضربت نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) سنة 2001.
لكن «المجهول المعلوم» ليس «ضباب الحرب»، ورامسفيلد ليس مكنمارا، من حيث إن الفيلم السابق كان أكثر عمقا وحدة. أسئلة إيرول موريس كانت لا تتوقـف عن البحث ومستعدة لتداوله بعمق رغبة في الوصول إلى الحقيقة. هنا أسئلة المخرج (الذي لا نراه في الفيلم، لكننا نسمع صوته في الوقت الذي تتركـز فيها الكاميرا على رامسفيلد) طيـعة. إنها كما لو كان الاتفاق عليها تم، وخلال عملية الاتفاق كان على المخرج الانصياع فلا يطرح سؤالا مناهضا أو عدائيا أو ناقدا. بذلك، عمق الحوار القائم لا يزيد على شبر واحد. رامسفيلد ليس من النوع الذي سيعترف بهزيمة استراتيجية أو أمنية. ولن يرى العالم اليوم على عكس ما رآه سابقا. ليس المطروح هو اكتشاف ذاتي جديد ولا سيرا في خط مناوئ لما سار عليه من قبل وبنى كل حياته السياسية تبعا له.
هو يبكي، لا حين يسأله المخرج عن سبب الحرب العراقية وضحاياها وإذا ما كان من الممكن تجنـبها، بل حين يتذكـر جنديا أميركيا أعيد نقله إلى المستشفى مصابا وعاوده لخطورة إصابته. هذه نقطة ضوء على مشاعر إنسانية لا بد من الاعتراف لها، لكنها عاطفية محدودة لا تشمل الآخر على الإطلاق.
ينفي رامسفيلد مسؤولية وزارة الدفاع عما تم كشفه من تعذيب في غوانتانامو (يلصقها بالمخابرات الأميركية)، ولا يرى خطأ في أي ممارسة إدارية، لا بخصوص الحرب في أفغانستان ولا بتلك التي قامت في العراق. وهذا حقـه بكل تأكيد، وهو ليس بعيدا عن الصواب في أكثر من نقطة في هذا الحديث تتقاطع وتوجـهه السياسي الذي قام عليه. لكن المرء كان يتوقـع من المخرج (والفيلم حتما) أن يكشف جديدا في هذا الاتجاه أو فيما سواه. حين يصرف الفيلم بعض وقته على ما وقع في سجن أبو غريب، فإن هذا جيـد فقط بالنسبة لأولئك الذين لم يروا فيلم موريس السابق «أبو غريب» قبل خمس سنوات.
مرة واحدة، حاول المخرج نقض كلام رامسفيلد، هي عندما ذكر الوزير أن الولايات المتحدة لا تقوم باغتيال الرؤساء، في رد على سؤال المخرج ما إذا كان من الأفضل حينها اغتيال صدام حسين للقضاء على نظامه، لكنه بعد قليل يكشف عن أنه عندما أكدت مصادر مخابراتية وجود صدام حسين في منطقة سكنية ليست بعيدة عن بغداد، صدرت الأوامر بقصفها فـ«مات بعض الناس، لكن صدام لم يكن هناك»، كما قال.
إنها فرصة تفوت الفيلم تبعا لأسلوب من طرح أسئلة مهمـة ثم القبول بالرد على قوته أو هوانه. رامسفيلد يبدو مستعدا لكل الاحتمالات. ما زال مثل ملاكم لطيف، مستعد لأن يضرب ومستعد لأن يبتسم ويتودد، لكنه لن يعانق.
العنوان هو لعب كلام مقصود. رامسفيلد الذي كتب، كما يقول، نحو مليون مذكرة داخلية في سنواته بالبيت الأبيض (واحدة تكشف عن خلافه مع كوندوليزا رايس)، يبدأ الفيلم وينهيه بمحاولة تفسير لعبارة The Unknown Known (المعروف المجهول) فيقول إن هناك أربع حالات هي:The Unknown Known وThe Known Known وThe Known Unknown ثم The Unknown Unknown، وهو يبحر أكثر من مرة في تعريف كل وضع وحالة، لكن في ذلك هو مراوغ ماهر يستند إلى عباراته لكي تمنحه حرية واسعة في الحركة أمام محدثه. لكن المشكلة ليست فيه، سينمائيا، على الأقل، بل في محدثه، إذ يبدو أن قيدا كان يمنعه من حشر السياسي في خانة اليك.
في نهاية المطاف، لا يأتي الفيلم بجديد لا نعرفه. هذا المعروف - المجهول هو من نوع المعروف - المعروف. إنتاجه توزع بين عدة شركات، من بينها محطة «هيستوري» التلفزيونية الأميركية. في يوم ما، قد يتحول هذا الحديث إلى وثيقة، لكن الآن يأتي ويمضي بلا ضوء جديد على موضوعه.