مهمشات مصريات... «أحلام مفزعة» في زمن الوباء

يتعرضن لأعباء اقتصادية وتأثيرات اجتماعية ونفسية منذ «كورونا»

مهمشات مصريات... «أحلام مفزعة» في زمن الوباء
TT

مهمشات مصريات... «أحلام مفزعة» في زمن الوباء

مهمشات مصريات... «أحلام مفزعة» في زمن الوباء

«كورونا خربتْ بيتنا»... بأسى، خرجت الكلمات على لسان الخمسينية (منال)، إحدى القاهريات اللائي طالتهن أعباء المعيشة خلال الأشهر الثلاثة الماضية بفعل فيروس كورونا المستجد. فمنذ ظهوره، تلاحق الآثار السلبية للوباء فئات عدة من المصريين، لا سيما النساء المُهمشات، حيث أثّر عليهن بطرق مختلفة - وفق تقارير المجلس القومي للمرأة في مصر - نظراً لمشاركة المرأة بنسبة كبيرة في كل مجالات العمل المختلفة، خصوصاً في القطاعات غير الرسمية.
وحسب إحصائيات «القومي للمرأة»؛ فإن 18.1 في المائة من النساء من المعيلات، و33.9 في المائة من عمالة الإناث في أعمال هشة، كما أن 6.7 في المائة يعملن في قطاع الصناعات و36.4 في المائة من الإناث يعملن في الزراعة، و56.8 في المائة يعملن في القطاع الخدمي.
وترى الدكتورة ألفت علام، استشارية العلاج النفسي والمستشارة بالأمم المتحدة، أن «الفئات المهمشة هي أكثر الفئات تضرراً بفيروس كورونا، ومن بينها المرأة المعيلة التي تُعد من أكثر المتضررات».
وتقول لـ«الشرق الأوسط»، «الوضع الاقتصادي كان له التأثير الأكبر، حيث يترتب عليه التداعيات الأخرى، فهناك أعمال ضحت بالمرأة وتركت الرجل بحكم أنه العائل، رغم أن المرأة قد تعول أسرتها، كما أن نوع الأشغال غير الرسمية، مثل عاملات المنازل أو بائعات المحال تضررن بشكل أكبر من الاستغناء عنهم، كما زاد العبء على كثير من المطلقات مع رفض المطلِّق دفع النفقة للمطلقة، بحجة الظروف الحالية».
وفي أحد أحياء القاهرة الشعبية؛ تحدثت «نسمة»، وهي مُطلقة وأم لثلاثة أطفال، لمؤسسة «قضايا المرأة المصرية» قائلة «منذ طلاقي وأنا أعيش في منزل أبي... وأنا من أصرف عليه وعلى أطفالي، زاد العبء عليّ عندما استغنى المصنع الذي أعمل فيه عن عدد كبير من العمال بسبب (كورونا)، وتوقف طليقي عن سداد النفقة، وأتعرض لضغوط اقتصادية كبيرة».
تعكس كلمات صاحبة الـ33 عاماً، ما جاء بالتقرير الأممي، الذي أصدرته إدارة التواصل العالمي بالأمم المتحدة «أثر مرض فيروس كورونا لعام 2019 (كوفيد - 19) على النساء والفتيات لمجرد كونهن إناثاً في جميع المجالات من الصحة إلى الاقتصاد، ومن الأمن إلى الحماية الاجتماعية».
وترصد دراسة صدرت قبل أيام قليلة بعنوان «حكايات نساء في أيام الوباء»، أعدتها مؤسسة «قضايا المرأة المصرية» (مؤسسة أهلية)، التأثيرات الواقعة على النساء المهمشات في ظل وباء كورونا في هذه المجالات وغيرها، وأوردت على صفحاتها مجموعة من أشكال معاناة هؤلاء النساء، من بينها الروايات السابقة وروايات أخرى، ترصد جميعها التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والضغوط والتأثيرات النفسية، والعنف ضد المرأة، والطرق التي تواجه بها النساء هذه التأثيرات.
من بين هذه الطرق ما تحدثت به إحدى السيدات قائلة «استغنيت عن كل احتياجاتي الشخصية، حتى الفوط الصحية لم أعد أشتريها لأننا نعيش ظروفاً لم نمر بها من قبل»، في حين قررت بعض الأمهات تخليهن عن حفاضات الأطفال، واضطرارهن إلى الإقلال من الخضراوات والفاكهة، ومنع اللحوم والأسماك، وبيع قطع الأثاث من المنزل حتى يستطعن توفير مبلغ لشراء طعام، وأخريات اضطررن إلى بيع متعلقاتهن الشخصية.
أمام ذلك، تحركت الحكومة المصرية لدعم المرأة، حيث اتخذت 80 تدبيراً وإجراءً وقائياً داعماً للنساء، بحسب ما رصده المجلس القومي للمرأة.
وأدى تفشي الوباء أيضاً إلى الكثير من التغييرات في الحياة اليومية، على غرار الحجر المنزلي الذي يقضي بالمكوث في المنازل لفترات أطول من ذي قبل؛ وهو ما كان له الكثير من التداعيات.
وتشير مبحوثات دراسة «حكايات نساء في أيام الوباء» إلى تأثيرات سلبية عليهن نتيجة تواجد أفراد الأسرة لوقت أطول معاً، وزيادة طلبات الأزواج وعدم مشاركتهم في الأعمال المنزلية.
وتنتقد الدكتورة ألفت علام ذلك الأمر بقولها «كأن الوضع الضاغط واقع فقط على الرجل وليس واقعاً على المرأة»، مشيرة إلى وجود «معاناة أخرى للنساء في ظل (كورونا)، تتمثل في ازدياد معدل العنف والتعرض للضرب والإهانة، فالمرأة دائماً هي الحلقة الضعيفة في الأسرة والمجتمع التي يمارس عليها العنف وقت النزاعات الحروب والأوبئة».
وهو ما يتفق مع وصف النساء اللاتي تعرضن للعنف الأسري للوضع الراهن بـ«الحلم المفزع»، بحسب دراسة «حكايات نساء في أيام الوباء»، وقول إحدى مبحوثاتها «الوضع حالياً أسوأ... زوجي يضربني ويهينني أكثر من الأول، وأنا لا أتمكن من التحرك لأبلغ أحداً لكي يحميني بسبب (كورونا)».
وتذهب الدراسة إلى أن هناك 59 المائة من النساء المُعنفات في ظل وباء كورونا تعرضن للعنف النفسي، و36 في المائة تعرضن للعنف الجسدي، و5 في المائة من تعرضن للعنف الاقتصادي والاجتماعي، مثل الاستيلاء على أموالهن من بعض الذكور بالأسرة.
وتؤكد علام، أن «هذه التأثيرات كافة التي نلمسها حالياً، يبدو أنها مستمرة على المدى البعيد، فالوضع الحالي ليس واضح الملامح ولا يبدو أنه قد يتفكك قريباً».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)