العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»

الكاظمي أطلق صافرة البداية لمواجهة حامية مع متحدّيه من أتباع إيران

العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»
TT

العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»

العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»

على مدى الأعوام السبعة عشر الماضية، كان الحديث عن هيبة الدولة المفقودة في العراق والعمل على حفظ سيادتها لا يتعدّى «حديث خرافة يا أمّ عمرو» وفق القول الشائع.
هذا كان ولا يزال الحال، بدءاً من الأزمة مع الأميركيين سواءً كانوا «محرّرين» أو «محتلين» منذ لحظة إسقاط تمثال الرئيس السابق صدام حسين عصر 9 أبريل (نيسان) 2003، مروراً بالتدخلات المسلحة على الحدود العراقية من قبل إيران وتركيا، وانتهاءً بالموقف ممن تصف نفسها بـ«محوَر المقاومة» بينما تصنفها كل الحكومات العراقية بوصفها فصائل تملك سلاحاً خارج سيطرة الدولة.

لعل السؤال الذي بقي مطروحاً على مدى سنوات «زحف» سلطة الفصائل المسلحة الموالية لإيران على الدولة ومؤسساتها، الذي أسّس ما يسمى «الدولة العميقة» في العراق هو: من يعلق جرس المواجهة معها؟
كل رؤساء الوزارات العراقية قبل مصطفى الكاظمي، الذي جاء إلى السلطة من خارج الخط الأول من الزعامات الشيعية ومن خارج منظومة الأحزاب الإسلامية (ما عدا رئيس الوزراء الانتقالي إياد علاوي الذي كان مدنياً) تجنبوا خوض مواجهة مفتوحة مع ما يعدّونه «خارجاً عن القانون»، باستثناء ما عُرفت بـ«صولة الفرسان» التي أطلقها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عام 2009 ضد جماعة «التيار الصدري في محافظتي البصرة والعمارة. ويومذاك، حققت «الصولة» نجاحاً لفترة من الزمن قبل أن تستفحل عناصر أخرى وتحت أغطية أخرى.
غير أن الكاظمي، الذي جاء إلى السلطة بمعادلة جديدة، لم يغير ما وضعه من التزامات، أبرزها إنجاز أهم استحقاق ينتظره العراقيون، ألا وهو الانتخابات المبكرة والنزيهة ومعها استعادة هيبة الدولة المفقودة.
المعادلة المقلوبة
لعل أقل ما كان يمكن توقعه من قبل خصوم الكاظمي، وفي مقدمتهم الفصائل المسلحة، فضلاً عن أطراف كثيرة في كتلة «الفتح» التي يتزعمها هادي العامري، هي أن الكاظمي «سيتغاضى» عن استهداف «جماعات الكاتيوشا» (أي الميليشيات) المصالح الأميركية في العراق، سواءً في «المنطقة الخضراء» - حيث السفارة الأميركية - أو مطار بغداد الدولي أو معسكر التاجي، حيث يتمركز أميركيون مع القوات العراقية لأغراض التدريب والتجهيز والتسليح والدعم اللوجيستي.
لكن الكاظمي سارع إلى إجراء حوار وصف بأنه «استراتيجي» مع الأميركيين يفترض أن يستكمل خلال يوليو (تموز) الحالي أو أغسطس (آب) المقبل، رابطاً المسار على جبهة الحوار - بما في ذلك جدوَلة انسحاب القوات الأميركية من البلاد - بوضع حد للسلاح المنفلت.
المفارقة اللافتة هنا، أن الحوار الذي جرى عبر دائرة تلفزيونية مغلقة رافقه إطلاق مكثف ويومي لصواريخ «الكاتيوشا». وبينما كان المطلوب من الكاظمي الاستمرار بهذه المعادلة كي يبقى نصف مرضيّ عنه من قبل هذه الأطراف، فإنه قلب المعادلة حين قرّر البدء بفرض هيبة الدولة عبر ما عُرف بـ«واقعة الدورة» جنوبي بغداد. ومع اختلاف الروايات بشأن الواقعة والمتهمين بها، وما إذا كانوا 1 أم 13، فإن النتيجة بدت متباينة بين قوى الدولة و«اللا دولة». وبينما احتفل المُفرَج عنهم الـ13 لنقص الأدلة، أعلنت الحكومة أن المطلوب كان واحداً لا يزال معتقلاً، وهو الذي اعترف بحيازة أسلحة ومنصّات صواريخ.
غير أن اللافت كان طريقة الاحتفال، بالإمعان في إهانة الدولة. إذ داس المُفرَج عنهم على صور مسؤولين، مع إنهم وفق الوصف الرسمي ينتمون إلى هيئة «الحشد الشعبي» التي تتبع رسمياً رئاسة الوزراء .
الكاظمي يعتقد، على الأرجح، أن ردّات فعل كهذه متوقعة، لا سيما إنه دون غيره من رؤساء الوزارات السابقين يخوض معركة «كسر عظم» تتطلب المزيد من الخسائر بما فيها الشخصية. ولذا عدّل الكاظمي خطة المواجهة التي يبقى الكثير من خيوطها بيده عبر الشخص الذي لايزال معتقلاً، وهو ما يمكن عده صيداً ثميناً في سياق التوجه مستقبلاً إلى أحد أهم مصادر تمويل الجماعات المسلحة، وهي المنافذ الحدودية، بدلاً من غزو المعسكرات التي يتحصن فيها هؤلاء ومعظمها معسكرات مشتركة بينهم وبين «الحشد الشعبي».
الليلة الكبيرة
صباح الخميس 26 يونيو (حزيران) الماضي كان مفعماً بالنشاطات بالنسبة للكاظمي. فبالإضافة إلى لقاء طويل عقده مع مجموعة من الإعلاميين والمحللين السياسيين حضرته «الشرق الأوسط»، أجرى رئيس الحكومة لقاءات عدة مع الفنّانين والأدباء وقبلهم أصحاب المهن الطبية. وكان القاسم المشترك في كل هذه اللقاءات أمران: الأول، التأكيد أن ملء الحقائب الـ22 مضى عليه أسبوعان فقط. والآخر هو ما ينوي عمله خلال الفترة المقبل، بما يوحي أنه سيبدأ مواجهة شاملة تبدأ من الأحزاب وتنتهي بالجماعات المسلحة، وبالعكس. ومما قاله الكاظمي «سنتّخذ في القريب العاجل مجموعة إجراءات لتغيير بعض المواقع الإدارية في الدولة، وسنسمع بعدها حملة تشويه للحكومة؛ لأن هناك مَن سيتضرّر جرّاء هذه التغييرات. ونقول بكلّ صراحة إنه ليس لدينا شيء نخسره، ورهاننا على الإعلاميين والصحافيين وعلى الناس. وإن لم يتركونا نعمل فسنخرج وأيدينا نظيفة... الفساد أخطر من الإرهاب لأنه يساعد الإرهابيين، وستكون لدينا حملة لمتابعة أسباب الفساد وملاحقة الفاسدين».
وحقاً، في منتصف ليل الخميس وفجر الجمعة بدأت مواجهة غير مسبوقة، مع اقتحام قوة من جهاز مكافحة الإرهاب مقراً لـ«كتائب حزب الله» واعتقال مجموعة من عناصرها. بذا استعجل الكاظمي المواجهة رغم عمر حكومته القصير، وهو ما قد يمثل له ورطة بسبب نقص عناصر المواجهة. وهنا يقول محمد الكربولي، القيادي السنّي وعضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي لـ«الشرق الأوسط»، إن «المواجهة مع الفصائل المسلحة والميليشيات الخارجة عن القانون أمر حتمي، لكنه يحتاج إلى وسائل وآليات كي لا تفقد الدولة هيبتها مرتين». وتابع أن «الكاظمي يعتمد حالياً على جهاز واحد قدّم تضحيات جسيمة في مواجهة (داعش) هو جهاز مكافحة الإرهاب».
حسب الكربولي «ليس من الحكمة الآن الزجّ بهذا الجهاز وحده في مواجهة مع الفصائل؛ لأنه لا هو ولا الكاظمي مؤهلان لهذا الدور الآن... وإلا ستفقد الدولة هيبتها مرتين: مرة في مواجهة خاسرة، ومرة في العجز عن تحقيق النصر، وبدلاً من ذلك إحداث شرخ داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية». ثم يستطرد «ينبغي بناء القوات المسلحة بشكل جيد ومتماسك، وتأجيل المواجهة الآن إلى أن تنضج ظروف المواجهة بحيث يكون ولاء القوات الأمنية للدولة تاماً».
وفي الإطار نفسه، يفسر الخبير الاستراتيجي الدكتور هشام الهاشمي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» ما حصل بأنه «بموجب مدرك رئيس الحكومة، فإنه يحاول إنهاء الأزمات الأمنية التي أربكت حلوله الاقتصادية من خلال تمرد خلايا الكاتيوشا وسيطرة الهيئات الاقتصادية على المشاريع والمنافذ الحدودية». ويضيف الهاشمي، أن «الكاظمي، من هذه الزاوية، كان لا بد أن يصل إلى تسوية من خلال القوة الناعمة، لكنها يبدو أنها فشلت، فلجأ إلى فرض القانون عبر تنفيذ مذكرات القبض القضائي».
وفي سياق تبادل الرؤى والأفكار لما حصل وما يُتوقع حصوله، يقول الأكاديمي العراقي الدكتور إحسان الشمّري، رئيس «مركز التفكير السياسي، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إنه «على الرغم مما جرى نتيجة محفّز أمني لأمور واستهدافات كثيرة حصلت في المنطقة الدولية (الخضراء) أو مطار بغداد أو العمليات المشتركة، وكذلك طبيعة مواقف هذه الفصائل من مخرجات الحوار بين بغداد وواشنطن، فإن المواجهة تحمل من جانب آخر بعداً سياسياً يتمثل في أن الكاظمي بدا أكثر ثباتاً في تطبيق منهاجه الوزاري، ولا سيما، على صعيد حصر السلاح بيد الدولة». وأردف الشمّري، أن «الكاظمي كسر قاعدة الحكومات العراقية السابقة لجهة المواجهات مع الفصائل المسلحة أو الجهات الخارجة عن القانون. وبالتالي، فهو يتحرك بعيداً عن الضغوط والإملاءات السياسية».
الشمّري يرى أيضاً، أن ما حصل «سيكون له تداعيات سياسية كبيرة»؛ لأن الكاظمي لا يمتلك كتلة سياسية، «وستكون نسيج عمل سياسي بين هذه المجاميع لتعويق عمل الكاظمي ومساءلته واستقدامه إلى البرلمان وتعطيل خطواته، إلا أن الأهم هو أن هذه الخطوة من الناحية السياسية ستثبّت القناعة عند هذه الفصائل بأن لدى الكاظمي القدرة على الانقلاب على كل التوافقات السابقة بمعنى غض الطرف عن نشاط هذه الفصائل المسلحة». وأشار إلى أن الفصائل «ستعمل على إنهاء خلافاتها وإعادة تموضعها لمواجهة هذا التحدي الجديد، وعليه فإن قدرة الكاظمي على المواجهة تعتمد على أكثر من مسار، كقدرته أولاً على المطاولة، وثانياً دعم القوى السياسية لهذه الخطوات، وثالثاً مسألة التأييد الشعبي له».
عرس بلا «شهر عسل»
كل الحكومات العراقية السابقة بعد 2003، التي تشكلت أو مرّرت داخل قبة البرلمان، كانت حكومة توافقات، فضلاً عن المحاصصة الحزبية والطائفية. ومع أنها كلها باستثناء حكومة عادل عبد المهدي أنهت دوراتها المقرّرة (أربع سنوات)، فإن حكومة مصطفى الكاظمي تبدو «حكومة إجماع اضطراري»، لكن بمهمة واحدة هي إجراء انتخابات مبكرة نزيهة... وفي غضون سنة.
بناءً عليه، قبِل الكاظمي بمهمة «انتحارية». وبالفعل، وصف نفسه بـ«الشهيد الحي». ولئن كانت حكومته الوحيدة بلا «شهر عسل» بعكس كل الحكومات السابقة، فإن تعجّله المواجهة سيجعله في حالة حرب معلنة مع خصومه الذين يُصنَّفون وفقاً لقاموسه كـ«قوى اللادولة»، بينما يتباهون بأنهم «المقاومون» الممنوع التحرش بهم طالما يوجد «احتلال أميركي»، كما يسوّقون في خطابهم المعلن.
هادي العامري، زعيم تحالف «الفتح: هادي العامري»، بدا عقب «واقعة الدورة» غاضباً من الكاظمي. وفي سياق هذا الغضب برّر حضوره حفل تكليف الكاظمي بأنه لغرض تحقيق الإجماع. وأقرّ العامري، الذي يتكلم عادة بصراحة لا يملكها سواه، بأن القبول بالكاظمي كان «اضطرارياً» مع وجود بدائل رُفضت قبله كان يمكن أن تكون مقدمة لشق البيت الشيعي ومفاقمة خلافاته.
ومن جهته، يدرك رئيس الوزراء العراقي أن «حفلة زفافه» القصيرة في «قصر السلام» انتهت عند بوابة القصر ليواجه وحده مصيراً بدا مجهولاً منذ البداية. إذ ثمة أزمة مالية حادة توقفت معها رواتب المتقاعدين قبل الموظفين، وأزمة صحية بدأت تتفاعل بطريقة أكثر سواء مما كانت عليه أيام حكومة تصريف الأعمال الطويلة (نحو ستة أشهر). وفي سياق صيغ المجابهة مع الكاظمي، فإن قوى «الفتح» بدأت تركّز على المهمة الوحيدة التي يتوجب على الكاظمي القيام بها، ألا وهي الانتخابات المبكرة.
وفي سياق ما أقدم عليه الكاظمي من عمل جريء، لعله الأكثر جرأة مما فعلته الحكومات السابقة، وما قد يقدم عليه في المستقبل، يقول فرهاد علاء الدين، رئيس «المجلس الاستشاري العراقي» لـ«الشرق الأوسط» معلّقاً «ما قدمه الكاظمي حتى الآن غير محكوم عليه من قبل المراقبين». وتابع وهناك خلافات في وجهات النظر، حيث هناك مَن يرى بأن يكمل على الأقل 100 يوم في المنصب ونرى ما سيكون عليه الأداء خلال هذه الفترة... وهناك فريق آخر يريد أن يحكم بما رأى حتى الآن، ويعتبر الأداء غير ما كان متوقعاً منه».
ووفق علاء الدين «الإجراءات الإدارية والأمنية والمالية، حتى الآن، تبدو غير منضبطة، وربما مُبهمة، وبقدر ما تنطوي على علامات تفاؤل فإنها تنطوي كذلك على علامات تشاؤم».


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.