العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»

الكاظمي أطلق صافرة البداية لمواجهة حامية مع متحدّيه من أتباع إيران

العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»
TT

العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»

العراق... معركة استعادة «هيبة الدولة»

على مدى الأعوام السبعة عشر الماضية، كان الحديث عن هيبة الدولة المفقودة في العراق والعمل على حفظ سيادتها لا يتعدّى «حديث خرافة يا أمّ عمرو» وفق القول الشائع.
هذا كان ولا يزال الحال، بدءاً من الأزمة مع الأميركيين سواءً كانوا «محرّرين» أو «محتلين» منذ لحظة إسقاط تمثال الرئيس السابق صدام حسين عصر 9 أبريل (نيسان) 2003، مروراً بالتدخلات المسلحة على الحدود العراقية من قبل إيران وتركيا، وانتهاءً بالموقف ممن تصف نفسها بـ«محوَر المقاومة» بينما تصنفها كل الحكومات العراقية بوصفها فصائل تملك سلاحاً خارج سيطرة الدولة.

لعل السؤال الذي بقي مطروحاً على مدى سنوات «زحف» سلطة الفصائل المسلحة الموالية لإيران على الدولة ومؤسساتها، الذي أسّس ما يسمى «الدولة العميقة» في العراق هو: من يعلق جرس المواجهة معها؟
كل رؤساء الوزارات العراقية قبل مصطفى الكاظمي، الذي جاء إلى السلطة من خارج الخط الأول من الزعامات الشيعية ومن خارج منظومة الأحزاب الإسلامية (ما عدا رئيس الوزراء الانتقالي إياد علاوي الذي كان مدنياً) تجنبوا خوض مواجهة مفتوحة مع ما يعدّونه «خارجاً عن القانون»، باستثناء ما عُرفت بـ«صولة الفرسان» التي أطلقها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عام 2009 ضد جماعة «التيار الصدري في محافظتي البصرة والعمارة. ويومذاك، حققت «الصولة» نجاحاً لفترة من الزمن قبل أن تستفحل عناصر أخرى وتحت أغطية أخرى.
غير أن الكاظمي، الذي جاء إلى السلطة بمعادلة جديدة، لم يغير ما وضعه من التزامات، أبرزها إنجاز أهم استحقاق ينتظره العراقيون، ألا وهو الانتخابات المبكرة والنزيهة ومعها استعادة هيبة الدولة المفقودة.
المعادلة المقلوبة
لعل أقل ما كان يمكن توقعه من قبل خصوم الكاظمي، وفي مقدمتهم الفصائل المسلحة، فضلاً عن أطراف كثيرة في كتلة «الفتح» التي يتزعمها هادي العامري، هي أن الكاظمي «سيتغاضى» عن استهداف «جماعات الكاتيوشا» (أي الميليشيات) المصالح الأميركية في العراق، سواءً في «المنطقة الخضراء» - حيث السفارة الأميركية - أو مطار بغداد الدولي أو معسكر التاجي، حيث يتمركز أميركيون مع القوات العراقية لأغراض التدريب والتجهيز والتسليح والدعم اللوجيستي.
لكن الكاظمي سارع إلى إجراء حوار وصف بأنه «استراتيجي» مع الأميركيين يفترض أن يستكمل خلال يوليو (تموز) الحالي أو أغسطس (آب) المقبل، رابطاً المسار على جبهة الحوار - بما في ذلك جدوَلة انسحاب القوات الأميركية من البلاد - بوضع حد للسلاح المنفلت.
المفارقة اللافتة هنا، أن الحوار الذي جرى عبر دائرة تلفزيونية مغلقة رافقه إطلاق مكثف ويومي لصواريخ «الكاتيوشا». وبينما كان المطلوب من الكاظمي الاستمرار بهذه المعادلة كي يبقى نصف مرضيّ عنه من قبل هذه الأطراف، فإنه قلب المعادلة حين قرّر البدء بفرض هيبة الدولة عبر ما عُرف بـ«واقعة الدورة» جنوبي بغداد. ومع اختلاف الروايات بشأن الواقعة والمتهمين بها، وما إذا كانوا 1 أم 13، فإن النتيجة بدت متباينة بين قوى الدولة و«اللا دولة». وبينما احتفل المُفرَج عنهم الـ13 لنقص الأدلة، أعلنت الحكومة أن المطلوب كان واحداً لا يزال معتقلاً، وهو الذي اعترف بحيازة أسلحة ومنصّات صواريخ.
غير أن اللافت كان طريقة الاحتفال، بالإمعان في إهانة الدولة. إذ داس المُفرَج عنهم على صور مسؤولين، مع إنهم وفق الوصف الرسمي ينتمون إلى هيئة «الحشد الشعبي» التي تتبع رسمياً رئاسة الوزراء .
الكاظمي يعتقد، على الأرجح، أن ردّات فعل كهذه متوقعة، لا سيما إنه دون غيره من رؤساء الوزارات السابقين يخوض معركة «كسر عظم» تتطلب المزيد من الخسائر بما فيها الشخصية. ولذا عدّل الكاظمي خطة المواجهة التي يبقى الكثير من خيوطها بيده عبر الشخص الذي لايزال معتقلاً، وهو ما يمكن عده صيداً ثميناً في سياق التوجه مستقبلاً إلى أحد أهم مصادر تمويل الجماعات المسلحة، وهي المنافذ الحدودية، بدلاً من غزو المعسكرات التي يتحصن فيها هؤلاء ومعظمها معسكرات مشتركة بينهم وبين «الحشد الشعبي».
الليلة الكبيرة
صباح الخميس 26 يونيو (حزيران) الماضي كان مفعماً بالنشاطات بالنسبة للكاظمي. فبالإضافة إلى لقاء طويل عقده مع مجموعة من الإعلاميين والمحللين السياسيين حضرته «الشرق الأوسط»، أجرى رئيس الحكومة لقاءات عدة مع الفنّانين والأدباء وقبلهم أصحاب المهن الطبية. وكان القاسم المشترك في كل هذه اللقاءات أمران: الأول، التأكيد أن ملء الحقائب الـ22 مضى عليه أسبوعان فقط. والآخر هو ما ينوي عمله خلال الفترة المقبل، بما يوحي أنه سيبدأ مواجهة شاملة تبدأ من الأحزاب وتنتهي بالجماعات المسلحة، وبالعكس. ومما قاله الكاظمي «سنتّخذ في القريب العاجل مجموعة إجراءات لتغيير بعض المواقع الإدارية في الدولة، وسنسمع بعدها حملة تشويه للحكومة؛ لأن هناك مَن سيتضرّر جرّاء هذه التغييرات. ونقول بكلّ صراحة إنه ليس لدينا شيء نخسره، ورهاننا على الإعلاميين والصحافيين وعلى الناس. وإن لم يتركونا نعمل فسنخرج وأيدينا نظيفة... الفساد أخطر من الإرهاب لأنه يساعد الإرهابيين، وستكون لدينا حملة لمتابعة أسباب الفساد وملاحقة الفاسدين».
وحقاً، في منتصف ليل الخميس وفجر الجمعة بدأت مواجهة غير مسبوقة، مع اقتحام قوة من جهاز مكافحة الإرهاب مقراً لـ«كتائب حزب الله» واعتقال مجموعة من عناصرها. بذا استعجل الكاظمي المواجهة رغم عمر حكومته القصير، وهو ما قد يمثل له ورطة بسبب نقص عناصر المواجهة. وهنا يقول محمد الكربولي، القيادي السنّي وعضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي لـ«الشرق الأوسط»، إن «المواجهة مع الفصائل المسلحة والميليشيات الخارجة عن القانون أمر حتمي، لكنه يحتاج إلى وسائل وآليات كي لا تفقد الدولة هيبتها مرتين». وتابع أن «الكاظمي يعتمد حالياً على جهاز واحد قدّم تضحيات جسيمة في مواجهة (داعش) هو جهاز مكافحة الإرهاب».
حسب الكربولي «ليس من الحكمة الآن الزجّ بهذا الجهاز وحده في مواجهة مع الفصائل؛ لأنه لا هو ولا الكاظمي مؤهلان لهذا الدور الآن... وإلا ستفقد الدولة هيبتها مرتين: مرة في مواجهة خاسرة، ومرة في العجز عن تحقيق النصر، وبدلاً من ذلك إحداث شرخ داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية». ثم يستطرد «ينبغي بناء القوات المسلحة بشكل جيد ومتماسك، وتأجيل المواجهة الآن إلى أن تنضج ظروف المواجهة بحيث يكون ولاء القوات الأمنية للدولة تاماً».
وفي الإطار نفسه، يفسر الخبير الاستراتيجي الدكتور هشام الهاشمي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» ما حصل بأنه «بموجب مدرك رئيس الحكومة، فإنه يحاول إنهاء الأزمات الأمنية التي أربكت حلوله الاقتصادية من خلال تمرد خلايا الكاتيوشا وسيطرة الهيئات الاقتصادية على المشاريع والمنافذ الحدودية». ويضيف الهاشمي، أن «الكاظمي، من هذه الزاوية، كان لا بد أن يصل إلى تسوية من خلال القوة الناعمة، لكنها يبدو أنها فشلت، فلجأ إلى فرض القانون عبر تنفيذ مذكرات القبض القضائي».
وفي سياق تبادل الرؤى والأفكار لما حصل وما يُتوقع حصوله، يقول الأكاديمي العراقي الدكتور إحسان الشمّري، رئيس «مركز التفكير السياسي، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إنه «على الرغم مما جرى نتيجة محفّز أمني لأمور واستهدافات كثيرة حصلت في المنطقة الدولية (الخضراء) أو مطار بغداد أو العمليات المشتركة، وكذلك طبيعة مواقف هذه الفصائل من مخرجات الحوار بين بغداد وواشنطن، فإن المواجهة تحمل من جانب آخر بعداً سياسياً يتمثل في أن الكاظمي بدا أكثر ثباتاً في تطبيق منهاجه الوزاري، ولا سيما، على صعيد حصر السلاح بيد الدولة». وأردف الشمّري، أن «الكاظمي كسر قاعدة الحكومات العراقية السابقة لجهة المواجهات مع الفصائل المسلحة أو الجهات الخارجة عن القانون. وبالتالي، فهو يتحرك بعيداً عن الضغوط والإملاءات السياسية».
الشمّري يرى أيضاً، أن ما حصل «سيكون له تداعيات سياسية كبيرة»؛ لأن الكاظمي لا يمتلك كتلة سياسية، «وستكون نسيج عمل سياسي بين هذه المجاميع لتعويق عمل الكاظمي ومساءلته واستقدامه إلى البرلمان وتعطيل خطواته، إلا أن الأهم هو أن هذه الخطوة من الناحية السياسية ستثبّت القناعة عند هذه الفصائل بأن لدى الكاظمي القدرة على الانقلاب على كل التوافقات السابقة بمعنى غض الطرف عن نشاط هذه الفصائل المسلحة». وأشار إلى أن الفصائل «ستعمل على إنهاء خلافاتها وإعادة تموضعها لمواجهة هذا التحدي الجديد، وعليه فإن قدرة الكاظمي على المواجهة تعتمد على أكثر من مسار، كقدرته أولاً على المطاولة، وثانياً دعم القوى السياسية لهذه الخطوات، وثالثاً مسألة التأييد الشعبي له».
عرس بلا «شهر عسل»
كل الحكومات العراقية السابقة بعد 2003، التي تشكلت أو مرّرت داخل قبة البرلمان، كانت حكومة توافقات، فضلاً عن المحاصصة الحزبية والطائفية. ومع أنها كلها باستثناء حكومة عادل عبد المهدي أنهت دوراتها المقرّرة (أربع سنوات)، فإن حكومة مصطفى الكاظمي تبدو «حكومة إجماع اضطراري»، لكن بمهمة واحدة هي إجراء انتخابات مبكرة نزيهة... وفي غضون سنة.
بناءً عليه، قبِل الكاظمي بمهمة «انتحارية». وبالفعل، وصف نفسه بـ«الشهيد الحي». ولئن كانت حكومته الوحيدة بلا «شهر عسل» بعكس كل الحكومات السابقة، فإن تعجّله المواجهة سيجعله في حالة حرب معلنة مع خصومه الذين يُصنَّفون وفقاً لقاموسه كـ«قوى اللادولة»، بينما يتباهون بأنهم «المقاومون» الممنوع التحرش بهم طالما يوجد «احتلال أميركي»، كما يسوّقون في خطابهم المعلن.
هادي العامري، زعيم تحالف «الفتح: هادي العامري»، بدا عقب «واقعة الدورة» غاضباً من الكاظمي. وفي سياق هذا الغضب برّر حضوره حفل تكليف الكاظمي بأنه لغرض تحقيق الإجماع. وأقرّ العامري، الذي يتكلم عادة بصراحة لا يملكها سواه، بأن القبول بالكاظمي كان «اضطرارياً» مع وجود بدائل رُفضت قبله كان يمكن أن تكون مقدمة لشق البيت الشيعي ومفاقمة خلافاته.
ومن جهته، يدرك رئيس الوزراء العراقي أن «حفلة زفافه» القصيرة في «قصر السلام» انتهت عند بوابة القصر ليواجه وحده مصيراً بدا مجهولاً منذ البداية. إذ ثمة أزمة مالية حادة توقفت معها رواتب المتقاعدين قبل الموظفين، وأزمة صحية بدأت تتفاعل بطريقة أكثر سواء مما كانت عليه أيام حكومة تصريف الأعمال الطويلة (نحو ستة أشهر). وفي سياق صيغ المجابهة مع الكاظمي، فإن قوى «الفتح» بدأت تركّز على المهمة الوحيدة التي يتوجب على الكاظمي القيام بها، ألا وهي الانتخابات المبكرة.
وفي سياق ما أقدم عليه الكاظمي من عمل جريء، لعله الأكثر جرأة مما فعلته الحكومات السابقة، وما قد يقدم عليه في المستقبل، يقول فرهاد علاء الدين، رئيس «المجلس الاستشاري العراقي» لـ«الشرق الأوسط» معلّقاً «ما قدمه الكاظمي حتى الآن غير محكوم عليه من قبل المراقبين». وتابع وهناك خلافات في وجهات النظر، حيث هناك مَن يرى بأن يكمل على الأقل 100 يوم في المنصب ونرى ما سيكون عليه الأداء خلال هذه الفترة... وهناك فريق آخر يريد أن يحكم بما رأى حتى الآن، ويعتبر الأداء غير ما كان متوقعاً منه».
ووفق علاء الدين «الإجراءات الإدارية والأمنية والمالية، حتى الآن، تبدو غير منضبطة، وربما مُبهمة، وبقدر ما تنطوي على علامات تفاؤل فإنها تنطوي كذلك على علامات تشاؤم».


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».