أونغاريتي... صداقة مع شاعر مصري تحوّلت بقوة الشعر إلى أسطورة

50 عاماً على رحيل الشاعر الذي ولد وشبّ في الإسكندرية

جوزيبى أونغاريتي
جوزيبى أونغاريتي
TT

أونغاريتي... صداقة مع شاعر مصري تحوّلت بقوة الشعر إلى أسطورة

جوزيبى أونغاريتي
جوزيبى أونغاريتي

إيطاليا لا تريد نسيان الأسماء الثقافية التي نسجت التاريخ الوجداني في حياة الإيطاليين والعالم، وهي تستحضر دائماً آثارهم الأدبية والفكرية من خلال مناسبات تتعلق بذكرى ولادة أو رحيل، مستخدمة منصاتها الثقافية وقنواتها التلفزيونية الثقافية المختصة ومحطات الراديو التابعة للدولة.
وهذا ما حصل بمناسبة مرور 50 عاماً على رحيل الشاعر جوزيبي أونغاريتي، الذي ولد في مدينة الإسكندرية بمصر عام 1888 لأبوين إيطاليين من أصول فلاحية، نزحا من مدينة لوكا، وهي مدينة صغيرة بمقاطعة توسكانا بوسط إيطاليا، إلى مدينة الإسكندرية التي كانت حينها من محطات الهجرة المهمة بالنسبة للإيطاليين، مثل العديد من المدن الأميركية. انضم أبوه لأعمال الحفر ونقل الأتربة في عمليات الحفر بقناة السويس البحرية، وكان عاملاً بسيطاً، وفي العام نفسه تدهورت صحة الأب كثيراً ليتوفى عام 1890. أما الأم فقد تكفلت بعيش العائلة، فقد كانت تملك مخبزاً في حي محرم بك. وفي آخر لقاء تلفزيوني أجرته القناة الرسمية (راي) للدولة، قال أونغاريتي: «لقد تشبعت بأجواء الثقافات العربية والفرنسية واليونانية التي كانت تعيش متزامنة ومتآخية في مدينة الإسكندرية الكوزموبولتية». ومع أنه كان يجيد العربية، إلا أنه كان مولعاً بالآداب الفرنسية تحديداً من خلال متابعاته المستمرة للدوريات الفرنسية، فتعرف على الكتابات والأسماء الفاعلة في حقل الإنتاج الأدبي والشعري الفرنسي بالتحديد، مثل بودلير وملارميه التي تركت أفكاره أثراً حاسماً على اختيارات أونغاريتي الشعرية فيما بعد. ثم تعرف على أفكار وطروحات العديد من الفلاسفة الألمان، على رأسهم فردريك نيتشه.
وفي هذه الأثناء التقى في المدرسة السويسرية بصديق الطفولة والصبا، محمد شهاب، وهو شاعر ومثقف مصري، ليرتبطا بعلاقة صداقة حميمية، وانضما معاً عام 1908 إلى مجموعة من المثقفين، الذين تحلقوا حول الكاتب الإيطالي أنريكو بيّا الذي هاجر إلى مصر من أجل إيجاد فرص للعمل، فاستقر في الإسكندرية هو الآخر، واستأجر بيتاً وملحقاً كورشة عمل، مبنية من الصفيح والخشب يعمل فيها بقطع الأخشاب والأحجار، وحوّل البيت الملحق بالورشة إلى «ثكنة» للقاءات المثقفين والشعراء، وكانوا يلتقون بشكل دوري في بيته للحوار وتبادل الأفكار الجديدة.
في عام 1912 غادر الشاب جوزيبي، الإسكندرية، ليلتحق بصديق طفولته وصباه محمد إبراهيم شهاب، بقصد الدراسة في جامعة السوربون، لدراسة القانون تلبية لطلب والدته، وأثناء سفره إلى مرسيليا، ترسو الباخرة في أحد الموانئ الإيطالية في الجنوب، ليتعرف للمرة الأولى في حياته على إيطاليا. وسرعان ما تحول بعد التحاقه بكلية القانون بجامعة السوربون إلى دراسة الفلسفة، ليتابع محاضرات بروغسن وبيديه، وعدد من أصحاب العقول النيرة من أساتذة السوربون. وبدأ بتحقيق لقاءات بمجاميع المثقفين والفنانين الإيطاليين، فيعرف بشكل مباشر على بيكاسو ومودلياني وبراك وبوتشينو ودي كيريكو وفرناند ليجيه، وارتبط بصداقات عميقة مع الشاعر أبولينير. وفي ليلة من ليالي الصيف، عاد أونغاريتي إلى غرفته بالفندق ليجد صديقه الحميم محمد شهاب قد شنق نفسه بالغرفة المشتركة. لقد وقع نهباً لاكتئاب حاد، وغرق في عزلته، ثم هجر دروس الحقوق في السوربون، مكتفياً بكسب لقمة العيش بوصفه محاسباً، لينتهي بإقدامه على الانتحار في التاسع من سبتمبر (أيلول) عام 1913.
لقد ترك انتحار محمد شهاب تأثيره البالغ على قصائد أونغاريتي، ورثاه في العديد من قصائده:
آه.. أرغب أن أنطفئ مثل
قنديل في تباشير الصباح الأولى
عند السابعة صباحاً
رافقته صحبة صاحبة الفندق
حيث كنّا نقيم في باريس
في 5 شارع لي كارم
في درب باهت يميل للانحدار

ويقول في قصيدة أخرى عن صديقه:
يرقد في مقبرة إيفري
وهي ضاحية تبدو
أنها كفت عن الحياة
في اليوم
الذي انتهى فيه الاحتفال
ووحدي من يعرف
إنه كان حياً يرزق

بعد عودته إلى إيطاليا، شارك بقوة في حملة الاحتجاجات ضد السلطات الإيطالية لمشاركتها في الحرب، فاعتقل لفترة قصيرة، وبدأ مرحلة التفرغ لكتابة الشعر في مدينة ميلانو. شارك أونغاريتي في الحرب العالمية الأولى بوصفه جندياً. وسوف يتذكر سنة 1916 في غمرة الأهوال صديقه الراحل محمد شهاب، ويكتب بتأثير ذلك عدداً من قصائد الرثاء، التي حظيت باستقبال جيد، وترجمت إلى لغات عالمية عدة. ووصفت الباحثة الفرنسية إيزابيل فيولانتي، التي أعدت أطروحة جامعية عن جوزيبي أونغاريتي، رابطة الصداقة بين أونغاريتي ومحمد شهاب بأنها «تحولت بقوة الشعر إلى أسطورة. وعلى الرغم من المظهر التراجيدي لهذه الحكاية، ذهب البعض إلى اعتبارها تمثيلاً للقاء الشرق والغرب».
أفلح أونغاريتي في المقابل في الاستفادة من منفاه، وشرع في الكتابة في البداية باللغة الفرنسية، قبل أن يختار الكتابة باللغة الإيطالية. وسيجعل من صديقه الراحل بطلاً للعديد من قصائده، أبرزها قصيدة «كالومي» التي اشتمل عليها الديوان المخصص لتجربة الحرب:
ما الذي جاء به إلى باريس/ وهو مفتقر إلى العائلة والحب والأصدقاء والأمل؟/ منح شهاب لنفسه هوية فرنسية واسماً فرنسياً/ اختار لنفسه اسم مارسيل/ وقد ألفى نفسه مبعداً ومنفياً ومقصياً/ لكنه لم يكن فرنسياً/ ولم يعد في مقدوره العيش تحت خيمة أسلافه/ وهو يصغي إلى الأغاني الشعبية والقرآن ويتلذذ بطعم القهوة.
ما بين باريس وميلانو وروما، وفي عام 1934 صدرت أول ترجمة لأشعاره باللغة التشيكية، وفي عام 1935 بدأ بكتابة المقاطع الأولى من قصيدته الطويلة «الأرض الموعودة». وفي العام الذي أعقبه أصدرت له دار نشر في روما مجلداً ضم ترجمات لقصائد مختارة من أعمال شعراء فرنسيين وأميركيين وإنجليز، وفي العام نفسه دعته الحكومة الأرجنتينية للمشاركة بمؤتمر نادي القلم، وعرضت عليه جامعة ساوباولو البرازيلية، أن يترأس قسم الدراسات اللغوية الإيطالية، لكنه عاد إلى روما ليدّرس بجامعتها كأستاذ لمادة الأدب الإيطالي المعاصر، وفي الوقت نفسه أصدر ترجمته لأشعار شكسبير.
وفي عام 1947 تم فصله من اتحاد الكتاب الإيطاليين بدعوى دعمه ومساندته للفاشية، وفي عام 1948 أصدر مجلداً بترجماته الشعرية، وألحقه في عام 1949 بكتاب يضم أعماله النثرية تحت عنوان «الفقير في المدينة»، وفي العام نفسه نال جائزة روما للشعر.
وفي عام 1958 نظم له رسمياً احتفال فخم بمناسبة بلوغه السبعين، وأصدرت مجلة الشعر عدداً خاصاً تكريماً له. في عام 1962 انتخب بإجماع الأصوات رئيساً لاتحاد كتاب إيطاليا. وبعد 6 سنوات، مات على نحو مفاجئ في مدينة ميلانو.
ولعل النقطة السوداء في سيرة أونغاريتي تتمثل في ميوله السياسية المحافظة، التي أسفرت عن التحاقه بحزب بينيتو موسوليني، وتوقيعه على عريضة 1925 الخاصة بالمثقفين الإيطاليين الفاشست. وقد ترتب عن ذلك طرده من جامعة روما، التي كان يعمل بها أستاذاً للأدب الإيطالي.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.