السينما السعودية... كخطاب تبليغ جمالي

التحدي الأكبر الذي يواجهها وجود نصوص ذات قيمة موضوعية عالية

مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور
مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور
TT

السينما السعودية... كخطاب تبليغ جمالي

مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور
مشهد من فيلم «بنت المطربة» للمخرجة السينمائية السعودية هيفاء المنصور

السينمائيون ليسوا مجرد صُناع أشرطة صوت - بصرية. إنهم صُناع التوتر الخلاق؛ الذين يجعلوننا نحن المشاهدين نحزن ونفرح ونعيد التفكير في مسلماتنا إزاء الوجود، والذين يوجهون عدساتهم إلى زوايا نتغافل عنها ليبلوروا رؤية متعددة الأبعاد ترقى إلى مستوى سرد المرويات الإنسانية. وهذه المهمة الكبرى بقدر ما تستلزم خبرات ممثلين على درجة من الاحترافية، وأدوات تقنية فائقة الحداثة، تستوجب في المقام الأول وجود نصوص ذات قيمة موضوعية عالية؛ إذ لا يمكن النهوض بفيلم جدير بالمشاهدة من دون نص مقنع.
وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه صناعة السينما السعودية في خطواتها التأسيسية بعد تذليل عقبات التمويل وصالات العرض ومعضلة المحرمات الاجتماعية.
الجمهور هو المعني الأول بتقييم الأفلام وليس المهرجانات التي توزع الجوائز لاعتبارات ليست كلها فنية، وبالتالي يتوجب على صُناع الأفلام في السعودية أن تكون مادتهم السينمائية في متناول الجمهور بالمعنى الإبداعي للكلمة؛ سواء على مستوى الموضوع، وعلى مستوى الأداء الفني. ولذلك أُرجح أن تكون هذه الصناعة في خطواتها الأولى أكثر قرباً من الواقعية الاجتماعية، وأقل احتكاكاً بالأفلام بالسينما التجريبية أو المغامرة بالتصدي للسينما الشعرية، أو التجرؤ على إنتاج أفلام بجرعات فلسفية عالية، ليس من أجل الاستجابة الاستسلامية لإرادة وذائقة الجمهور، ولكن لأن تلك الأنماط الطليعية تحتاج إلى خبرات فنية متقدمة وإلى محيط استقبال لا يمكن أن يتحقق إلا مع دورات من التراكم الفني والموضوعي عند متلقيها ومنتجيها أيضاً.
الواقعية الاجتماعية لا تعني النسخ الآلي للقضايا الاجتماعية، كما شاهدناها في معظم المحاولات الارتجالية التي أرادت أن يكون الفيلم السعودي مجرد صندوق اقتراع للتصويت على حق المرأة في العمل، أو إبداء التعاطف مع ذوي الإعاقة، أو محاكمة لحظة الصحوة... وغيرها من القضايا، بل تدفع إلى التفكير السينمائي فيما وراء تلك الوقائع، وذلك من خلال نصوص درامية تتجاوز مهمة الوصف إلى فاعلية التحليل، لئلا تصل الأفلام السعودية إلى المأزق الذي عانت منه الدراما والرواية السعودية، من خلال رهان كُتابها على استجلاب الموضوعات الوعرة، أو ذات الحساسية الاجتماعية بمعنى أدق، ثم تعويلهم على كثافة الإنتاج وإهمال القيمة النوعية. وهو أمر يخالف أهم قواعد الفن من حيث أنه حالة كيفية لا موضوعية.
لا يُفترض أن تبدأ السينما السعودية من الصفر بعد ذلك الشوط الذي قطعته. وبالمقابل يتحتم على صُناع الأفلام التخلي عن السرديات البصرية ذات الأبنية التقليدية إلى وساعات تعبيرية أرحب، للتأكيد على أن الفيلم ليس مجرد مقالة شخصية لمؤلف ومخرج الفيلم. بمعنى توسيع هامش الخطاب الدرامي للجم فجاجة الأفكار المبددة بشكل مباشر في سياقات الأفلام. وهو أمر يمكن تفاديه بسهولة، من خلال الاتكاء على نصوص قصصية وروائية قابلة للتسريد الدرامي، نصوص متخففة من الشحنات التوجيهية والنبرات الوعظية، وفي الوقت ذاته محقونة بالعبارات الوصفية القابلة للتنضيد في سياق بصري دلالي.
- الزمن والذاكرة
محل التحدي كما أتصوره اليوم بالنسبة للسينمائيين في السعودية يراوح بين الزمن والذاكرة، فهناك فرصة تعبيرية قصوى لعرض مختزنات المكان بإيقاع استرجاعي، والحديث هنا ليس عن إلزام صُناع السينما باعتماد نظريات إرشادية، ولكنها دعوة للاستئناس بما تمليه الواقعية، وتغليب الحرفية على نزوات تجاوز الواقع، بحثاً عن صيغة لا تحد من العبقرية الفردية للعاملين في الحقل السينمائي، وفي الوقت ذاته لا تعطي ظهرها للمنهج وضروراته. فالسينما بالدرجة الأولى لغة محمولة على جماليات، تحتم في المقام الأول المواءمة بين الإنتاج الاحترافي وإمكانية استقبالها جماهيرياً. بمعنى أن السينما السعودية وهي تحفر في الذاكرة وتعرض لوحة الزمن الآني، بقدر ما تحتاج إلى تفعيل جمالياتها الداخلية، تحتاج إلى قراءة ارتداداتها الاجتماعية خارج صيرورة الفيلم.
السينما السعودية وهي تنشط بوصفها خطاب تبليغ جمالياً إلى جانب عدد من الخطابات الثقافية، لا يلزمها توليد نظرية خاصة بها، فهي معنية ككل الاشتغالات والنظريات السينمائية بالمادة الخام للحياة بوصفها موضوعات، وبكفاءة المنهج الأدائي بما يحتويه من تقنيات، وكذلك بالشكل التعبيري المناسب لحضورها في لحظة التحول الكبرى هذه، وأيضاً بمفهوم القيمة أو الغرض المحرك لها. وهذه المتوالية هي جوهر أي عملية سينمائية. ولذلك يبدو الواقع هو البعد الأهم ليصبح الجمهور مشاركاً في لحظة توطين الممارسة السينمائية، بالنظر إلى أن الواقعية الاجتماعية هي اللغة المفهومة للمتلقي، ليس بمعنى تنميط الأداء السينمائي وفق إرادات جمعية كرؤية مكرسة، ولكن كأداءات فردية ببصمات شخصية.
- قصور الآليات
إن النسخ الآلي للواقع كما نلاحظه في عدد من الأفلام السعودية يقتل الأثر التعبيري للفيلم، وبالتالي يحد من جمالياته، وهو قصور فني يعكس تواضع آليات بناء تلك الأفلام، بحيث يبدو بعضها كأنه بمختزناته الوعظية التعليمية مجرد امتداد لما يقال على منابر المساجد. بالنظر إلى اعتمادها على التصريح بالفكرة أو قولها بلغة مباشرة بدل عرضها، خلافاً لما تقتضيه الممارسة السينمائية. وهذا هو الشكل الأبسط للواقعية بوصفها نظرية على درجة من المراوغة والاتساع، حيث الانجذاب إلى الشكل واستجماع عناصر الواقع المادي، مع عجز واضح عن التقاط روح المرئي وطيات المضمون. بمعنى المحاكاة السطحية للواقع، لا مناقضته بصيغ مضادة. فالقصة الحقيقية الموجودة أصلاً في الواقع ينبغي اكتشافها لا اختلاق قصة مدبرة موازية لها.
هذا ما يُفترض أن تؤديه الأفلام السعودية في هذه المرحلة، أي أن تكون وسيطاً بيننا نحن المتلقين وبين الواقع، أي الرهان على المعنى الضمني، والانتباه إلى الأثر النفسي الذي لا يقل أهمية عن الأثر الجمالي. وهذا يحتم بالضرورة وعي الفارق ما بين القوالب التعبيرية والشكلانية، بما تختزنه الأولى من طاقة رومانسية وما تراهن عليه الثانية بقوة وتفصيلية العناصر، وهي نظريات معروفة لخلق جدلية من خلال اللعب بالمونتاج وغيره من أركان الممارسة السينمائية، المتمثلة في سحرية اللقطات، التي يمكن عبرها توليد التوتر الخلاق، بحيث تمتزج المفاهيم المراد إيصالها مع البناء السينمائي. وهذا هو ما يمكن أن يحد من سطوة المواقف الذهنية في الأفلام السعودية ذات الطابع الاجتماعي. بمعنى مجابهة الواقع بمرشحات فنية لتضفي عليه بعض الغموض الجاذب.
كل ذلك يقود إلى مفهوم لغة السينما، أي التعبير بما وراء الصورة لا صراحة الصور، حيث تمكنت الأفلام السعودية من التعامل مع معظم المسائل التقنية المتعلقة بإنتاج شريط بصري مؤانس، تتبدى فيه قدرات المصورين والمخرجين على ترتيب الصور في متوالية سردية، إلا إنها ما زالت، في إطار الواقعية الاجتماعية، بعيدة عن تقنيات المونتاج الجدلي؛ إذ يظهر صوت المؤلف أو المخرج بقوة أكبر مما تؤديه الصورة، وهو الأمر الذي يُبقي على الأفلام في محل الواقعية المادية التي تغترف من الواقع بشكل مباشر، ولا يدفع بها نحو واقعية ذات مغزى ثقافي مزدحم بالشفرات. وهكذا تظهر معظم تلك الأفلام كأنها تمثل الواقع ولا تستكشفه، وبذلك يغيب ذلك التوتر الخلاق الذي يشكل جوهر الفعل السينمائي.
- ناقد سعودي


مقالات ذات صلة

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

يوميات الشرق بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

في خطوة عدّها الاتحاد الأوروبي «علامة فارقة في الشراكة الثقافية مع ليبيا»، يواصل مهرجان للأفلام الأوروبية عرض الأعمال المشاركة في العاصمة طرابلس حتى الخميس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق تجسّد لبنى في «خريف القلب» شخصية السيدة الثرية فرح التي تقع في ورطة تغيّر حياتها

لبنى عبد العزيز: شخصية «فرح» تنحاز لسيدات كُثر في مجتمعنا السعودي

من النادر أن يتعاطف الجمهور مع أدوار المرأة الشريرة والمتسلطة، بيد أن الممثلة السعودية لبنى عبد العزيز استطاعت كسب هذه الجولة

إيمان الخطاف (الدمام)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!