«التهذيب السياسي» يطال شخصيات سيمبسون ومطار جون واين

وافق، قبل يومين، مجلس الحزب الديمقراطي في مقاطعة أورانج كاونتي، المنتمية جغرافياً لمدينة لوس أنجليس الكبرى، على تغيير اسم مطار محلي تبعاً لما تمر به الولايات المتحدة من ظروف في الوقت الحاضر.
في أحد ضواحي المدينة ما بعد منطقة سانتا مونيكا وبالموازاة مع منطقة فنيس، يكمن مطار مدني صغير اسمه مطار جون واين. الآن - وتبعاً لهذا القرار - سيُغيّر الاسم إلى «أورانج كاونتي إيربورت».
إنه الاسم الأول للمطار قبل أن يُطلق عليه، في الستينات، اسم الممثل المعروف الراحل عام 1979. جون واين كان من الذين اعتبروا أن أميركا، في المقامين الأول والأخير، مجتمعاً للبيض أساساً. في الأفلام حارب بقوة المواطنين الأصليين (الهنود الحمر) والأعداء اليابانيين وانقلب على الصينيين وخاض، محلياً، الحرب تحت جناح المكارثية ثم لاحقاً (1968) مما أنتج وقاد بطولة فيلم يبرر الحرب الڤيتنامية («الخوذات الخضر»).
في مقابلة تمت معه قبل ثماني سنوات من وفاته على صفحات مجلة «بلايبوي» قال: «بوجود سود كُثُر هناك قدر من الاستياء (بين البيض) ولا نستطيع أن نقبل فجأة بأن تؤول البلاد للسود».
يبدو الكلام معقولاً إلى أن يصل إلى أوجّه: «أؤمن بالتفوق الأبيض إلى أن يستطيع السود تحمل المسؤولية». ويضيف: «لا أعتقد أننا أخطأنا عندما أخذنا هذه البلاد العظيمة من الهنود الذين كانوا يريدون الاحتفاظ بها على نحو أناني!».
تعديلات لونية
بحذف اسم جون واين عن صرح تقليدي، تكون الولايات المتحدة خطت خطوات أخرى لتعديل وضع يمكن من خلاله إرضاء أطراف وعناصر المجتمع الأميركي.
الاحتجاجات لم تتوقف مؤخراً من تلك التي طالبت بنصيب مساواة فعلي بين الجنسين (حركة «مي تو») إلى احتجاجات إسلامية ولاتينية وآسيوية حيال الصور النمطية التي وفرتها أفلام هوليوود، إلى مقتل جورج فلويد وما تركه من أثر كبير على التركيبة الثقافية والصناعية بأسرها.
في هذا الإطار الأخير تعالت نداءات تطالب بوجود أفرو - أميركيين أكثر في مصادر القرار في شركات الإنتاج الكبرى (معظم إداراتها كانت تخلو من أي شخص غير أبيض البشرة) والمحطات التلفزيونية. مطالبات بفتح الأبواب على شكل واسع أمام «الملوّنين» جميعاً. وفي اليوم الذي أُعلن عن تغيير اسم ذلك المطار أعلن صانعو حلقات «سيمبسون» الكرتونية أنهم سيجرون تعديلاً على الشخصيات ذات البشرة السوداء في تلك الحلقات لكي يتخلص المسلسل من صوره النمطية.
ليس هناك رد بعد على ماذا كان ينتظره أهل المهنة لكي يقوموا بتلك التعديلات من الأساس؟ وعلى ما هي الأسباب الفعلية للصور النمطية أساساً ولماذا لم تتوقف عن الورود مع الحركات المعادية للعنصرية في الستينات مثلاً؟
تبعاً لعوامل وظروف حالية، سياسية واجتماعية واقتصادية وحتى صحية، تغيرت الأحوال كثيراً عما كانت عليه سابقاً. جمهور اليوم بات أكثر انتقاداً لما تفرزه الإنتاجات السينمائية والتلفزيونية من صور نمطية. وما كان يمر من باب الترفيه والتسلية جله من صنع سينمائيين بيض صار موضع تساؤل وصولاً إلى موضع نقد ورفض.
لكن الصور النمطية لم تكن وليدة الرغبة في الأذى دوماً. نعم فيلم وورد ديفيد غريفيث «مولد أمة» كان من بين تلك الأعمال الأولى التي قدمت الأفرو - أميركيين بصورة تعزز التنميط وتؤيد النوازع العنصرية تجاههم. وخلال العقود الأولى من السينما لم تتكرر هذه الصورة النمطية وحدها، بل مالت هوليوود لاعتبار المواطنين الأصليين خالين الوفاض من أي سبب لمقاومة انتشار البيض في أراضيهم. المخرج جون فورد صنع العديد من الأفلام التي قدمت «الهندي الأحمر» كرجل خال من العاطفة الإنسانية. قاتل بالفطرة وجانح لحياة ومعتقدات بدائية. أفلامه، كثير منها مع جون واين، وأفلام عديدين سواه لم تنظر إلى الجانب الآخر من الصورة لكي تمنح المشاهد فرصة للشك بأن إبادة الهنود الحمر كان الحل الذي اعتمد لبسط السُلطة إلّا على من جنح منهم للسلام طوعاً أو غصباً.
لكن في سياق كل ذلك، وإلى جانب أن هناك عدداً لا بأس به من الأفلام التي خالفت هذه النظرة العنصرية تجاه السود والهنود، فإن الأفلام المعنية انطلقت من خلال ضرورات درامية تفرض على الأفلام أن تحتوي على أشرار.
فحيال كل فيلم يتحدث عن بطل ما كان لا بد من شرير يوازيه. المسألة المعقدة هنا هي أن معظم الأفلام بأنواعها المتعددة (خيال علمي، وسترن، حربي، أكشن، تاريخي) تحتاج لهذا المنوال. وفي العديد من الحالات كان على الشرير أن يكون من ثقافة أخرى ومن شعب بعيد عن حضارة الغربي. في هذا الصدد شاهدنا مئات الأفلام التي تصور العرب والصينيين واليابانيين والألمان والفرنسيين والإيطاليين والروس في صور نمطية متعددة. كلها سلبية لمجرد أن الفيلم لم يشأ أن يعرض أسباباً لحالة ما توفر بديلاً للتقليد السائد.
بذلك كان من الهين على صانعي الأفلام تصوير أصحاب القارة من المواطنين الأصليين كمحاربين أشرار يقتلون البيض بلا تفريق ويحرقون منازلهم ويهاجمون ثكنات الجيش على تصويرهم مضطهدين من قِبل البيض وسياسة التوسع ومصادرة الأراضي بحثاً عن الذهب والفضّة.
وكان من الأهون تصوير العرب أصحاب بطون نافرة وعيون جاحظة يعملون في تجارة الرقيق وبيع الحريم ويمتازون بقدر كبير من ميزة الغدر والحقد. حملة خناجر يطعنون بها من الخلف وأصحاب تحالفات تحولهم إلى متقاتلين دائمين فيما بينهم أو متحالفين مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية أو شعوب صحراوية تقاتل «الأجانب» بلا دوافع مفهومة.
تنميط الأشخاص
في النطاق ذاته، كان من الهين كذلك تصوير الروس سابقاً كأعداء حتميين ثم، مع انهيار الشيوعية وإلى اليوم، كرجال يلبسون الأساور الذهبية ويملكون الثروات ويديرون المافيات التي تقتل وتنسف وتقود عصابات المخدرات. اللاتينيون كتجار مخدرات عنيفون والفرنسيون والإيطاليون كنماذج للجبن والاتكالية على الآخرين لردح الهيمنة الفاشية والنازية عن بلادهم.
أما السود فكانوا على واحد من ثلاثة أنواع من التنميط: هم إما ضعفاء وأغبياء وإما سعداء بأنهم يخدمون في منازل ومزارع البيض، وإما كقوة خطرة على الحياة الاجتماعية السليمة.
طرزان هو باب مستقل بحد ذاته: هو الأبيض المنفرد الذي يقهر السود ويملك سطوة يهابها الجميع (من حيوانات وبشر). والتنميط أعلاه التي تقسم السود إلى أقوياء وضعفاء تتوفر في أفلام طرزان خلال العقود السابقة جيداً: الضعفاء هم الذين يحملون مؤونة البيض في الأدغال ثم يصيبهم الهلع فيفرون معتقدين أنّ هناك أرواحاً مخيفة تحيط بهم أو أنهم دخلوا أراضي قبيلة متوحشة. الأقوياء، هم أفراد القبيلة المتوحشة.
بدورها نالت المرأة نصيبها من التنميط: هي محدودة الثقافة (مارلين مونرو في «غابة أسفلتية» لجون هيوستون) وعاشقة مسكينة (دوروثي تري في الفيلم نفسه وكولين غراي في «القتل» لستانلي كوبريك). وهي راقصة ستربتيز لا طموح لديها أو مخادعة تؤلب رجالها لارتكاب الجريمة ثم تسعى لقتلهم حتى تنفرد بها («من الماضي» لجاك تورنور) وتستحق الضرب على قفاها (كما في True Grit لهنري هاذاواي).
سهولة اعتماد هذه الحلول تكمن في أن المُشاهد كان مستعداً لقبول التنميط كجزء من المشهد العام وضرورة ملحة لتجسيد المخاطر. كان لا يمانع في مشاهدة أبناء العناصر الأخرى في صورة نمطية غير صحيحة طالما أنّ ذلك جزء من الترفيه.
ما لم يكن سهلاً هو الجواب على السؤال التالي: لماذا على الأشرار أن يكونوا نمطيين؟ لماذا لا يمكن منحهم كثافة تشابه تلك التي عند الأشرار البيض عادة. أصحاب قضايا وربما لديهم جانب إيجابي أو - على الأقل - ثقافة أو قضية يؤمنون بها ويريد الفيلم كشف النقاب عنها؟ ثم لماذا عليهم أن يبدوا كما لو كانوا النموذج الشامل لكل الشعوب التي جاءوا منها؟
وفي الوقت الذي علينا أن نكون فيه، كمثقفين، ضد كل تنميط لأي شخص كان، فإن ملاحظة أن الصورة السلبية لليهود ليست موجودة إلا في الأفلام النازية (وبعض الأوروبية القديمة). السبب في ذلك واضح كون مفاتيح الصناعة ليست في أيدي سواهم أساساً. على ذلك هناك تنميط معتاد كتقديمهم بشراً فوق مستوى الآخرين أو ضحايا لعنصرية بائدة. هنا، ما يُقصد به خيراً ينقلب معاكساً حال طرحه على هذا النحو المبسّط وحده وبسبب من تكرار منواله دائماً.
مع تكرار كل هذه الصور كان لزاماً على الناقد أن يفصل بين أفلام تُصنع بغاية بيع الصورة النمطية لجمهور يحبّذها من باب الترفيه وبين أخرى تضيف فوق هذا التنميط القصد للأذى. أفلام مثل «بروتوكول» لهربرت روس و«قواعد التشابك» لويليام فريدكن و«جوهرة النيل» للويس تيغ و«علاء الدين» (نسخة 1992) التي تبقى نموذجاً قائماً بذاته إذ أفرغ الحكاية الفانتازية من كل ما يمكن أن توفره من خيال عاطفي صالح للتداول إلى نتاج سياسي ممنهج وواحد استبعد أي صورة إيجابية من كل ما هو عربي أو إسلامي من علاء الدين ذاته نزولاً إلى الشعب الذي انتمى إليه.
في مقابل هذا المنهج السياسي (في مفاداته وخلاصاته) غابت وجهة النظر السياسية عن الأفلام حين تأتي على الحديث عن الآخر. وكمثال واضح وموجز، نجد أنّ الأفلام التي تناولت المغامرات الصحراوية في المغرب العربي (أيام الاحتلال الفرنسي وقبل الثورة الجزائرية تحديداً) خلت من التعرض للأسباب التي كان فيها الثوّار المسلمون يهاجمون عساكر «الفيلق الأجنبي» (The Foregin Legeon) مما جعل المسلمين يبدون بلا قضية وبعيدين عن الرغبة في تحرير الأرض، بل مجرد قبائل دموية تتشابه والهنود الحمر في بدائيتها وحروبها غير المبررة.
على أن هوليوود اجتازت مرحلة الرغبة في توفير الصورة المنفردة للشعوب والأقوام الأخرى وقامت بتغييرات عديدة في هذا السياق وإن كان العديد منا يفضل إغفالها.
الهندي الأحمر في «السهم المكسور» لدلمز ديڤز (1950) و«الرقص مع الذئاب» (كَڤن كونور، 1990) طرفاً التغيير الذي ساد وما زال. العربي في «المحارب الثالث عشر» (جون مكتيرنن، 1999) وفي «مملكة السماء» (ريدلي سكوت، 2005) كانا نقطتين بارزتين لأفلام سبقتهما وأخرى تلتهما… وبنجاح نقدي وتجاري.
مسؤوليتنا لا يمكن التقليل من شأنها. هذه الصورة النمطية لم يكن لها موجبات فعلية أصلاً، بل استفادت منها بقصد الأذى أو لمجرد الترفيه.