إرث عسكري وإداري ثقيل ينتظر وزير الدفاع الأميركي المقبل

الانسحاب من أفغانستان والمعركة الجديدة ضد «داعش» يطرحان تساؤلات متضاربة لدى محاربي «البنتاغون»

مقر وزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن (أ.ف.ب)
مقر وزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن (أ.ف.ب)
TT

إرث عسكري وإداري ثقيل ينتظر وزير الدفاع الأميركي المقبل

مقر وزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن (أ.ف.ب)
مقر وزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن (أ.ف.ب)

ربما يكون الرئيس الأميركي باراك أوباما قد اختار وزيرا جديدا للدفاع، إلا أن هناك أمرا شائكا قديما لا يزال قائما؛ يتعلق بالطرق التي يتعين على القائد العام للقوات أن يتلمسها لإلهام الرجال والنساء الذين يرسلهم لميادين القتال، وهو الذي تعهد علانية بإنهاء حربين كانت الولايات المتحدة متورطة فيهما.
كانت لدى أوباما علاقات شائكة مع الجيش ومع وزراء دفاعه السابقين، الذين كثيرا ما شككوا بشغفه والتزامه حيال المهمة العسكرية لبلاده. ويمكن لتلك الشكوك أن تنمو، مع تزايد تساؤلات القوات إزاء السنوات الـ12 الماضية من القتال، في ظل النتائج غير الواضحة لحربي أفغانستان والعراق. ويقول مايك برين، وهو أحد المحاربين القدامى في العراق وأفغانستان والمدير التنفيذي الحالي لمشروع ترومان للأمن القومي ذي التوجهات اليسارية «إن الجيش والمحاربين القدامى يتطلعون ناحية الرئيس بحثا عما يبرر التضحيات التي قدموها. ويتساءلون: في أي شيء إذن قضيت العقد الأخير من عمري؟ إنهم ينتظرون إجابة من الرئيس، سواء كانت منصفة أو غير منصفة».
قد لا تتوافر لدى أشتون كارتر، المرشح المحتمل لشغل منصب وزير الدفاع، الإجابات عن تلك التساؤلات. وعلى الرغم من أن كارتر قضى معظم حياته المهنية داخل الحظيرة العسكرية وفي وزارة الدفاع الأميركية، فإنه يوصف بأنه تكنوقراطي حاد الذكاء ويملك معرفة عميقة ببرامج الأسلحة لدى وزارة الدفاع وشؤون الميزانية. بسبب تركيزه اليومي على البيروقراطية الروتينية العسكرية في واشنطن، فإنه لم يكن من كبار مخططي الاستراتيجيات الحربية للإدارة الأميركية في العراق وأفغانستان. وعلى العكس من كثير ممن سبقوه في المنصب، لم يخدم كارتر في الجيش أو قاد القوات يوما في القتال.
وبات مرجحا الآن أن يتولى الرجل مهامه في وقت من أصعب الأوقات التي يمر بها الجيش الأميركي، وهو يتعامل مع تخفيضات حادة في الميزانية، ونتائج غير مؤكدة للحرب في أفغانستان، والمهام في العراق وسوريا التي يقول مسؤولون بوزارة الدفاع إنها قد تمتد لسنوات مقبلة.
يُرجح لكل تلك القضايا أن تُعمق من التوترات الموجودة أصلا. فقد حاول البيت الأبيض التقليل من قيمة التقارير القاسية الصادرة مؤخرا، إذ ذكر المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض جوش إرنست قائلا «هناك دائما قدر من التوتر الطبيعي بين وزارة الدفاع والبيت الأبيض».
يمكن للرئيس أيضا أن يشير لبعض الإنجازات المهمة بالنيابة عن القوات الأميركية، مثل زيادة الرواتب ومجموعة واسعة من المزايا المتوافرة للمحاربين القدامى. وبالنسبة للحرب ضد تنظيم القاعدة وغيره من الجماعات الإرهابية، استخدم الرئيس أوباما الطائرات من دون طيار للقيام بعمليات أكثر من التي نفذها سلفه جورج بوش في أماكن مثل باكستان واليمن والصومال. ويقول فيليب كارتر، وهو زميل بارز لدى مركز الأمن الأميركي الجديد «إن هذه الإدارة ترص الإرهابيين مثل الأسقف الخشبية المتراصة».
ليس لذلك النوع من الالتماسات، على الرغم من كل شيء، صداه لدى الجنود وكبار الضباط الذي شاركوا في جولات متعددة من الحرب في العراق وأفغانستان ويملكون رابطة عاطفية عميقة حيال تلك الصراعات. ويقول الجنرال المتقاعد ديفيد بارنو، الذي قاد القوات الأميركية في أفغانستان «يساور البعض داخل الجيش قلق شديد من احتمال أن كلتا الحربين باتت على أعتاب فقدان الهدف أو ضياع المسار».
لقد شارك العديد من الجنود والضباط المحترفين في جولات متعددة في العراق وأفغانستان. ولفترة طويلة من العقد الماضي، عاش هؤلاء الرجال مع عائلاتهم ما وصفها أحد أساتذة كلية «ويست بوينت» العسكرية بكونها «الأرض المحرمة»، وهي منطقة مبهمة بين الحرب والسلام. لقد عادوا إلى الوطن حاملين قطعا تذكارية حجرية تحمل أسماء رفاقهم الذين سقطوا في ميدان القتال، وظلوا على تواصل مستمر مع أرامل الحرب وأطفالها.
كان متوقعا من وزير الدفاع الذي أعلن استقالته مؤخرا تشاك هيغل أن يكون من ذلك النوع من القادة الذين ينتقلون بسلاسة من حالة الحرب إلى حالة السلام. فهو المقاتل القديم في فيتنام والمحلى بالميداليات العسكرية، والذي يتفهم صدمة الاستمرار في حرب خاسرة، وكذلك أدبيات قيادة وإلهام الجنود في القتال. وبوصفه سيناتورا جمهوريا سابقا عن ولاية نبراسكا، كانت لهيغل علاقاته الوثيقة داخل الكابيتول هيل. غير أنه واجه صعوبة في اختراق الدائرة الداخلية للرئيس أوباما، ووجهت إليه انتقادات من قبل كبار مسؤولي الإدارة إزاء عدم قدرته على التعبير بوضوح عن سياسات الرئيس.
أما بالنسبة لكارتر فقد اختاره الرئيس على ما يبدو لكونه يتمتع بقدر أكبر من الدراية بالشؤون الداخلية لوزارة الدفاع، وهو شخص ينبغي أن يساعد على تسيير بيروقراطية واشنطن الضخمة بصورة أكثر كفاءة. وعلى الرغم من عدم خدمته في الجيش، فإن لكارتر علاقات وثيقة مع العديد من كبار قادة المؤسسة العسكرية على مدى عقود. ومن المرجح أن يُنظر إليه باعتباره مدافعا بشكل أكبر عن المؤسسة العسكرية داخل البيت الأبيض مقارنة بهيغل، الذي انتقده بعض من كبار المسؤولين الدفاعيين بأنه كان على غير استعداد، في بعض الأوقات، ويفتقر إلى المعرفة العميقة بالقضايا التي تواجه المؤسسة العسكرية مثل أسلافه. ومن شأن اختيار كارتر للمنصب، على الرغم من كل شيء، ألا يتعامل مع بعض التصورات الموجودة لدى بعض كبار القادة العسكريين، والذين يفتقد الرئيس للإحساس بمهامهم العسكرية.
في أفغانستان، حدد الرئيس أوباما أولوية قصوى تتعلق بخفض عدد القوات الأميركية الموجودة في ذلك البلد، أثناء العامين المتبقيين من ولايته الثانية. أما الجداول الزمنية، والمفروضة إلى حد كبير من قبل البيت الأبيض، فتهدف إلى الحد من طموح جنرالات الجيش الأميركي وإضفاء لمحة طيبة على وعوده المتكررة بإنهاء أطول صراع شهده التاريخ الأميركي. ويقول مسؤولو البيت الأبيض إن خفض عدد القوات يعكس اهتمام الرئيس بالقوات وأسرهم. وصرح أحد المسؤولين بالبيت الأبيض، متحدثا شريطة عدم الكشف عن هويته، بأن «أحد أقسى القرارات التي يتخذها الرئيس هو قرار إرسال القوات إلى طريق الأضرار والأذى. لم يتحمل أحد تلك المسؤولية أفضل من الرئيس أوباما».
وفي العراق وسوريا، حيث تستمر المروحيات العسكرية الأميركية في ضرب مواقع تنظيم «داعش» ويعمل الجنود الأميركيون على تقديم استشارات للقوات العراقية، تلقت تلك القوات من الرئيس الأميركي تكليفا بعد الانخراط في القتال البري. وخلال رحلة أخيرة إلى العراق، طرح على رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي سؤال من أحد الجنود حول سبب عدم انخراط القوات الأميركية الموجودة في العراق في مهام قتالية فكان رده «إن سبب ذلك يكمن في تقييد أنفسنا برابط السياسة». وقد تعهد الجنرال ديمبسي بمعالجة تلك المشكلة، لكن بالنسبة لبعض أعضاء المؤسسة العسكرية فإن إصرار البيت الأبيض على الإشارة إلى القوات الأميركية في العراق بأنها قوات غير قتالية يعكس لهجة صماء للثقافة العسكرية وترددا من الرئيس أوباما في الاعتراف بأن الولايات المتحدة في موقف خلفي أمام عدو يملك عزيمة وتصميما. ويقول الجنرال المتقاعد بارنو «إن عدم وصف القوات بالقتالية يحط من قدر المخاطر التي تقترب تلك القوات من مواجهتها حاليا. بالنسبة للعديد من الرفقاء العسكريين فإن الوصف الذي ينالونه يشكل فارقا كبيرا - خصوصا إذا كانت حياتك هناك على المحك، حيث إنك تخاطر بكسر إيمان الناس بك إذا تجاهلت ذلك».

* خدمة «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»



رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية
TT

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

هل عادت رياح اليسار تهب من جديد على أميركا اللاتينية بعد موجة الانتصارات الأخيرة التي حصدتها القوى والأحزاب التقدمية في الانتخابات العامة والرئاسية؟
من المكسيك إلى الأرجنتين، ومن تشيلي إلى هندوراس والبيرو، ومؤخراً كولومبيا، خمسة من أقوى الاقتصادات في أميركا اللاتينية أصبحت بيد هذه الأحزاب، فيما تتجه كل الأنظار إلى البرازيل حيث ترجح الاستطلاعات الأولى فوز الرئيس الأسبق لولا دي سيلفا في انتخابات الرئاسة المقبلة، وإقفال الدائرة اليسارية في هذه المنطقة التي تتعاقب عليها منذ عقود شتى أنظمة الاستبداد العسكري والمدني، التي شهدت أبشع الديكتاتوريات اليسارية واليمينية.
بعض هذه الدول عاد إلى حكم اليسار، مثل الأرجنتين وهندوراس وبوليفيا، بعد أن جنح إلى الاعتدال، ودول أخرى لم تكن تتصور أنها ستقع يوماً في قبضة القوى التقدمية، مثل تشيلي وكولومبيا، فيما دول مثل المكسيك وبيرو ترفع لواء اليسار لكن اقتصادها يحتكم إلى أرسخ القواعد الليبرالية.
هذه الموجة تعيد إلى الأذهان تلك التي شهدتها المنطقة مطلع هذا القرن مع صعود هوغو تشافيز في فنزويلا، وتحت الظل الأبدي الوارف لفيديل كاسترو، فيما أطلق عليه يومها «اشتراكية القرن الحادي والعشرين». ومن المفارقة أن الدوافع التي كانت وراء ظهور هذه الموجة، نجدها غالباً في تمايزها عن تلك الموجة السابقة التي كان لارتفاع أسعار المواد الأولية والصادرات النفطية الدور الأساسي في صمودها. فيما محرك التغيير اليوم يتغذى من تدهور الوضع الاجتماعي الذي فجر احتجاجات عام 2019 وتفاقم مع ظهور جائحة «كوفيد». يضاف إلى ذلك أن تطرف القوى اليمينية، كما حصل في الأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو، أضفى على الأحزاب اليسارية هالة من الاعتدال ساعدت على استقطاب قوى الوسط وتطمين المراكز الاقتصادية.
ومن أوجه التباين الأخرى بين الموجتين، أنه لم يعد أي من زعماء الموجة الأولى تقريباً على قيد الحياة، وأن القيادات الجديدة تتميز ببراغماتية ساعدت على توسيع دائرة التحالفات الانتخابية نحو قوى الوسط والاعتدال كما حصل مؤخراً في تشيلي وكولومبيا.
حتى لولا في البرازيل بحث عن حليفه الانتخابي في وسط المشهد السياسي واختار كمرشح لمنصب نائب الرئيس جيرالدو آلكمين، أحد زعماء اليمين المعتدل، الذي سبق أن هزمه في انتخابات عام 2006.
ولى زمن زعماء اليسار التاريخيين مثل الأخوين كاسترو في كوبا، وتشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، الذين اعتنقوا أصفى المبادئ الاشتراكية وحاولوا تطويعها مع مقتضيات الظروف المحلية، وجاء عهد قيادات جديدة تحرص على احترام الإطار الدستوري للأنظمة الديمقراطية، وتمتنع عن تجديد الولاية، وتلتزم الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة.
لكن مع ذلك لا يستقيم الحديث عن كيان واحد مشترك تنضوي تحته كل القوى التقدمية الحاكمة حالياً في أميركا اللاتينية، إذ إن أوجه التباين بين طروحاتها الاقتصادية والاجتماعية تزيد عن القواسم المشتركة بينها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول طبيعة العلاقات التي ستقيمها هذه القوى التقدمية مع محيطها، وأيضاً مع بقية دول العالم.
وتشير الدلائل الأولى إلى ظهور توتر يتنامى بين رؤية القوى التقدمية الواقعية والمتعددة الأطراف للعلاقات الدولية، والمنظور الجيوستراتيجي للمحور البوليفاري. ومن المرجح أن يشتد في حال فوز لولا في البرازيل، نظراً لتمايز نهجه الدبلوماسي عن خط كوبا وفنزويلا، في الحكم كما في المعارضة.
ويلاحظ أن جميع القوى اليسارية الحاكمة اليوم في أميركا اللاتينية، وخلافاً لتلك التي حكمت خلال الموجة السابقة، تعتمد أسلوباً دفاعياً يهدف إلى صون، أو إحداث، تغييرات معتدلة من موقع السلطة وليس من خلال التعبئة الاجتماعية التي كانت أسلوب الأنظمة اليسارية السابقة، أو البوليفارية التي ما زالت إلى اليوم في الحكم. ولا شك في أن من الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى اعتماد هذا الأسلوب الدفاعي، أن القوى اليسارية والتقدمية الحاكمة غير قادرة على ممارسة الهيمنة السياسية والآيديولوجية في بلدانها، وهي تواجه صعوبات كبيرة في تنفيذ برامج تغييرية، أو حتى في الحفاظ على تماسكها الداخلي.
ويتبدى من التحركات والمواقف الأولى التي اتخذتها هذه الحكومات من بعض الأزمات والملفات الإقليمية الشائكة، أن العلاقات مع كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا ستكون مصدراً دائماً للتوتر. ومن الأمثلة على ذلك أن الرئيس الكولومبي الجديد غوستافو بيترو، ونظيره التشيلي، اللذين كانا لأشهر قليلة خلت يؤيدان النظام الفنزويلي، اضطرا مؤخراً لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها نظام نيكولاس مادورو، علماً بأن ملايين الفنزويليين لجأوا في السنوات الأخيرة إلى كولومبيا وتشيلي.
وفي انتظار نتائج الانتخابات البرازيلية المقبلة، وبعد تراجع أسهم المكسيكي مانويل لوبيز لوبرادور والتشيلي بوريتش لقيادة الجبهة التقدمية الجديدة في أميركا اللاتينية، برزت مؤخراً صورة الرئيس الكولومبي المنتخب الذي يتولى مهامه الأحد المقبل، والذي كان وضع برنامجه الانتخابي حول محاور رئيسية ثلاثة تمهد لهذا الدور، وهي: الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وتغير المناخ، والدور المركزي لمنطقة الكاريبي والسكان المتحدرين من أصول أفريقية، والميثاق الإقليمي الجديد الذي لا يقوم على التسليم بريادة الولايات المتحدة في المنطقة لكن يعترف بدورها الأساسي فيها.