التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

الشعب أمام خياري «الاستقرار السياسي» أو «فوضى البحث عن خليفة»

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036
TT

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

التعديلات الدستورية في روسيا تتوّج «زعيم الأمة» حتى 2036

لم يسبق أن أثار استحقاق سياسي داخلي في روسيا الجدل الكبير المثار الآن، والسجالات التي لم تهدأ منذ أن بدأت مسيرة إقرار التعديلات الدستورية في مارس (آذار) الماضي.
يدور السجال بين موقفين، يرفع أولهما لواء «الاستقرار السياسي»، وأن الرئيس فلاديمير بوتين هو الشخص القادر على إمساك الأمور بيد قوية والمحافظة على الإنجازات التي تحققت على مدار سنوات. كما أنه الزعيم القادر على مواجهة خطط الغرب المتواصلة لإضعاف روسيا وتطويقها عسكرياً وإنهاكها اقتصادياً. في حين ترى أوساط المعارضة، أن هذا الاستحقاق يغلق مرحلة الإصلاحات السياسية في روسيا نهائياً، ويفتح على مرحلة جديدة، يتحول فيها «زعيم الأمة» المتوّج، منذ 20 سنة في الكرملين، إلى شخصية تمسك مقاليد الحكم بقوة ولفترة غير محددة، سواء بقي في الكرملين أم قرّر التنحي لاحقاً، وقرر تسليم السلطة إلى رئيس آخر يواصل المحافظة على «النظام» كما أرسى قواعده بوتين بنفسه.
الرئيس الروسي نفسه، فضّل أن يترك النقاش في هذا الاتجاه للخبراء و«الماكينة» الإعلامية الضخمة، وأعلن أنه يثق بإرادة الناس. لكنه أدار كفة النقاش بقوة قبل يومين، عندما أعلن أنه لا يستبعد ترشيح نفسه لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء ولايته الحالية في العام 2024.
بدا التحول مثيراً، إذ تحدث الرئيس الروسي فلاديمير عن احتمال ترشحه من جديد، حتى قبل مرور التعديلات الدستورية المقترحة، في امتحان التصويت العام، الذي يجري مطلع الشهر المقبل، ما عكس ثقة لدى الكرملين بأن النتيجة محسومة لصالح التعديلات. إلا أن الأهم والأكثر إثارة هو المبرّر الذي طرحه الرئيس لهذا التوجه، فهو استند إلى «تجارب سابقة» عندما كانت تحدث بعض التغييرات، ويبدأ جيش من الموظفين والمسؤولين البحث عن ترتيبات للمحافظة على مكتسباتهم وعلى مصالحهم، مع إطلاق التكهنات الكثيرة حول الخليفة المحتمل للرئيس الحالي.
هكذا أوضح بوتين ببساطة وبشكل مباشر المدخل المناسب والعنوان الأبرز لهذه التعديلات الدستورية، لا تضيعوا وقتكم في البحث عن تكهنات، ولا في محاولات المحافظة على كراسيكم... لأن النظام باقٍ وراسخ!

مضمون التعديلات
اللافت أنه في زحمة السجالات حول الشقّ المتعلق بـ«تصفير العداد الرئاسي»، ما يعني أن بوتين وفقاً للتعديلات الدستورية سيكون له الترشح مجدداً لولايتين رئاسيتين جديدتين، تستمران حتى عام 2036، غابت عن النقاش العام تفاصيل كثيرة، أثارت جدلاً، لا يقل عنفاً، بينها فقرات حول تعريف روسيا والشعب الروسي، وتضع روابط دينية وتاريخية، لا يبدو كل الروس متفقين عليها.
وفضلاً عن فكرة الانتماء إلى «الأسلاف الذين نقلوا إلى الأجيال الإيمان الحي بالله»، وهي فكرة قال بعضهم إنها لا تنطبق على روسيا التي اعتنقت المسيحية قبل 1000 سنة فقط، وإشارة أخرى إلى روسيا الحالية، التي تعد «وريثة من الاتحاد السوفياتي»، وهي أيضاً مختلَفٌ عليها، لأن البعض رأى فيها أمراً وقتياً مرتبطاً بمعالجة ملفات سياسية وطموحات محددة، ولا يمكن أن تكون في وثيقة تشكّل العقد الأساسي للمجتمع والدولة في المستقبل.
على أي حال، تركز الحملات الدعائية على الشق المعيشي الاقتصادي في التعديلات، التي تمنح السلطات التنفيذية آليات لتوسيع محفظة الرعاية للنظام الصحي والتعليمي وحماية الأطفال والمتقاعدين وبعض العناصر الأخرى المماثلة. هنا يقول خبراء إن تقديم التعديلات كرزمة واحدة للتصويت هدف إلى تمرير الأهداف السياسية من التعديلات، في قالب عملية إصلاح دستورية شاملة.
في المقابل، لا تكاد تهدأ اعتراضات الطرف الآخر، الذي رأى أن تعجّل الكرملين في حسم عملية تمرير الوثيقة بهدف حسم ملف بقاء بوتين في السلطة، ستكون له تداعيات كثيرة، ليس فقط من بوابة عودة روسيا إلى النموذج السوفياتي لزعماء يحكمون إلى الأبد، مع إغلاق الطريق نهائياً في هذه المرحلة أمام أي محاولة لإصلاح سياسي في البلاد. فالأخطر من ذلك، من وجهة نظرهم، أن التسرع في تمرير الوثيقة وهي محملة بألغام وأعباء جدلية، ستحمل عواقب لاحقاً، وستكون روسيا مضطرة في غضون سنوات للعودة مجدداً إلى تعديل الدستور لإصلاح ما تم وضعه، أو لوضع دستور جديد كامل للبلاد. والأمر الأخير، اقتُرح غير مرة خلال السنوات الأخيرة، انطلاقاً من فكرة أن الدستور الحالي وُضع إبان فترة فوضى شاملة في البلاد، وأن تبدلات كثيرة طرأت على روسيا والعالم منذ ذلك الحين. لكنّ بوتين عارض بحزم طرح فكرة وضع دستور جديد.

الاستفتاء يتحدى «كوفيد - 19»
من ناحية أخرى، في إطار التحذير من تعرض البلاد لنكسة كبرى على صعيد تفشي جائحة «كوفيد - 19»، أثناء عمليات التصويت الواسعة، واتهام الكرملين أنه «لا يبالي بهدف تمرير الاستحقاق السياسي بالمخاطر التي قد تترتب على تنظيم فعاليات كبرى من هذا النوع»، لفت خبراء روس إلى ما وصف بأنه «قائمة مخاطر». ومن هذه المخاطر احتمال احتشاد تجمّعات كبيرة أمام مراكز الاقتراع، وكذلك التدابير المتخذة لتوفير الأمن الصحي لنحو مليون موظف ومراقب في لجان الدوائر الانتخابية في كل البلاد. وبرزت اقتراحات في وقت سابق بضرورة إخضاع هؤلاء لفحص إلزامي وعزل المصابين منهم أو الذين يعانون من أمراض مزمنة، كونهم يدخلون في إطار «فئات الخطر»، وكان من شأن هذا فتح الباب على مشكلة أخرى، إذ سيكون من الصعب في كثير من الحالات ضمان حضور العدد الكافي من الموظفين في الدوائر المختلفة لحظة بدء عمليات التصويت.
وبالنتيجة، جرى التخلي جزئياً عن فكرة الاختبار الشامل لأعضاء اللجنة. واستعيض عنها بإجراء الفحوص «إذا لزم الأمر» وإذا تطلب الوضع الوبائي في المنطقة ذلك. لكن هذا الحل أثار مزيداً من التشكيك... إذ ما هي ضمانة عدم وجود حاملين للفيروس بين 900 ألف عضو في اللجان، بما في ذلك حاملو المرض من دون ظهور الأعراض؟
يبدو السؤال وكأنه يلقي تهمة على الجهات المختصة، غير أن عدداً من لجان الانتخابات الفرعية سارعت إلى تبرير موقفها، كما حدث في جمهورية بشكيريستان، الذاتية الحكم، التي ذكرت لجنة الانتخابات فيها أنه من «غير الواقعي» اختبار 33000 عضو من أعضاء لجنة الانتخابات المحلية، واتضح أنه لا توجد أصلاً موازنات مخصصة لذلك.
في هذه الظروف، تساءل معارضون، مَن يتحمل إذن مسؤولية وقوع أخطاء، أو مواجهة موجة جديدة من تفشي الجائحة بسبب الإصرار على التصويت في هذا الوقت؟

استفتاء... أم تصويت عام
عنصر خلافي آخر برز في مرحلة التحضيرات لهذا التصويت المثير للجدل، إذ تحدث خبراء في القانون عن ثغرة مهمة، مفادها أن الدستور الروسي لا ينص أصلاً على إجراء استفتاء على تعديل دستوري. وأن الاستفتاء ينبغي أن يكون بعد إعداد دستور جديد للبلاد. لذلك اندفع برلمانيون إلى تبرير هذا الأمر، تحسباً لاستغلال المعارضة هذا السجال للتشكيك بشرعية التصويت والنتائج التي ستسفر عنه.
وقالت اللجنة القانونية في مجلس الفيدرالية (الشيوخ) إن «ما لدينا اليوم ليس دستوراً جديداً، فهذه بعض التغييرات على نص الدستور الحالي، ولهذا ليس من الضروري إجراء استفتاء. إذ يجري الحديث عن تصويت عام وليس عن استفتاء».
لكن المواطن الروسي البسيط لا يفهم الفرق بين التصويت العام والاستفتاء... و«هل يوجد فرق أصلاً»؟ هكذا كتب المعارض ديمتري غودكوف بلهجة مستنكرة.
يشير قانونيون إلى أن قرارات مجلسي «الدوما» (النواب) والفيدرالية (الشيوخ) والبرلمانات المحلية في الأقاليم الفيدرالية الـ85 كافية تماماً لإدخال تعديلات على فقرات من الدستور، ولكن نظراً لأن نطاق التغييرات كبير جداً، قرر الكرملين «سد الثغرات» كي لا يقال إنه تمت «فبركة» تعديلات تمنح الرئيس فرصة للبقاء في السلطة إلى الأبد. وهذا الأمر أوضحه بوتين بضرورة «التوجه مباشرة إلى الشعب». وعليه، فالمطلوب موافقة شعبية واسعة، وليس مهماً أن تحمل العملية صفة تصويت عام أم استفتاء.

تعقيدات وظروف
كان من المقرر التصويت على التعديلات في عموم روسيا خلال أبريل (نيسان) الماضي، لكن «كوفيد - 19» أطاح بالعملية، وحُدد موعد لاحق لها في أول يوليو (تموز) المقبل. لكن في الواقع، بدأ التصويت قبل ذلك بأسبوع. وبهدف تجنب تجمّعات ضخمة، فُتحت مراكز التصويت أبوابها أمام المواطنين في 25 يونيو (حزيران). بالإضافة إلى ذلك، سيتمكن سكان موسكو ومنطقة نيجني نوفغورود من الإدلاء بأصواتهم إلكترونياً عن بعد خلال أسبوع كامل.
هذا الإجراء تسبب في مشكلة جديدة، إذ سرعان ما ادّعى معارضون ومراقبون أنهم قاموا بتجربة ذاتية للتصويت مرتين. وذكر الصحافي التلفزيوني بافل لوبكوف، الذي يعمل مقدماً لبرنامج في قناة «دوجد» المعارضة، أنه صوّت في مركز الاقتراع قرب منزله، وصوّت مرة أخرى إلكترونياً بعد مرور ساعة واحدة. وما أن انتشر الخبر حتى سارع كثيرون إلى القول إنهم شهدوا خروقاً مماثلة في عدد من مراكز الاقتراع. وصحيح أن لجنة الانتخابات المركزية سارعت بدورها إلى إعلان نيتها معاقبة المقصّرين في اللجان الانتخابية الذين تجاهلوا شطب اسم الناخب من اللوائح بعد تسجيله إلكترونياً، لكن الواقعة ألقت بظلال ثقيلة على عملية التصويت حتى قبل انتهائها وحسم النتائج.

تصويت «للمحافظة على النظام»
الخبراء يحاولون تلمس المرحلة المقبلة، ولا سيما ما يريده الرئيس بوتين، وسط الجدالات الساخنة الكثيرة حول نيته الترشح لفترة رئاسية جديدة، بعد انتهاء ولايته الحالية في العام 2024. ومنها الجدال بين أنصار «نعم للاستقرار السياسي» و«لا لتقويض أسس تبادل السلطة». وهل تخلّى فلاديمير بوتين عن فكرة البحث عن خليفة له.
بوتين نفسه أعطى الجواب «موارباً» من خلال حديثه عن احتمال ترشحه: «إذا لم يحدث هذا، فأنا أعرف ذلك من تجربتي الخاصة، أنه بدلاً من العمل الإيقاعي العادي على مستويات كثيرة جداً من السلطة، سيبدأ التثاؤب خلال البحث عن خلفاء محتملين».
ويذكر خبراء أن تصريحات مماثلة صدرت عن بوتين عام 2017. عندما سعى باستمرار لمواجهة سؤال ما إذا كان سيرشّح لولاية رابعة. وقال الرئيس حينذاك إنه بعد الإعلان عن بدء الحملة الانتخابية «توقف الجميع على الفور عن العمل وانشغلوا بالتفكير في كيفية الحفاظ على كراسيهم».
هذه العبارة اللافتة فسرتها صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» في افتتاحية نارية بأنها «تعكس معيار بوتين الذي يعتقد أنه يجب الحفاظ على النظام في حالة جيدة، أي في حالة بعيدة من أي توتر».
وأوضحت أن كلمات بوتين حول «التثاؤب» هي «إعلان صادق تماماً عن مخاوف ونوايا الرئيس الحالي في السلطة منذ 20 سنة، وهو يعرف تماماً النظام الذي بناه، ويرى تحولاته الداخلية، ويفهم منطق البيروقراطية على جميع المستويات. والأشخاص المشاركون في السلطة يشكلون مجموعة من (مراكز النفوذ)، وينمون الطموحات. ويمكن أن يتحول صدام الطموحات إلى حتمية يصعب السيطرة عليها بمجرد أن يصبح معروفاً بالتأكيد أن رأس الهرم سيغادر. هذا لا ينبغي أن يحدث. بل أكثر من ذلك، يجب أن يعتقد الجميع أن بوتين لن يذهب إلى أي مكان».

البحث عن خليفة
وهل هذا يعني نهاية عملية «البحث عن خليفة» التي شغلت الأوساط السياسية طويلاً؟ يقول خبراء إنه على الأرجح بعد اعتماد التعديلات، سيترك بوتين لنفسه مجالاً كبيراً للمناورة السياسية. ومن المرجح أن يستمر في البحث عن خليفة، لكنه لن يتقيد بالأطر الزمنية. قد يعلن بوتين في نهاية عام 2023 أنه لن يقبل ولاية جديدة. ويمكن أن يذهب إلى ولاية جديدة لوضع الترتيبات اللازمة، ثم يقرر المغادرة في وقت مبكر. وأخيراً، يمكنه حقاً أن يظل في السلطة لمدة 6 سنوات أخرى كاملة. ومن ثم، إذا لم تتغير العملية، لكن تغيرت آليات التحرك، سيغادر بوتين عندما يهيئ بنفسه الظروف المناسبة لذلك، ولن يتسرع في إعداد رحيله في الوقت الذي ينص عليه القانون.
هكذا ينظر خبراء السياسة الروس الذي يتمتعون بدرجة كبيرة من الاستقلالية، إلى احتمالات تطور الموقف. ويستند بعضهم إلى أنه «لمدة 20 سنة، اعتاد المجتمع على خطوات غير متوقعة من بوتين. لم يتوقع أحد أن يصبح فيكتور زوبكوف رئيساً للوزراء عام 2007، لكنه أكمل مهمته وذهب إلى الظل. وبالطريقة ذاتها، لم يتوقع إلا قلة تعيين ميخائيل ميشوستين رئيساً للحكومة هذا الشتاء. يسترشد بوتين بمنطقه الخاص، ولا يهتم بالاستفسارات والتوقعات العامة».
ويقرّ الخبراء بأن «الاستقرار» المنشود من التعديلات الدستورية «ليس استقرار المؤسسات، باعتبار أن تلك «كان يمكن أن تحظى باهتمام أكبر لتطويرها في ظل السلطات الرئاسية الحالية». بل بدلاً من ذلك - كما يشير أحدهم - «يجري ضمان استقرار النظام الذي أنشئ، وتثبيت قواعد اللعبة الداخلية، والمحافظة على مبدأ السلطة الفردية. وهكذا، يفكر فلاديمير بوتين في خليفة يحمي مصالح الرئيس الحالي. أي بنفس المنطق بالضبط، الذي جعل منه خليفة بوريس يلتسين قبل 20 سنة».

المعارضة تدعو لرصد الانتهاكات
في المقابل، دعا السياسي المعارض، أليكسي نافالني، الروس إلى انتهاج استراتيجية تقوم على رصد عمليات التزوير في التصويت وتسجيل وقائع الإكراه للتصويت. ويعتقد نافالني أن التعديلات «اعتمدت بالفعل؛ حيث تدخل التعديلات على الدستور حيز التنفيذ بعد موافقة ثلثي البرلمانات الإقليمية». غير أنه دعا إلى مواجهة الموقف بنشر وقائع التزوير وعمليات الدفع الإلزامية للتصويت، عبر التأثير على موظفي الدولة إذا أجبروا على الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
ولقد استند نافالني، كما غيره من المعارضين، في الترويج لمقولة إن التعديلات باطلة وغير قانونية، إلى رأي قانوني رأى ضرورة أن يجري التصويت على كل بند من التعديلات الدستورية على حدة، لأن غالبية المواطنين قد تؤيد «إعادة النظر في قانون المعاشات التقاعدية» لكن يمكن أن ترفض «تصفير عداد الفترات الرئاسية لبوتين».



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.