خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي

أسعد سليم يحفز القارئ لتأملها ببساطة في كتابه «رواية الفلسفة»

خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي
TT

خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي

خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي

«حرر عقلك، ثق في قدراتك، انظر للكون الفسيح بتأمل، وللتاريخ بتساؤل، لا تخضع لكائن من كان، انطلق لتكتشف الفيلسوف بداخلك فربما تهتدى وتهدي».
بهذه الدعوة يتوجه الباحث أسعد سليم إلى قراء كتابه «رواية الفلسفة»، «مبشراً» إياهم بأن الفلسفة التي يعتقدون أن فهمها حلم بعيد المنال أصبحت مبسوطة بكل يسر بين أياديهم.
يقع الكتاب في 219 صفحة من الحجم المتوسط، وصدر أخيرا عن دار «المثقف» للنشر بالقاهرة. وعبر عناوين متنوعة عرض المؤلف لأبرز محطات الفلسفة الغربية في شكل سلس لقارئ عادي وليس قارئا نوعيا متخصصا، ومع ذلك لا ينحي هذا القارئ جانبا، وإنما يضعه في إطار ضمني، ليبقى دائما على مقربة من الكتاب، فما يعنيه عبر هذه الرحلة أن يكتشف القارئ البسيط، أن ثمة فيلسوفا يكمن داخل كل شخص.
يسأل الكاتب قارئه سؤالا مباغتا: «أتحداك فهل تقبل التحدي؟» ويقصد به أنه لا توجد الآن حجة للمتلقي كي يشكو من «تعقيدات» الكتابات الفلسفية فهو يقدم توليفة مبسطة للقارئ ليكتشف معه عالم الفلسفة خاليا من الغموض عبر الكتاب.
- «غرور المصطلح»
ومن ثم، يطمح الباحث، حسبما جاء في المقدمة، إلى تحرير هذا اللون من المعرفة الإنسانية مما يسميه «غرور المصطلح» ويقصد به إغراق الكتابات الفكرية في التفاصيل المعقدة. وبالطبع لا يمكن اختصار ثلاثة آلاف عام من الفكر الغربي في هذه المساحة المحدودة، إلا إذا جاءت فصول الكتاب عبارة عن ومضات متلاحقة تضيء الملامح العامة لأزمنة ومدارس وحركات كبرى تعد علامات على طريق هذا الفكر، مثل نشأة الفلسفة وازدهارها ثم ذبولها في اليونان والانتكاسة الكبرى التي تعرضت لها في العصور الوسطى المظلمة ثم بداية النهوض في عصر الإصلاح، مع تركيز خاص على المدرسة العقلانية وعصر التنوير والحركات الرومانسية والعدمية، وينتهي الكتاب بإلقاء الضوء على تجربة جان بول سارتر والوجودية.
يثير عنوان الكتاب التباسا يبدو أنه مقصود من جانب المؤلف، فقد ظن البعض أن العمل عبارة عن نص أدبي مصاغ في شكل رواية على غرار «عالم صوفي» التي كتبها النرويجي جوستاين غاردر ولاقت رواجا مذهلا، حيث ترجمت إلى أكثر من خمسين لغة، رغم أنها لا تدور في أجواء الجريمة أو التشويق وإنما تتناول موضوعا يبدو للوهلة الأولى جافا، وهو تاريخ الفلسفة.
ورغم أن العمل هنا رصد تاريخي لأبرز محطات الفكر الغربي، إلا أنه يستفيد من تقنيات الكتابة الأدبية كالحوار والمفارقة وبناء السرد المشوق مع عنصر المفاجأة. ساعد على ذلك المنهج الانتقائي الذي يتبعه الكاتب والذي يقوم على اختيار فترات زمنية بعينها تزخر بالصراع بين الاستنارة الوليدة والظلامية الراسخة المحروسة بمزاعم كثيرة. وهذا بالضبط ما جعل فصول الكتاب أشبه ما تكون بلوحات تخلو من فخ الرتابة والتعقيد الذي يشكو منه القارئ العادي حين يسعى لقراءة نص فلسفي.
- عصر النهضة والأخلاق
ويكشف الباحث عبر فصول كتابه الثلاثة عشر، الوجه الآخر للميثولوجيا الإغريقية، وهي علم الأساطير والتراث التي آمن بها أهل اليونان القدماء حيث اختلاط الحقيقة بالخرافة واللامعقول بالمنطق، لافتا إلى أنه من سقراط إلى أفلاطون وأرسطو تتشكل حقبة ازدهار فجر الضمير الفلسفي والتي بالأخير انتهت إلى فترة الظلام الكبير حيث العصور الوسطى المظلمة، عبر رحلة من المعاناة امتدت لألف عام من الرجعية والتخلف بداية من القرن الخامس الميلادي وحتى بداية القرن الخامس عشر.
ويذكر المؤلف أن عصر النهضة والإصلاح رغم ما شهده من الاهتمام بالموسيقى والفن والأدب والعلم إلا أن ذلك جاء على حساب الأخلاق فعمت الفوضوية واللاأخلاقية، ونتج عنها النزعة المادية وبحسب قوله «تبدأ رحلة الشك واليقين مع ديكارت، مرورا لنور البصيرة عند باروخ سبينوزا، ويتأسس اتجاه قوي يرمي إلى عدم الخضوع للحواس التي تخدعنا أحيانا كأن نرى أننا نسبح في المياه، بينما تكون الحقيقة أننا نغط في النوم حالمين بالسباحة، وتلك هي خدعة الأحلام».
ويرى أن الفلسفة الغربية الحديثة نشأت على يد ديكارت في واحدة من أبرز تجليات المدرسة العقلانية وصراعها المرير مع المدرسة التجريبية ومؤسسها فرانسيس بيكون، وقيادته للثورة العلمية الجديدة القائمة على الملاحظة والتجريب والوصل بين الماضي والحاضر. كما يفرد مساحة مهمة لمؤسس علم النفس الحديث الطبيب الإنجليزي جون لوك الذي شغلت مؤلفاته وموضوعاته مكانا مهما في خارطة الفكر الإنساني وعبر رحلة الفلسفة ووصولها لعصر التنوير، مؤكدا أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير بلا منازع، حيث تم إعلاء لغة الاعتقاد العقلي على لغة الاعتقاد الروحي، قائلا «يُنظر للإنجليز ممثلين في العالم نيوتن والفيلسوفين جون لوك وديفيد هوم على أنهم رواد عصر التنوير، فالعلم الحديث الذي خضع لنيوتن قلب المفاهيم رأسا على عقب وتمكنت البشرية أخيرا من تفسير قوانين الكون والطبيعة من خلال البراهين الفيزيائية والرياضية لا من خلال افتراضات ميتا فيزيقية أو خرافية».
وفي رصده للحركة الرومانسية يرى المؤلف أنها تتميز بالبحث عن الجمال والتحرر من العقل، وإطلاق العنان لإبداع الخيال، ومناجاة الطبيعة للوصول للنشوة، كما هو الحال عند جان جاك روسو وتقديسه لرهافة الحس والمشاعر وإعلائه للعواطف الجياشة. وهناك أيضا فيكتور هوجو صاحب «أحدب نوتردام» واللورد بايرون شاعر بريطانيا الكبير وكوليردج.
ومرة أخرى يعود المؤلف ليباغت قارئه بسؤال غير متوقع: أَضجرت من الحياة؟ هل نظرتك تشاؤمية عدمية لكل ما ومن حولك؟ هل شعرت باليأس يسحق روحك، ففكرت في الانتحار؟ كل هذه الكآبة السوداوية لن تجدها إلا عند رسول التعاسة وأمير التشاؤم الألماني «أرتور شوبنهاور».
وكأن السؤال هنا بمثابة جسر معرفي، للكلام عن العدمية والنظرة التشاؤمية العدائية، التي برزت على نحو خاص في فلسفة شوبنهاور المتمثلة في أن الإرادة باعتبارها سبب شقائنا وتعاستنا الأبدية، وأن الإنسان كلما ارتقى بذكائه كلما أدرك أن جوهره هو الشقاء. في المقابل، هناك نيتشه الفيلسوف العبقري الذي قلب الدنيا رأسا على عقب بأفكاره المثيرة للجدل، فهو الذي يصف حواء بأنها شخص ناقص خلق للاستمتاع ولا يجب التعامل معها إلا بالسوط!
ومن الواضح أن ربط حوادث بارزة في التاريخ الفلسفي القديم بالواقع الثقافي العربي المعاصر يعد واحدة من السمات المميزة في هذا العمل. وعلى سبيل المثال يتطرق الباحث لفلسفة فيثاغورس وقصة إنشائه «جماعة» قائمة على «السمع والطاعة» وأدائهم ليمين الولاء والطاعة لـ«مرشد» كشرط أساسي لدخول الجماعة «وعلى الطالب المكوث خمس سنوات في طور التعليم بدون نقاش ولا جدال، فترة الصمت الفيثاغورسي، حتى يصبح عضوا رسميا وفعالا في الجماعة ألا يذكرنا ذلك بشيء ما؟» وبالطبع الإشارة واضحة للتنظيمات السرية التي تتكالب على أوطاننا العربية باسم الدين.
ويوجه الباحث أنظارنا لأوجه الشبه بين ما حدث مع سبينوزا في القرن السابع عشر وأديب نوبل نجيب محفوظ والجدل الذي صاحب نشر روايته «أولاد حارتنا» طُرد سبينوزا من الكنيس اليهودي وتعرض لمحاولة طعن بخنجر على يد من يرفض أفكاره وهو ما تكرر بالضبط مع محفوظ.
وفي نهاية الكتاب يتساءل المؤلف: ماذا بعد هذه الرحلة؟ هل أنزلت الفلسفة من برجها العاجي وكهنوتها الأكاديمي إلى مستوى بشري ميسر؟ مشيرا إلى أنه قرأ معظم الإنتاج الفلسفي العالمي والعربي، رغم أن قائمة المراجع لا تتضمن، لضرورات المساحة، سوى مائتي مرجع فقط.
في الختام، لقد استطاع الباحث عبر رحلته في هذا الكتاب أن يقدم الفلسفة بصورة مبسطة، تكسر حجز الرهبة مع متونها، وتجذب القارئ وتشد انتباهه، وكأنه طرف في رواية شيقة، من دون مصطلحات وكليشيهات معقدة ومفتعلة، لتكون مدخله مستقبلا إلى كتابات فلسفية أخرى أكثر عمقا وتفصيلا.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.