خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي

أسعد سليم يحفز القارئ لتأملها ببساطة في كتابه «رواية الفلسفة»

خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي
TT

خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي

خلاصة الفكر الغربي بعيداً عن التعقيد الأكاديمي

«حرر عقلك، ثق في قدراتك، انظر للكون الفسيح بتأمل، وللتاريخ بتساؤل، لا تخضع لكائن من كان، انطلق لتكتشف الفيلسوف بداخلك فربما تهتدى وتهدي».
بهذه الدعوة يتوجه الباحث أسعد سليم إلى قراء كتابه «رواية الفلسفة»، «مبشراً» إياهم بأن الفلسفة التي يعتقدون أن فهمها حلم بعيد المنال أصبحت مبسوطة بكل يسر بين أياديهم.
يقع الكتاب في 219 صفحة من الحجم المتوسط، وصدر أخيرا عن دار «المثقف» للنشر بالقاهرة. وعبر عناوين متنوعة عرض المؤلف لأبرز محطات الفلسفة الغربية في شكل سلس لقارئ عادي وليس قارئا نوعيا متخصصا، ومع ذلك لا ينحي هذا القارئ جانبا، وإنما يضعه في إطار ضمني، ليبقى دائما على مقربة من الكتاب، فما يعنيه عبر هذه الرحلة أن يكتشف القارئ البسيط، أن ثمة فيلسوفا يكمن داخل كل شخص.
يسأل الكاتب قارئه سؤالا مباغتا: «أتحداك فهل تقبل التحدي؟» ويقصد به أنه لا توجد الآن حجة للمتلقي كي يشكو من «تعقيدات» الكتابات الفلسفية فهو يقدم توليفة مبسطة للقارئ ليكتشف معه عالم الفلسفة خاليا من الغموض عبر الكتاب.
- «غرور المصطلح»
ومن ثم، يطمح الباحث، حسبما جاء في المقدمة، إلى تحرير هذا اللون من المعرفة الإنسانية مما يسميه «غرور المصطلح» ويقصد به إغراق الكتابات الفكرية في التفاصيل المعقدة. وبالطبع لا يمكن اختصار ثلاثة آلاف عام من الفكر الغربي في هذه المساحة المحدودة، إلا إذا جاءت فصول الكتاب عبارة عن ومضات متلاحقة تضيء الملامح العامة لأزمنة ومدارس وحركات كبرى تعد علامات على طريق هذا الفكر، مثل نشأة الفلسفة وازدهارها ثم ذبولها في اليونان والانتكاسة الكبرى التي تعرضت لها في العصور الوسطى المظلمة ثم بداية النهوض في عصر الإصلاح، مع تركيز خاص على المدرسة العقلانية وعصر التنوير والحركات الرومانسية والعدمية، وينتهي الكتاب بإلقاء الضوء على تجربة جان بول سارتر والوجودية.
يثير عنوان الكتاب التباسا يبدو أنه مقصود من جانب المؤلف، فقد ظن البعض أن العمل عبارة عن نص أدبي مصاغ في شكل رواية على غرار «عالم صوفي» التي كتبها النرويجي جوستاين غاردر ولاقت رواجا مذهلا، حيث ترجمت إلى أكثر من خمسين لغة، رغم أنها لا تدور في أجواء الجريمة أو التشويق وإنما تتناول موضوعا يبدو للوهلة الأولى جافا، وهو تاريخ الفلسفة.
ورغم أن العمل هنا رصد تاريخي لأبرز محطات الفكر الغربي، إلا أنه يستفيد من تقنيات الكتابة الأدبية كالحوار والمفارقة وبناء السرد المشوق مع عنصر المفاجأة. ساعد على ذلك المنهج الانتقائي الذي يتبعه الكاتب والذي يقوم على اختيار فترات زمنية بعينها تزخر بالصراع بين الاستنارة الوليدة والظلامية الراسخة المحروسة بمزاعم كثيرة. وهذا بالضبط ما جعل فصول الكتاب أشبه ما تكون بلوحات تخلو من فخ الرتابة والتعقيد الذي يشكو منه القارئ العادي حين يسعى لقراءة نص فلسفي.
- عصر النهضة والأخلاق
ويكشف الباحث عبر فصول كتابه الثلاثة عشر، الوجه الآخر للميثولوجيا الإغريقية، وهي علم الأساطير والتراث التي آمن بها أهل اليونان القدماء حيث اختلاط الحقيقة بالخرافة واللامعقول بالمنطق، لافتا إلى أنه من سقراط إلى أفلاطون وأرسطو تتشكل حقبة ازدهار فجر الضمير الفلسفي والتي بالأخير انتهت إلى فترة الظلام الكبير حيث العصور الوسطى المظلمة، عبر رحلة من المعاناة امتدت لألف عام من الرجعية والتخلف بداية من القرن الخامس الميلادي وحتى بداية القرن الخامس عشر.
ويذكر المؤلف أن عصر النهضة والإصلاح رغم ما شهده من الاهتمام بالموسيقى والفن والأدب والعلم إلا أن ذلك جاء على حساب الأخلاق فعمت الفوضوية واللاأخلاقية، ونتج عنها النزعة المادية وبحسب قوله «تبدأ رحلة الشك واليقين مع ديكارت، مرورا لنور البصيرة عند باروخ سبينوزا، ويتأسس اتجاه قوي يرمي إلى عدم الخضوع للحواس التي تخدعنا أحيانا كأن نرى أننا نسبح في المياه، بينما تكون الحقيقة أننا نغط في النوم حالمين بالسباحة، وتلك هي خدعة الأحلام».
ويرى أن الفلسفة الغربية الحديثة نشأت على يد ديكارت في واحدة من أبرز تجليات المدرسة العقلانية وصراعها المرير مع المدرسة التجريبية ومؤسسها فرانسيس بيكون، وقيادته للثورة العلمية الجديدة القائمة على الملاحظة والتجريب والوصل بين الماضي والحاضر. كما يفرد مساحة مهمة لمؤسس علم النفس الحديث الطبيب الإنجليزي جون لوك الذي شغلت مؤلفاته وموضوعاته مكانا مهما في خارطة الفكر الإنساني وعبر رحلة الفلسفة ووصولها لعصر التنوير، مؤكدا أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير بلا منازع، حيث تم إعلاء لغة الاعتقاد العقلي على لغة الاعتقاد الروحي، قائلا «يُنظر للإنجليز ممثلين في العالم نيوتن والفيلسوفين جون لوك وديفيد هوم على أنهم رواد عصر التنوير، فالعلم الحديث الذي خضع لنيوتن قلب المفاهيم رأسا على عقب وتمكنت البشرية أخيرا من تفسير قوانين الكون والطبيعة من خلال البراهين الفيزيائية والرياضية لا من خلال افتراضات ميتا فيزيقية أو خرافية».
وفي رصده للحركة الرومانسية يرى المؤلف أنها تتميز بالبحث عن الجمال والتحرر من العقل، وإطلاق العنان لإبداع الخيال، ومناجاة الطبيعة للوصول للنشوة، كما هو الحال عند جان جاك روسو وتقديسه لرهافة الحس والمشاعر وإعلائه للعواطف الجياشة. وهناك أيضا فيكتور هوجو صاحب «أحدب نوتردام» واللورد بايرون شاعر بريطانيا الكبير وكوليردج.
ومرة أخرى يعود المؤلف ليباغت قارئه بسؤال غير متوقع: أَضجرت من الحياة؟ هل نظرتك تشاؤمية عدمية لكل ما ومن حولك؟ هل شعرت باليأس يسحق روحك، ففكرت في الانتحار؟ كل هذه الكآبة السوداوية لن تجدها إلا عند رسول التعاسة وأمير التشاؤم الألماني «أرتور شوبنهاور».
وكأن السؤال هنا بمثابة جسر معرفي، للكلام عن العدمية والنظرة التشاؤمية العدائية، التي برزت على نحو خاص في فلسفة شوبنهاور المتمثلة في أن الإرادة باعتبارها سبب شقائنا وتعاستنا الأبدية، وأن الإنسان كلما ارتقى بذكائه كلما أدرك أن جوهره هو الشقاء. في المقابل، هناك نيتشه الفيلسوف العبقري الذي قلب الدنيا رأسا على عقب بأفكاره المثيرة للجدل، فهو الذي يصف حواء بأنها شخص ناقص خلق للاستمتاع ولا يجب التعامل معها إلا بالسوط!
ومن الواضح أن ربط حوادث بارزة في التاريخ الفلسفي القديم بالواقع الثقافي العربي المعاصر يعد واحدة من السمات المميزة في هذا العمل. وعلى سبيل المثال يتطرق الباحث لفلسفة فيثاغورس وقصة إنشائه «جماعة» قائمة على «السمع والطاعة» وأدائهم ليمين الولاء والطاعة لـ«مرشد» كشرط أساسي لدخول الجماعة «وعلى الطالب المكوث خمس سنوات في طور التعليم بدون نقاش ولا جدال، فترة الصمت الفيثاغورسي، حتى يصبح عضوا رسميا وفعالا في الجماعة ألا يذكرنا ذلك بشيء ما؟» وبالطبع الإشارة واضحة للتنظيمات السرية التي تتكالب على أوطاننا العربية باسم الدين.
ويوجه الباحث أنظارنا لأوجه الشبه بين ما حدث مع سبينوزا في القرن السابع عشر وأديب نوبل نجيب محفوظ والجدل الذي صاحب نشر روايته «أولاد حارتنا» طُرد سبينوزا من الكنيس اليهودي وتعرض لمحاولة طعن بخنجر على يد من يرفض أفكاره وهو ما تكرر بالضبط مع محفوظ.
وفي نهاية الكتاب يتساءل المؤلف: ماذا بعد هذه الرحلة؟ هل أنزلت الفلسفة من برجها العاجي وكهنوتها الأكاديمي إلى مستوى بشري ميسر؟ مشيرا إلى أنه قرأ معظم الإنتاج الفلسفي العالمي والعربي، رغم أن قائمة المراجع لا تتضمن، لضرورات المساحة، سوى مائتي مرجع فقط.
في الختام، لقد استطاع الباحث عبر رحلته في هذا الكتاب أن يقدم الفلسفة بصورة مبسطة، تكسر حجز الرهبة مع متونها، وتجذب القارئ وتشد انتباهه، وكأنه طرف في رواية شيقة، من دون مصطلحات وكليشيهات معقدة ومفتعلة، لتكون مدخله مستقبلا إلى كتابات فلسفية أخرى أكثر عمقا وتفصيلا.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش
TT

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش

حصل الكاتب الهندي أميتاف غوش، يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، على جائزة إراسموس لعام 2024 ومبلغ نقدي قدره 150 ألف يورو، لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين «لعنة جوزة الطيب» و«الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون»، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن «لعنة جوزة الطيب»: «ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون؟». هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه «لعنة جوزة الطيب». علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان: «ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير».

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن «ثروة بيل غيتس» وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا «دولة المخدرات الأولى». ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة أول «كارتل عالمي للمخدرات».

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: «لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك».

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، «علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال».