«إيطاليا الخفيّة»... متاحف وتقاليد وثرثرات الناس وإضاءات على العنف

صدر حديثاً عن دار «بيسان» كتاب «إيطاليا الخفية» للكاتبة والإعلامية اللبنانية هدى سويد، التي تعرفنا فيه من خلال ترحالها على كثير من المدن الإيطالية المعروفة والمستترة، بدءا من أقاليم شمال غربي إيطاليا، مروراً بالوسط، وصولاً إلى جزيرتي صقلية وسردينيا، وذلك ارتباطاً بالتاريخ القديم والحديث، والأحداث الدرامية، والتقلبات السياسية المتسارعة التي عرفتها إيطاليا.
هنا تتحدث هدى سويد عن ظروف تأليفها كتابها، الواقع في 336 صفحة من الحجم المتوسط مع ملحق صور.
«إيطاليا الخفية» كتاب يتضمن ثمانية أبواب مع ملزمة صور، هذه الأبواب هي ثمرة من ثمرات إقامتي في إيطاليا التي أتمّت 22 عاما في هذا الشهر، يونيو (حزيران) 2020، وبالتالي هي جهود توثيقية وكل ما خدم فكرة الكتاب التي سآتي على ذكرها لاحقا.
أمّا سبب اختياري للعنوان الذي كان محسوما على ما هو عليه منذ البداية، فيعود لما شئت سرده في الأبواب التي تطرقت فيها إلى أقاليم عشت فيها بسبب عمل زوجي، أو أماكن اخترتها قصدا لا اعتباطا كمحطات لإجازاتنا ورحلاتنا التي تصب في مشروعي هذا.
جلت وسكنت وعرفت معظم الأقاليم الإيطالية، ومن خلال تنقلاتي وجولاتي على مدى سنين إقامتي فيها اختمرت فكرة الكتاب الذي شجعني إليه صديق أو أكثر، باشرت بالكتابة، تجميع وجوجلة السنين المُنصرمة التي كنت أحرص على أرشفتها سواء كملاحظات، ونصوص، وأفكار، وكتب، ولقاءات، وصور بما يقارب زمنيا العامين.
منذ البداية قررت عدم الحديث عن المدن الكبرى التي تطرق إليها كثيرون ويعرفها السياح.
سعيت جاهدة إلى الانتباه للخيط الرفيع الفاصل بين الجديّة والاستسهال، أي بعبارة أخرى عدم تحويل مضمون الكتاب إلى دليل سياحي تجاري، مُسلطة الضوء في انتقائي واختياري على ما هو غير معروف عن إيطاليا من مناطق، وقرى، وبلدات، ومدن غير مُتداولة أسماؤها، ومتاحف، وعادات وتقاليد وثرثرات الناس. من شمال الخريطة الإيطالية إلى جنوبها بدءا من أبرز المدن والقرى غير المعروفة في إقليم ليغوريا الذي أسكن ريفه وأقيم وتحديدا بلدة «بوكّا دي ماغرا»، انطلقت مرورا بتوسكانا جزيرة ألبا - لونيجانا، حتى ترانتينو - التو أديجه، وبالتالي جنوبا حيث كل من إقليم كامبانيا، كالابريا، وبالتالي نحو جزيرتي صقلية الشمس وسردينيا الغرابة والأسرار، مسلطة الضوء على الأمكنة التي مررت أو عشت فيها بجوانبها المختلفة من تاريخية، وجغرافية، وديموغرافية، وسياسية، حاولت تليينها بتناول النواحي الفنية الثقافية والإنسانية بما فيها المجتمعية، مُتوقفة عند متاحف غير ذائعة لكنها ذات أهمية بما تعكسه بمضمونها في مجتمعها كالتماثيل الحجرية، ومتحف اللادينو، التعذيب، وأكابادورا وقطّاع الطرق إلخ... ناهيك من استعانتي بروايات وقصص اخترتها وقرأتها مما يضيف في إغناء فكرة وموضوع باب من الأبواب، أو كان لاستخدامي لها الدور المساهم حسب رأيي في كل ما يخدم أسلوب الصياغة واللغة السردية، يندرج في إطارها أيضا ما أرخته الحضارات في هذه الرقعة من عادات، وتقاليد، وقيم، ولغات محكيّة، دون أن تغيب هالة الأسرار الذهنية كما المُعتقدات، الطقوس الدينية والاحتفالات الشعبية الفولكلورية الغريبة أحيانا والساحرة غير المعروفة، مُستعينة بكل ما يدعم نصوص الأبواب الثمانية سواء من مقابلات، وآراء ومعلومات مُستشهدة بالعديد من المراجع منها، (كما أشرت أعلاه)، وروايات وقصص قرأتها لكتاب وأدباء إيطاليين بارزين أمثال غراسيا داليدا، ميكيلا موراجيا، كما أنريكو كوستا وروبرتو سافيانو، مُخصصة بابين أحدهما يتعلق بأماكن نشأة أو فنانين مشهورين الذين تعود أصولهم لقرى نائية، كقرية «أنكيانو» النائية في توسكانا مسقط رأس ليوناردو دافينشي أو بلدة «فينشي» التي حمل اسمها، وحرصت على التنوع في اختياراتها سواء الجغرافية أو الفنية؛ لذا ضم الباب هذا الذي حمل اسم «أماكن وأسماء» الرسم، والسينما والرواية، ومن أجل ذلك توجهت إلى مكان ولادة «فالنتينو» جنوبا في إقليم بوليا وإلى «كوللودي» في توسكانا، حيث دارت رواية «بينوكيو» الشهيرة، إلخ.
لم أكتف بهذا القدر من الأبواب بل خّصصت بابا تحت عنوان «مرايا العنف» تناولت فيه العنف في إيطاليا مما يصلح ويتجانس مع عنوان وفكرة الكتاب عن إيطاليا الخفيّة، متطرقة إلى واقع بأحداثه وإحصائياته بغية الإضاءة على العنف في إيطاليا سواء في بعض دور العجزة، أو العنف ضد المرأة كما ضد النازحين والمهاجرين، كما عنف المافيا بكل أسمائها وتفشي العنصرية والفاشية مؤخرا، بغية الوصول بالأبواب الثمانية إلى أن إيطاليا على ما هي عليه اليوم، لم تصنعها المدن الكبرى كروما مثلا أو ميلانو وحسب، بل ساهمت المناطق الأخرى في نسج الخريطة الإيطالية وصناعتها بكل تفاصيلها السياسية، والاجتماعية، والإنسانية. ليس كل ما رويته في هذا الكتاب يختصر بلدا رائعا كإيطاليا رغم كل مشاكلها، لكني أكتفي بهذا القدر مُقتطفة من المقدمة:
«... لم أعوّل كثيرا على مصاعب البدايات (العيش في إيطاليا)، وإن كانت عبارة عن انطلاق من نقطة صفر في بلد اختلفت فيه بصورة رئيسة المعايير الحضارية، والاجتماعية والثقافية، عمّا نشأت عليه، وحمل الكثير من المفاجآت التي كان بمقدورها أحيانا أن تكون بمثابة عثرة دون أن تستنزف أو تستوقف الأحلام، فقد شاءت الأمور مع وصولي إلى إيطاليا تحديدا، أوروبا والعالم بأسره حتى اليوم أقصد 2019 أن ينقلب المكان برمته من الوجهة الجغرافية الساحرة والمتمدنة كما رُسمت ورسمناها في مخيلتنا، إلى الوجهة القلقة غير المستقرة اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، واجهت معها إيطاليا صعوبات بل تحديات سواء بمفردها أو داخل المجموعة الأوروبية...». مررت بتعاقب أكثر من هزة سياسية وأكثر من حكومة لم يتسن لها الاستقرار». لكن إيطاليا بقيت قادرة على الاستمرار وبقيت فريدة بتمايزها وتنوعها اللذين من الصعب أن يتكررا ما بين إقليم وآخر.
مررت بتاريخ إيطاليا عبر العديد من آثارها التي تركتها الحضارات القديمة. اطّلعت على فنون متاحفها الرائدة... واجهت للمرة الأولى فناني عصر النهضة... سكنت في «كروتوني» بيتاغورا وجلت في فينيسيا مسقط رأس ماركو باولو... عرجت على مناطق دارت فيها أجمل الأفلام الإيطالية... رأيت بركان الفيزوفيو، كم مشيت فوق فوهة الـ«أتنا» الهامد في صقلية... زرت بيوت كبار فنانيها... عرفت أعيادا ومهرجانات شعبية لم أكن أعرفها.
«عندما حللت في إيطاليا لم أستقر في مكان ثابت، لازمتني الحقيبة ودوما كان الرحيل يلازمني من جديد ودوما نحو مكان آخر... ووجدتني أسعى في كل مرة لتجاوز ما يحدثه روتين التنقل، منشغلة بالزمن فاتحة عيني على المكان الجديد وما يُمكنني أن أنهل منه ما يُسعفني ساعية وجاهدة للتمرس واكتشافه في مختلف الأمكنة التي رمتنا الريح إليها».
وأُنهي نصي هذا بما ورد في ملخص الغلاف على أن أنشر تباعا قراءات لبعض الزملاء الذين أشكر اهتمامهم وحرصهم على قراءة باكورة إنتاجي:
بعد مرور واحد وعشرين عاما على مغادرتي بيروت والعيش في إيطاليا...
هذا الكتاب يروي جانبا من تجربتي ومسيرتي في بلد يختزن كثيرا من واقع غني بالتاريخ والفن، العادات والتقاليد كما العنف، الثرثرة وحكايا مُستترة خفيّة شعبيّة غير مُتداولة، لا يعرفها من لم يعش على أرضه، ولا تخلو منها روايات أبرز روّاد الأدب.
أردته مع تنقلي في مختلف أقاليمه ومحافظاته بعيدا عن المدن الكبرى المعروفة، الإضاءة على الجانب الآخر المهم الذي صنع إيطاليا حضاريا وثقافيا إلخ...
دفعتني إليه لغتي الأم التي بتُّ أخشى أن أفقدها ولا أدري ما إذا الحظ أسعفني في إيصال ما رغبت وما يرغب القارئ في معرفة الجديد والخفي عن إيطاليا.