آثار وقائية للكائنات الدقيقة في حليب الأم

ميكروبات طبيعية تحمي الرضع من التهابات الأمعاء

آثار وقائية للكائنات الدقيقة في حليب الأم
TT

آثار وقائية للكائنات الدقيقة في حليب الأم

آثار وقائية للكائنات الدقيقة في حليب الأم

في السنوات القليلة الماضية، ازداد الشعور العام لدى الناس بأن البروبيوتيك (Probiotics)؛ (وهي بكتيريا حية غير مرضية)، توفر فوائد صحية عند استهلاكها. إلا أن التأكيدات على أنها تضفي فوائد على الجسم البشري المستضيف لها، لم يتم إثباتها.
وقد أظهر كثير من الأبحاث أن معظم مواد البروبيوتيك غير قادرة على استعمار أو إضفاء فوائد دائمة، في أمعاء الإنسان، وأنها قد لا تكون طريقاً واعدة لعلاج المرض أو تحسين الصحة والعافية، لكنها قد تكون مفيدة لدى الأطفال الرضع حديثي الولادة.

بكتيريا الرضع
وحديثاً، لاحظ بعض العلماء أن استعمار الأمعاء لدى الرضع من قبل بكتيريا «بفيدوباكتريوم إنفانتس» (Bifidobacterium infantis /B. infantis) كانت له آثار وقائية، مثل انخفاض مستويات مسببات الأمراض المعوية المحتملة، وكذلك التوكسينات (المركبات السامة الداخلية)؛ (وهي مكونات غشاء خارجي من الكائنات الحية سالبة جرام) المعروفة بإحداث الالتهابات.
ووجدت جنيفر سميلويتز وديانا هازارد تافت في قسم علوم وتكنولوجيا الأغذية في جامعة كاليفورنيا في ديفيس في بحثهما المنشور في مجلة «ساينتست» (The Scientist) في الأول من يونيو (حزيران ) 2020، أن الرضع الذين أعطوا البروبيوتيك بما فيها «بفيدوباكتريوم إنفانتس» التي تعدّ من ضمن مجموعة البكتيريا التي تعرف جميعها باسم «بروبيوتيك»، قد قل لديهم التهاب الأمعاء مقارنة بالرضع الذين لم يتلقوا البروبيوتيك، وأن الميكروبات المعوية لديهم تحتوي على عدد أقل من جينات مقاومة المضادات الحيوية، وهي علامة على وجود عدد أقل من مسببات الأمراض. وأظهرت النتائج تحللاً أقل للموسين (mucin)؛ وهو بروتين سكري تفرزة الخلايا الطلائية للأمعاء لحمايتها من الاتصال المباشر مع ميكروبات الأمعاء.
تكون أمعاء الرضع في البداية بيئة هوائية، لكن من خلال الاستعمار يتم تغيير البيئة، ما يؤدي إلى انخفاض مستويات الأكسجين، وبالتالي خلق بيئة مناسبة لنمو الكائنات اللاهوائية. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الجهاز الهضمي البشري يتغير من حالة «العقم» في البداية إلى امتلاك ميكروبيوم (microbiome)؛ (وهو مجموع الكائنات الحية الدقيقة والمواد الوراثية الموجودة في الجهاز الهضمي) مستقر، يشابه ما لدى البالغين في الوقت الذي يصل فيه الرضيع إلى عامين من العمر.
وتوجد دلائل على أن الاستعمار الأولي يؤثر في تطوير جهاز المناعة اللاحق من خلال التأثير على مورفولوجيا الأمعاء ووظيفة الأنسجة الليمفاوية المرتبطة بالأمعاء (GALT). علاوة على ذلك وفي الآونة الأخيرة، تأكد أن الكائنات الحية الدقيقة المعوية تلعب دوراً مهماً في تنظيم الجهاز المناعي. ويمكن أن يؤدي تكوين الكائنات المعوية إلى تعريض الطفل لتكرار أكثر للالتهابات ومخاطر أمراض الحساسية.

الرضاعة الطبيعية
من جهة أخرى، تصف غريس الدروفاندي أستاذة طب الأطفال في كلية الطب ديفيد جيفن بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس، في دراسة لها على الرضع، حليب الثدي بأنه السائل المدهش الذي تطور عبر ملايين السنين لجعل الأطفال أصحاء، خصوصاً جهازهم المناعي. وقد فحصت الدراسة المحتوى الميكروبي لحليب الأم والجلد حول حلمة ثدي الأم وبراز الطفل الذي يمثل بكتيريا الأمعاء لدى 107 أزواج من الأم والرضيع.
وذكرت الباحثة ان البكتيريا الموجودة في براز الرضّع تشبه الميكروبات من أمهاتهم أكثر من تلك الموجودة من أمهات أخريات في الدراسة، ما يشير إلى أن البكتيريا تنتقل من الأم إلى الطفل من خلال الرضاعة الطبيعية. وتشير الأبحاث السابقة إلى أن الرضاعة الطبيعية تعمل ضد السمنة وتساعد في تطوير جهاز المناعة، وأن الأطباء يوصون بالرضاعة الطبيعية حصراً خلال الأشهر الستة الأولى لأنها مرتبطة بانخفاض خطر الإصابة بالتهابات الأذن والتهابات الجهاز التنفسي والحساسية والسكري ومتلازمة الموت المفاجئ للرضع. ويشير ألكسندر خورتس أخصائي أمراض الجهاز الهضمي بجامعة مينيسوتا الأميركية إلى أن معظم الميكروبات تأتي من الأم، وأن الرضاعة الطبيعية هي المصدر الرئيسي لانتقال الميكروبات خلال الأشهر الأولى من الحياة.

أصول الميكروبيوم
يمكن العثور على تلميحات حول ميكروبيوم الرضيع في المقالات التي تعود إلى قرن من الزمان حول البكتيريا المتكافئة في براز الرضع. كاناندرو لوغان أخصائي علم الأمراض السريرية بالكلية الملكية للأطباء في إدنبرة اسكوتلندا أول من أفاد قبل 100 عام بأن البكتيريا الموجودة في مسحات البراز من الرضع الذين تم إرضاعهم من الثدي كانت تقريباً نوعاً واحداً من العصيات التي تُعرف اليوم باسم جنس بفيدوباكتريوم (Bifidobacterium).
وعلى النقيض من ذلك، كانت مسحات البراز من الرضع الذين تمت تغذيتهم على الحليب الصناعي في ذلك الوقت تحتوي على تنوع من البكتيريا مع وجود عدد قليل نسبياً من بكتيريا بفيدوباكتريوم أكثر تشابهاً مع التنوع الميكروبي الموجود في الرضّع اليوم.
كانت هذة التغييرات اللافتة للنظر في تركيبة الميكروبيوم المعوية التي شوهدت خلال القرن الماضي متوافقة مع اكتشاف أن الرقم الهيدروجيني البرازي عند الرضاعة الطبيعية قد ارتفع بشكل كبير من 5.0 إلى 6.5 خلال المائة عام الماضية.
والرقم الهيدروجيني (الحموضة)، إذا كان منخفضاً فإنه يثبط البكتيريا المرضية في البراز، لذلك نلاحظ أن البول في الإنسان المتعافى حامضي، والشيء نفسه ينطبق على المهبل والأمعاء ومن ثم البراز.
وهذا التغير يرتبط بفقدان الأجيال الواضح من البفيدوباكتريوم، وتصاحب ذلك زيادة في مسببات الأمراض المحتملة. ومن المحتمل أن يكون الانخفاض في بكتيريا بفيدوباكتريوم في ميكروبات الأمعاء للرضع نتيجة غير مقصودة للممارسات الطبية التي توجه لإنقاذ الأرواح، ولكنها لا تدعم نمو بفيدوباكتريوم. وتشمل هذه الممارسات الطبية العلاج بالمضادات الحيوية التي تكون البيفيدوباكتريوم حساسة لها أو بسبب حليب الأطفال الصناعي الذي لا يوفر الغذاء المحدد الذي تتطلبه البكتيريا أو بسبب أعداد أكبر من الولادات القيصرية التي تتجاوز المسار الذي يتم من خلاله نقل البكتيريا من الأم إلى الطفل.
وقد أدت هذه الممارسات الطبية إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض الحساسية والمناعة الذاتية السائدة في الدول الغنية، إذ إن جميعها تقلل من البفيدوباكتريوم وتزيد من الميكروبات الالتهابية في سن الرضاعة المبكرة خلال الفترة الحرجة لتطور الجهاز المناعي، وبالتالي قد يزيد من خطر الإصابة بأمراض المناعة في وقت لاحق من الحياة.
ولفهم سبب تغير ميكروبات الأمعاء لدى الرضع بشكل كبير خلال القرن الماضي، فإن استعمارها لدى الرضع عند الولادة يبدأ بالتعرض للميكروبات الأمومية، إذ إن معظمها ميكروبات مهبلية وبرازية للرضع الذين ولدوا طبيعياً أو بشكل أساسي ميكروبات من الجلد والفم والبيئة المحيطة عند الرضع الذين يولدون بالولادة القيصرية. ثم بعد الولادة يتم استعمار أمعاء الرضَّع بمجموعة كبيرة من الميكروبات الموجودة في البيئة بما في ذلك حليب الثدي، لكن الأنواع التي تستمر في أن تصبح أعضاء دائمة في مجتمع الميكروبات هي تلك التي تنتقل عن طريق أمهات الأطفال الرضع من خلال الاتصال الجسدي. ويواصل الأطفال اكتساب أنواع الميكروبات المعوية من أمهاتهم وغيرهم في المجتمع خلال حياتهم المبكرة.

سكريات حليب الأم
إن العامل الرئيسي في تحديد البكتيريا التي تزدهر في القناة الهضمية هو توافر مصادرها الغذائية من الكربوهيدرات، وبالتالي لكي يعمل البروبيوتيك فإنه يجب اختيار الكائنات الحية الدقيقة، بحيث يتطابق مصدر الغذاء الذي تستخدمه بكفاءة مع ما هو متاح، أي بمعنى آخر طعام موجود لتلك الكائنات لا تستهلكه بكتيريا أخرى.
وبطبيعة الحال، لجأت الباحثتان سميلويتز وهازارد تافت إلى حليب الثدي الذي كان طوال ملايين السنين هو الطعام الوحيد الذي يمكنه تغذية الأطفال وحمايتهم حصرياً خلال الأشهر الستة الأولى من الحياة. كما يوفر حليب الأم المغذيات بالإضافة إلى الجزيئات غير الغذائية والنشطة بيولوجياً بما في ذلك الكربوهيدرات المعروفة باسم السكريات قليلة التعدد في حليب الأم، وهي فئة متنوعة من جزيئات الكربوهيدرات المعقدة التي يتم تصنيعها بواسطة الغدة الثديية مع ما يقرب من 200 نوع جزيئي مختلف، فإنها تمثل ثالث أكثر المكونات الصلبة وفرة في حليب الأم بعد سكر اللاكتوز والدهون. وتؤكد النتائج التي جاءت بها سميلويتز وهازارد تافت أن البروبيوتيك قد لا تؤدي عملها لدى الرضع عندما يكون هناك عدم تطابق بين احتياجات الكربوهيدرات من البروبيوتيك وتوفر الكربوهيدرات عالية التحديد مثل السكريات قليلة التعدد في حليب الأم.
ونظراً لأن بكتيريا بفيدوباكتريوم إنفانتس تستهلك بكفاءة جميع السكريات قليلة التعدد الموجودة في حليب الثدي فمن المحتمل أن تجد مكاناً بيئياً مفتوحاً ثم تتفوق على الميكروبات الأخرى، خصوصاً تلك التي تعمل كمسببات الأمراض المؤدية إلى الالتهاب.



«إعادة التحريج»... عوائد إيجابية للمجتمعات الأفريقية

دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
TT

«إعادة التحريج»... عوائد إيجابية للمجتمعات الأفريقية

دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)

شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في الاهتمام بمبادرات «إعادة التحريج» بصفتها استراتيجية فعّالة لمواجهة آثار تغيّر المناخ وتحسين سبل معيشة السكان المحليين.

«إعادة التحريج»

تعني «إعادة التحريج»، وفق الأمم المتحدة، استعادة الأراضي التي كانت مغطاة بالغابات من خلال زراعة أشجار جديدة لتعويض الغطاء الحرجي المفقود، بخلاف التشجير الذي يركّز على زراعة أشجار في مناطق لم تكن غابات أصلاً.

وتهدف هذه العملية إلى معالجة تحديات بيئية كبيرة، مثل: التغير المناخي وتآكل التربة، كما تعزّز التنوع البيولوجي، فضلاً عن فوائدها البيئية، مثل تحسين جودة الهواء. وتُسهم «إعادة التحريج» في خلق فرص عمل وتحسين الأمن الغذائي.

ومن أبرز هذه المبادرات «تحدي بون» (Bonn Challenge)، الذي أُطلق عام 2011 بوصفه حملة عالمية، تهدف إلى إعادة تأهيل 350 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة والغابات بحلول عام 2030.

وتشمل هذه المبادرة أساليب متعددة؛ مثل: الزراعة المكثفة لتكوين غابات جديدة لأغراض بيئية أو إنتاجية، والزراعة المختلطة التي تدمج الأشجار مع المحاصيل، أو تربية الحيوانات لزيادة الإنتاجية، بالإضافة إلى التجدد الطبيعي حيث تترك الطبيعة لاستعادة الغابات ذاتياً دون تدخل بشري.

وفي دراسة أُجريت من قِبل فريق بحث دولي من الدنمارك وكندا والولايات المتحدة، تم تحليل تأثير «إعادة التحريج» في تحسين مستويات المعيشة لدى 18 دولة أفريقية، ونُشرت النتائج في عدد 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، من دورية «Communications Earth & Environment».

واعتمدت الدراسة على بيانات أكثر من 200 ألف أسرة بين عامي 2000 و2015. واستخدم الباحثون أساليب إحصائية دقيقة لتحديد العلاقة الإيجابية بين إعادة التحريج وتحسّن مستويات المعيشة.

واستندوا إلى مؤشرات متنوعة لقياس الفقر تشمل التعليم والصحة ومستويات المعيشة؛ حيث أظهرت النتائج أن زراعة الأشجار أسهمت بشكل مباشر في تحسين الدخل وتوفير فرص عمل، بالإضافة إلى آثار اقتصادية غير مباشرة. كما أظهرت أن مناطق زراعة الأشجار كان لها تأثير أكبر من مناطق استعادة الغابات الطبيعية في تخفيف حدة الفقر.

يقول الباحث الرئيس للدراسة في قسم علوم الأرض وإدارة الموارد الطبيعية بجامعة كوبنهاغن، الدكتور باوي دن برابر، إن الدراسة تطرح ثلاث آليات رئيسة قد تُسهم في تقليص الفقر، نتيجة لتوسع مزارع الأشجار أو استعادة الغابات.

وأضاف، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن الآليات تتمثّل في توفير الدخل من خلال بيع منتجات الغابات، مثل: المطاط أو زيت النخيل، ما يسمح للأسرة بزيادة مواردها المادية. كما أن زراعة الأشجار قد تؤدي إلى خلق فرص عمل للسكان المحليين، في حين يمكن أن تُسهم مناطق التجديد البيئي في تحسين الظروف البيئية، ما يفيد الأسر المحلية من خلال النباتات والحيوانات التي يمكن بيعها وتوفير دخل إضافي للسكان.

ووفقاً لنتائج الدراسة، هناك مؤشرات من بعض البلدان؛ مثل: أوغندا، وبنين، أظهرت زيادة في النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار مقارنة بتلك التي لا تحتوي عليها.

تأثيرات الاستدامة

كما أشارت الدراسة إلى أن برامج التشجير في أفريقيا التي تهدف إلى استعادة أكثر من 120 مليون هكتار من الأراضي عبر مبادرات، مثل: «السور الأخضر العظيم»، و«الأجندة الأفريقية لاستعادة النظم البيئية»، تمثّل جهداً كبيراً لمكافحة الفقر وتدهور البيئة.

وتُسهم نتائج الدراسة، وفق برابر، في النقاش المستمر حول استدامة تأثيرات زراعة الأشجار في التنوع البيولوجي والمجتمعات المحلية، من خلال تسليط الضوء على الفوائد المحتملة لهذه المبادرات عندما يتمّ تنفيذها بشكل مدروس ومتوازن. كما أظهرت أن مبادرات زراعة الأشجار، مثل «تحدي بون»، يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية للمجتمعات المحلية، سواء من حيث تحسين مستوى المعيشة أو تعزيز التنوع البيولوجي.

وتوصي الدراسة بأهمية مشاركة المجتمعات المحلية في هذه المبادرات بصفتها شرطاً أساسياً لضمان استدامتها ونجاحها، فالتفاعل المباشر للمجتمعات مع المشروعات البيئية يزيد من تقبلها وفاعليتها، مما يعزّز فرص نجاحها على المدى الطويل.