مصحف ملوّن بنثرات الذهب والرسومات الصينية في مزاد لندني

مجموعة الفارسي وسجادة من عصر شاه جاهان ضمن فنون العالم الإسلامي في «كريستيز»

TT

مصحف ملوّن بنثرات الذهب والرسومات الصينية في مزاد لندني

جاءتني صورتها وصوتها عبر «زووم»، تحمل سارة بلمبلي خبيرة الفن الإسلامي بدار كريستيز حماستها المعتادة مصحوبة بابتسامة عريضة، تتحدث عن أهم القطع التي تعرضها الدار ضمن مزادها للفن الإسلامي الذي تأخر موعده وأحيل للعالم الافتراضي بسبب «كورونا».
تتحدث بحب وشغف عن القطع أمامنا، وتشير إلى أن العرض عبر شاشة زووم لا يفيها حقها، وأتفق معها، خاصة عندما عرضت صورة القطعة الأهم في المزاد، وهي مصحف ملون الأوراق مذهب ومزخرف بنثرات الذهب على صفحاته وبرسومات الأشجار والنباتات والمباني. غير أن الزخارف هنا لا تشبه غيرها من الزخارف التي برع فيها الخطاطون المسلمون عبر العصور، ولكنها رسومات صينية الطابع، وكأنما نطالع ملفوفة صينية برسوماتها المميزة ولكنها هنا تتواضع وتتراجع تحت حروف وكلمات القرآن الحكيم. الصور مدهشة بالفعل وأتوقع أن المصحف في الطبيعة سيكون له وقع أكبر وتجيب بلمبلي بالإيجاب.
تشرح نسب الكتاب وتاريخه وتقول إنه في البداية يمكن رؤيته على أنه دليل على العلاقات الدبلوماسية ما بين بلاط التيموريين في إيران وبين إمبراطورية مينغ الصينية، فالمصحف كتب على ورق مستورد من الصين وتضيف: «سجلت وثائق كثيرة الرحلات الدبلوماسية حاملة الهدايا الفاخرة ما بين البلاطين ونعرف أن السفراء من الصين أحضروا معهم الحرير والقطيفة والخزف والورق أيضاً ومع الوقت أصبح هناك اتجاه لاستخدام الورق الصيني الفاخر لكتابة المخطوطات». تشير إلى لون الصفحة المعروضة أمامنا في الصورة وهي باللون الأرجواني وتقول: «مالا نراه هنا هو أن باقي الصفحات أيضاً ملونة ولكن بألوان مختلفة مثل البرتقالي والأزرق والوردي والأخضر. استخدام الأوراق الملونة في المخطوطات كان أمراً معروفاً في العالم الإسلامي وقتها فعلى سبيل المثال هناك المصحف الأزرق الشهير وغيره من المخطوطات الملونة». ولكن المصحف أمامنا هنا يتميز بما هو أكثر من الألوان البديعة بالفعل، فهو أيضاً كتب على ورق خاص يتميز بكونه مصقولاً وحريري الملمس، وهي نوعية ورق التي يستخدمها الصينيون في كتابة الملفوفات الضخمة.
أسال إن كانت الصفحات أمامنا هي الوحيدة التي تحمل الرسومات والزخارف والتذهيب، وتقول إن كل الصفحات مزخرفة، وتشير إلى أن هناك عدداً من الأمثلة لمخطوطات كتبت على الورق الصيني وزخرف بطريقة مماثلة وأشهرها مصحف يقبع في مجموعة متحف ديترويت الأميركي.
المصحف معروض للبيع في المزاد الإلكتروني للدار يوم 25 يونيو (حزيران) الجاري، ويقدر له سعر يتراوح ما بين 600 ألف إلى 900 ألف جنيه إسترليني.

- الشعر المعطر
وبما أننا في حضرة المخطوطات الملونة تلفت بلمبلي انتباهي لكتاب آخر ملون الأوراق أيضاً وهو كتاب بعنوان «تحفة الأحرار» للشاعر نور الدين جامي يعود للدولة التيمورية وبداية الدولة الصفوية في النصف الأول من القرن الـ16. الكتاب يسرق النظر للوهلة الأولى بلون ورقه الأصفر وأيضاً بالزخارف الملونة المستفيضة والتي تحيط بالأبيات الشعرية في منتصف كل صفحة. الكتاب بريشة الخطاط سلطان محمد نور وهو من أشهر الخطاطين في تلك الفترة، «يمكن اعتباره سلطان نور الأب الروحي لخط النستعليق» تعلق الخبيرة وتضيف: «عرف عنه أنه خطاط مبتكر وعرف عنه أيضاً استخدام الألوان وفي العادة يكتب مخطوطاته بحبر ملون، وهنا يستعرض براعته في استخدام الحبر الملون». تقول إن باقي صفحات المخطوطة مزخرفة أيضاً بأحبار ملونة مستخرجة من النباتات مثل الكركم والحناء والزعفران وهي ألوان كانت رائجة الاستخدام في البلاط الملكي وقتها. وكأن الألوان البديعة والخط الرشيق لم يكفِ الحرفي فأضاف العطر إلى أحباره لتصبح مطالعة المخطوطة بمثابة تجربة شاملة لكل الحواس حسب ما تشير بلمبلي. وتتميز كل صفحة بإطار زخارف مختلف بألوان بدرجات الأخضر والوردي والبرتقالي.

- الإبريق المملوكي
ننتقل إلى مصر المملوكية، وهنا نتوقع مثالاً لإبداع الحرفي المصري من النحاس والفضة، وهو بالفعل ما يطالعنا عبر صورة لإبريق من الذهب والفضة يعود لعهد السلطان ابن قلاوون. الإبريق الذي أعيد تنظيفه ليبرز جمال النقوشات والزخارف عليه يعرض للبيع بمبلغ ما بين 200 ألف إلى 300 ألف جنيه إسترليني. تشير بلمبلي إلى التطعيم بالذهب والفضة يشير إلى أن الإبريق صنع لأمير أو شخصية رفيعة. يتميز الابريق أيضاً بأنه واحد من خمسة أباريق مماثلة بقيت من ذلك الوقت: «من القطع المعدنية التي نعرضها لم نر الكثير من الأباريق من العصر المملوكي يمكن عدهم على الأصابع وأغلبهم من مقتنيات المتاحف، ولعل أقرب تلك القطع لهذه موجودة في المتحف الإسلامي بالقاهرة وأخرى في متحف المتروبوليتان بنيويورك ومتحف بارجيلو بفلورنسا.

- مجموعة الفارسي
يضم المزاد عددً من القطع من مجموعة د. محمد سعيد فارسي أمين مدينة جدة الراحل، لعل أبرزها مخطوطة قرآنية بالخط الكوفي تعود إلى القرن التاسع ميلادي من شمال أفريقيا. تضم المخطوطة أكثر من نصف أجزاء القرآن وتتميز بالزخارف الذهبية في أسماء السور والعلامات.
من المجموعة أيضاً نرى إبريقاً من الخزف الأزرق يعود للربع الأول من القرن الـ13 في إيران، يتميز بتقنية مركبة في الزخارف والثقوب على جسم الابريق، تشير بلمبلي إلى أن الثقوب لا تؤثر على استخدام الإبريق إذ يوجد إناء داخلي لوضع الماء، وتشير إلى أن الخبراء عثروا سابقاً على بقايا قطع من القطن وجدت ملتصقة بالثقوب، وهو ما يشير إلى أن مستخدمي الإبريق لجأوا لاستخدام القطن المبلل ودسه في الثقوب لتبريد الماء داخل الإبريق.

- سجاد العالم الإسلامي
ولا يكتمل أي مزاد لفنون العالم الإسلامي بدون السجاد وهنا أنتقل للحديث مع الخبيرة في كريستيز لويز برودهيرست التي تستعرض لنا عدداً من القطع التي يضمها المزاد ومنها سجادة من القوقاز من القرن الـ18. تشير برودهيرست إلى تميز القطعة بخلفيتها الصفراء، وهو أمر غير معتاد إذا جرت العادة في تلك الفترة استخدام ألوان الأزرق والأحمر، وتشير إلى أن هناك تسعة قطع مماثلة موجودة في متاحف متفرقة حول العالم.
وننتقل إلى قطعة صغيرة مقتطعة من سجادة حريرية تعود لعصر المغول صنعت في شمال الهند بين 1630 إلى 1640. القطعة تبدو مخملية الملمس مزينة بأفرع نباتات رقيقة، تشير برودهيرست إلى أن القطعة هي جزء من سجادة للصلاة صنعت من صوف الباشمينا وتصفها بأنها «جوهرة صغيرة». السجادة تم نسجها في عهد السلطان شاه جاهان، والمعروف عنه أنه أعاد إحياء الشغف بتصوير النباتات والزهور، «هنا نرى تصوير النبات والأفرع والزهور منسوج بدقة شديدة، يمكننا رؤية ذلك بالنظر لخلف القطعة نرى دقة الغزل، وهو أمر يدعونا للتفكير فيما عانته السيدات اللواتي نسجنها من ضعف في الأبصار بعد الانتهاء من السجادة». تشير إلى أن القطعة أمامنا مكونة من جزأين تم خياطتهما سوياً وأن باقي أجزاء السجادة الأصلية توزعت في أنحاء العالم وتقبع أكبرها في مجموعة خاصة في بروكسل والأخرى في متحف متروبوليتان بنيويورك.


مقالات ذات صلة

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الخليج يوضح المعرض أهمية الفنون في مصاحبة كتابة المصاحف ونَسْخها عبر العصور (مكتبة الملك عبد العزيز)

معرض في الرياض لنوادر المصاحف المذهّبة

افتُتح، في الرياض، أول من أمس، معرض المصاحف الشريفة المذهَّبة والمزخرفة، الذي تقيمه مكتبةُ الملك عبد العزيز العامة بفرعها في «مركز المؤسس التاريخي» بالرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
آسيا في هذه الصورة التي التُقطت في 6 فبراير 2024 رجل يدلّ على ضريح الصوفي الحاج روزبيه المهدم في نيودلهي (أ.ف.ب)

هدم ضريح ولي صوفي في إطار برنامج «للتنمية» في دلهي

في أوائل فبراير (شباط)، صار ضريح صوفي أحدث ضحايا «برنامج الهدم» الذي تنفذه هيئة تنمية دلهي لإزالة «المباني الدينية غير القانونية» في الهند.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
يوميات الشرق مصلون يشاركون في جلسة للياقة البدنية بعد الصلاة في مسجد منطقة باغجلار في إسطنبول في 8 فبراير 2024 (أ.ف.ب)

حصص رياضة داخل مساجد تركية تساعد المصلين على تحسين لياقتهم

يشارك مصلّون في حصة تدريبات رياضية في مساجد بمدينة إسطنبول التركية بعد انتهاء صلاة العصر، ويوجد معهم مدرّب لياقة بدنية.

«الشرق الأوسط» (إسطنبول)

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
TT

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

«ماريا»، الذي سبق وتناولناه هنا قبل يومين، ليس سوى أحد الأفلام المعروضة على شاشة الدورة 81 لمهرجان «ڤينيسيا»، (انطلق في 28 من الشهر الماضي وتسدل ستارته في 7 سبتمبر «أيلول» الحالي)، الذي يتناول حياة شخصيات شهيرة. إذ إن هناك أفلاماً عدّة تتحدّث عن شخصيات حقيقية أخرى بينها ثلاثة أفلام غير درامية.

إنها أفلام وثائقية وتسجيلية عن أسماء مشهورة تتباعد في أزمانها وشخصياتها كما في أدوارها في الحياة. هناك «رايفنشتال» عن المخرجة الألمانية ليني رايفنشتال التي عاشت نحو 101 سنة، و«جون ويوكو» عن حياة المغني جون لينون (من فرقة البيتلز) والمرأة التي ارتبط بها، كذلك يطالعنا فيلم المخرج التسجيلي إيرول موريس «منفصلون» الذي يتناول بعض ما تمر به الولايات المتحدة من أزمات بخصوص المهاجرين القادمين من فنزويلا وكولومبيا ودول لاتينية أخرى.

في هذا النطاق، وبالمقارنة، فإن «ماريا» للمخرج التشيلي بابلو لاراين، يبقى الإنتاج الدرامي الوحيد بين هذه المجموعة متناولاً، كما ذكرنا، الأيام الأخيرة من حياة مغنية الأوبرا.

المخرجة المتّهمة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية والسياسية. حققت ليني في حياتها 8 أفلام، أولها سنة 1932 وآخرها «انطباعات تحت الماء» (Impressions Under Water) سنة 2002. لكن شهرتها تحدّدت بفيلميها «انتصار الإرادة» (Triumph of the Will) (1935)، و«أولمبيا» الذي أنجزته في جزأين سنة 1938.

السبب في أن هذين الفيلمين لا يزالان الأشهر بين أعمالها يعود إلى أنهما أُنتجا في عصر النهضة النازية بعدما تبوأ أدولف هتلر رئاسة ألمانيا.

دار «انتصار الإرادة» عن الاستعراض الكبير الذي أقيم في عام 1934 في مدينة نورمبيرغ، الذي ألقى فيه هتلر خطبة نارية أمام حشد وصل تعداده إلى 700 ألف شخص. فيها تحدّث عن ألمانيا جديدة مزدهرة وقوية وعن مستقبل كبير ينتظرها.

الفيلم الثاني من جزأين كان عن الأولمبياد الرياضي الذي أقيم صيف 1936، وحضرته أمم كثيرة بعضها من تلك التي تحالفت لاحقاً ضد الاحتلال الألماني لأوروبا.

شغل المخرجة على الفيلمين فعلٌ فني لا يرقى إليه الشك. تصوّر بثراء كل ما يقع أمامها من الجموع إلى المسيرات العسكرية والرياضية، ومنها إلى هتلر وهو يخطب ويراقب سعيداً الاستعدادات العسكرية التي خاضت لاحقاً تلك الحرب الطاحنة التي خرجت ألمانيا منها خاسرة كلّ شيء.

تبعاً لهذين الفيلمين عدّ الإعلام السياسي الغربي المخرجة رايفنشتال ساهمت في الترويج للنازية. تهمة رفضتها رايفنشتال. وأكدت، في مقطع من الفيلم مأخوذ عن مقابلة مسجّلة، أنها لم تنفّذ ما طُلب منها تنفيذه، ولم تنتمِ إلى الحزب النازي (وهذا صحيح) ولم تكن تعلم، شأن ملايين الألمان، بما يدور في المعتقلات.

ليني رايفنشتال خلال تصوير «أولمبياد» (مهرجان ڤينيسيا)

يستعرض الفيلم حياة المخرجة التي دافع عن أعمالها نُقاد السينما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. فيلماها لا يزالان من أفضل ما طُبع على أشرطة في مجال الفيلم الوثائقي إلى اليوم، وذلك عائد إلى اختياراتها من اللقطات والمشاهد وتوثيقها لحدثين مهمّين لا يمكن تصوّر السينما من دون وجودهما بدلالاتهما المختلفة. النتيجة الواضحة إلى اليوم، حتى عبر المقتطفات التي يعرضها الفيلم، تفيد بحرفة متقدّمة وتعامل رائعٍ مع الحدث بأوجهه المتعدّدة.

ينتهج المخرج فايل موقفاً يشيد فيه بالمخرجة ومجمل أفلامها السبعة. لا يفوته الاعتراف بأن رايفنشتال كانت فنانة سينما حقيقية، لكن يوجّه مشاهديه في الوقت نفسه إلى أن هذا الفن لم يكن سوى مظهر دعائي للنازية، وأنها لعبت الدور المباشر في البروباغاندا في الفترة التي سبقت الحرب.

حيال سرد هذا التاريخ يستعين المخرج فايل بمقابلات متعددة أدلت بها (معظمها بعد نهاية الحرب) وواجهت فيها منتقديها كما يعمد المخرج إلى مشاهد من حياتها الخاصة. زواجها. رحلتها إلى السودان خلال اضطرابات عام 2000 حيث تحطمت الطائرة المروحية التي استقلّتها وأصيبت برضوض. رحلتها تلك كانت بصدد التعرّف على البيئة النوبية، وكانت قد حصلت على الجنسية السودانية قبل سنوات (إلى جانب جنسيتها الألمانية وإقامتها البريطانية)، وبذلك كانت أول شخص غربي يُمنح الجنسية السودانية.

لا يأتي الفيلم بجديد فِعليّ لما يسرده ويعرضه. هناك كتب عديدة دارت حولها أهمها، مما قرأ هذا الناقد، «أفلام ليني رايفنشتال» لديفيد هنتون (صدر سنة 2000) و«ليني رايفنشتال: حياة» الذي وضعه يورغن تريمبورن قبل سنة من وفاة المخرجة عام 2003.

هو فيلم كاشف، بيد أنه يتوقف عند كل المحطات التي سبق لمصادر أخرى وفّرتها. محاولة الفيلم لتكون «الكلمة الفصل» ناجحة بوصفها فكرة وأقل من ذلك كحكم لها أو عليها.

جون لينون ويوكو أونو

في الإطار الفني، ولو على مسافة كبيرة في الاهتمام ونوع المعالجة، يأتي (One to One: John & Yoko) «واحد لواحد: جون ويوكو» لكيڤن ماكدونالد، الذي يحيط بحياة الثنائي جون لينون وزوجته يوكو أونو اللذين وقعا في الحب وانتقلا للعيش في حي غرينتش فيلاج في مدينة نيويورك مباشرة بعد انفراط فريق «البيتلز» الذي كان جون لينون أحد أفراده الأربعة.

النقلة إلى ذلك الحي لم تكن اختياراً بلا مرجعية سياسية كون غرينتش فيلاج شهدت حينها حياة ثقافية وفنية وسياسية حافلة تعاملت ضد العنصرية وضد حرب فيتنام، وكانت صوت اليسار الشّعبي الأميركي إلى حين فضيحة «ووترغيت» التي أودت بمنصب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. يكشف فيلم مكدونالد (الذي سبق وأُخرج قبل أعوام قليلة، فيلماً عن المغني الجامايكي بوب مارلي) عن اهتمام لينون وزوجته بتلك القضايا السياسية. جون الذي باع منزله المرفّه في ضواحي لندن واستقر في شقة من غرفتين في ذلك الحي، ويوكو التي لعبت دوراً فنياً وتثقيفياً في حياته.

لا يكتفي الفيلم بالحديث عن الثنائي معيشياً وعاطفياً بل عن المحيط السياسي العام ما يُعيد لمشاهدين من جيل ذلك الحين بعض الأحداث التي وقعت، ويوجه المشاهدين الذين وُلدوا سنوات صوب تقدير الثنائي، كما لم يفعل فيلم ما من قبل. ليس لأن «واحد لواحد: جون ويوكو» فيلم سياسي، بل هو استعراض منفّذ مونتاجياً بقدر كبير من الإجادة لحياة ثنائيّ موسيقيّ مطروحة على الخلفية المجتمعية المذكورة.

إرث ترمب

نيسكون مضى ومعه قناعاته وبعد عقود حلّ دونالد ترمب ليسير على النهج اليميني نفسه.

يرتسم ذلك في «منفصلون» (Separated) للمخرج المتخصص بالأفلام التسجيلية والوثائقية السياسية إيرول موريس. من بين أفضل أعماله «ضباب الحرب» (The Fog of War)، الذي تناول الحرب العراقية وكيف تضافرت جهود الحكومة الأميركية على تأكيد وجود ما لم يكن موجوداً في حيازة العراق، مثل القدرات النّووية والصواريخ التي يمكن لها أن تطير من العراق وتحط في واشنطن دي سي (وكثيرون صدّقوا).

«منفصلون» لديه موضوع مختلف: إنه عن ذلك القرار الذي اتخذه ترمب خلال فترة رئاسته ببناء سياج على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لمنع تدفق المهاجرين القادمين من الدول اللاتينية بدافع الفقر وانتشار العنف.

كان يمكن تفهّم هذا القرار لو أنه توقف عند هذا الحد، لكن ترمب تلاه بقرار آخر يقضي بفصل الأطفال عن ذويهم الراغبين في دخول البلاد عبر الحدود. بذلك لدى هؤلاء إمّا العودة من حيث أتوا مع أولادهم، أو العودة من دونهم على أساس وجود هيئات ومؤسسات أميركية ستعني بهم.

مثل هذا الموقف، يؤكد الفيلم، غير الأخلاقي، وكان له معارضون ومؤيدون. بعض المعارضين من أعضاء الكونغرس انقلبوا مؤيدين ما بين مؤتمر صحافي وآخر.

محور الفيلم هو رفض هذا الانفصال على أسس أخلاقية وإنسانية والمتهم الأساسي في فرض العمل به هو ترمب الذي لم يكترث، والكلام للفيلم، لفظاعة الفصل بين الآباء والأمهات وأطفالهم. تطلّب الأمر أن يخسر ترمب الانتخابات من قبل أن يلغي بايدن القرار على أساس تلك المبادئ الإنسانية، لكن بذلك تعاود أزمة المهاجرين حضورها من دون حل معروف.

يستخدم المخرج موريس المقابلات لتأييد وجهة نظره المعارضة وأخرى لرفضها، لكنه ليس فيلماً حيادياً في هذا الشأن. مشكلته التي يحسّ بها المُشاهد هي أن الفيلم يتطرّق لموضوع فات أوانه منذ أكثر من عامين، ما يجعله يدور في رحى أحداث ليست آنية ولا مرّ عليه ما يكفي من الزمن لإعادة اكتشافها ولا هي بعيدة بحيث تُكتشف.