مثقفو «فلسطين 48» وفنانوها بين حصار عربي وملاحقات إسرائيلية

جواز السفر الإسرائيلي «مواطنة».. والهوية مثل الأرض فلسطينية متجذرة

سميح القاسم  -  أنطوان شلحت  -  منال موسى  -  هيثم خلايلي  -  نسرين فاعور
سميح القاسم - أنطوان شلحت - منال موسى - هيثم خلايلي - نسرين فاعور
TT

مثقفو «فلسطين 48» وفنانوها بين حصار عربي وملاحقات إسرائيلية

سميح القاسم  -  أنطوان شلحت  -  منال موسى  -  هيثم خلايلي  -  نسرين فاعور
سميح القاسم - أنطوان شلحت - منال موسى - هيثم خلايلي - نسرين فاعور

عند سؤاله عن منعه من دخول بعض الدول العربية، ومهاجمة البعض للجهات المنظمة لأمسياته في دول عربية أخرى، كونه يحمل «الجنسية الإسرائيلية»، أجابني الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم، قائلا: «لو خيروني أن يدمغوا نجمة داود على جبيني أو قفاي أو أن أغادر منزلي وبلدي الرامة لاخترت الدمغ».
واستغرب صاحب «منتصب القامة» هذه «المعادلة العربية الغريبة في التعامل مع أصحاب الأرض ممن صمدوا في منازلهم». وقال: «الدول العربية هي المسؤولة عن ضياع فلسطين، والآن تعاقبنا لأننا صمدنا في منازلنا، ورفضنا التهجير، وأجبرنا على حمل الجنسية الإسرائيلية كي لا نخسر أرضنا وحقوقنا».
ويعاني الفنانون والمثقفون في الأراضي المحتلة عام 1948 (الذين أطلقت عليهم نعوت مختلفة: الفلسطينيون في الداخل المحتل، فلسطينيو الخط الأخضر، عرب الداخل، عرب إسرائيل)، من حصار من بعض الدول العربية بدعوى أنهم «إسرائيليون».
ومن الحكايات التي تجسد هذا الوضع، ما رواه لي، ذات مرة، سمير جبران، الأخ الأكبر والمؤسس لفرقة عازفي العود الفلسطينية الهوية والعالمية الشهرة، المعروفة بـ«الثلاثي جبران»، وهم من مدينة الناصرة المحتلة عام 1948. قال جبران، وكان يدرس الموسيقى في القاهرة، إنه قرر، من باب تحسين وضعه المادي، العمل، فبحث كثيرا، إلى أن وجد عملا كعازف عود خلف راقصة. ولكن هذه طردته حين علمت أنه «إسرائيلي».
أما الممثلة نسرين فاعور، بطلة فيلم «أميركا» للمخرجة الفلسطينية الأردنية الأميركية شيرين دعيبس، وهي من ترشيحا في أراضي 48، فقد حازت جائزة أفضل ممثلة في مهرجان القاهرة السينمائي، قبل سنوات عن دورها في «أميركا»، لكن إدارة المهرجان لم تقدم لها دعوة للحضور، بذريعة أنها «إسرائيلية»، فما كان منها إلا أن سافرت إلى القاهرة بجواز إسرائيلي كـ«سائحة»، حيث فاجأت إدارة المهرجان وبعض الإعلاميين بصعودها غير المتوقع إلى المسرح، عند إعلان اسمها كأفضل ممثلة، وهو ما أثار عاصفة إعلامية في اليوم التالي.

وتتذرع النقابات والاتحادات الثقافية والفنية، وحتى الصحافية في عدد من الدول العربية، في تبرير مواقفها، بقول إن ما تقوم به من إجراءات، من بينها منع مشاركة الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية، في المهرجانات والفعاليات الثقافية والأدبية والفنية، وحتى منعهم من المشاركة في أعمال درامية أو أفلام عربية، بما فيها التي تتناول القضية الفلسطينية، بأنه عمل «وطني مقاوم للتطبيع»، ويحول دون «تغلغل الثقافة الإسرائيلية في المجتمعات العربية».
أما على صعيد الأدب، فالكتب المنشورة في دور النشر في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، على قلتها، تعاني من صعوبة تسويقها عربيا، لذلك بدأت مساع للتشبيك ما بين دور النشر الفلسطينية ودور نشر أردنية لتسويق الروايات والدواوين والكتب المهمة والرائجة عربيا (طبعات عربية عن دور نشر في الأردن أو أية دولة عربية أخرى).
ولعل آخر «صيحات» سلطات الاحتلال في هذا المجال، التهديدات التي رافقت ولا تزال، مشوار الفنانين الشابين المشاركين في برنامج الهواة «محبوب العرب»، منال موسى، التي خرجت من المسابقة قبل أيام، وهيثم خلايلي، وكلاهما من فلسطينيي 48، وهي تهديدات صدرت عن مسؤولين إسرائيليين، بسبب إصرار الشابين، على فلسطينيتهما، تتهمهما بزيارة دولة معادية (لبنان).
وسرّبت مصادر إعلامية إسرائيلية، قبل أيام، أن منال وهيثم، سيتعرضان للاستجواب من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فور عودتهما من لبنان. فيما كشفت أسرة منال موسى، في أكثر من مناسبة، أنه عند اجتيازها مرحلة الاختبار الثانية في بيروت، وعودتها إلى منزلها في بلدة دير الأسد، قام جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) باستجوابها ومصادرة جواز سفرها الإسرائيلي، كما حدث مع هيثم خلايلي. إلا أن تدخل منظمات حقوقية، دفع سلطات الاحتلال إلى إعادة جوازي السفر خاصتهما، مع العلم أن بانتظارهما «مصيرا مجهولا»، خاصة مع تشديد منال موسى عند خروجها من البرنامج، على أنها «فلسطينية.. فلسطينية.. فلسطينية». فالقانون الإسرائيلي يعاقب كل من يسافر إلى «دولة معادية» بالسجن لمدة 4 سنوات، أو بفرض غرامة مالية باهظة، حيث يقدم من تثبت زيارته إلى القضاء الإسرائيلي.
وفي حديث خاص بـ«الشرق الأوسط»، مع الكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت، الذي كانت السلطات الإسرائيلية منعته، قبل أعوام، من السفر بقرار من رئيس حكومتها آنذاك، إيهود أولمرت، بدعوى أن «سفره يهدد أمن إسرائيل»، قال: أعتقد أن مسألة تواصل فلسطينيي 48 الثقافي مع العالم العربي هي مسألة محسومة تاريخيا ومبدئيا، فضلا عن أنها تتم بأشكال متعدّدة وإن في الحدود الدنيا، وهي لم تُحسم في الآونة الأخيرة فقط، وإنما كانت كذلك منذ عام 1948، وحتى قبل حرب يونيو (حزيران) 1967 التي تسببت من جملة أشياء أخرى، بالتفات العالم العربي إلى هذا الجزء الحي والواعي من الشعب الفلسطيني، بفضل ما عُرف في حينه باسم «ظاهرة شعراء المقاومة».
وأضاف شلحت: «يكفي إيراد حيثية واحدة لإثبات أنه على الرغم من أن العالم العربي كان قبل 1967 يتغاضى، بصورة تكاد تكون تامة، عن العرب الفلسطينيين الذين بقوا في داخل (الكيان الصهيوني) وعن إبداعهم الأدبيّ، فإن سؤال هويتهم القومية العربية كان موتيفا متميزا في الشعر الذي كتبه أبرز شعرائهم منذ أوائل خمسينات القرن العشرين الفائت».
ودللّ: بالإمكان أن نلاحظ أن قصائد تلك الأعوام تنطوي، في معظمها، على قاسم مشترك يتمثل في التماهي مع العالم العربي الكبير، الذي أقيمت إسرائيل في قلبه على الأقلية العربية الباقية فيها. مع ذلك، والحديث لشلحت: «فإن السؤال الذي لا بُدّ من طرحه في هذا السياق هو: هل مسألة هذا التواصل مُدرجة في جدول أعمال القيادة الفلسطينية في الداخل؟.. إن هذا التساؤل لا يأتي من فراغ، ذلك بأنها لو كانت مُدرجة، فمن الحتم أن يسفر ذلك عن اعتماد خطة أو برنامج عمل في سبيل الدفع بها قُدما.. وربما حان الوقت من ضرورة الهجس بخطة كهذه، على أن تُطرح أيضا بمبادرة منّا على أجندة وزراء الثقافة العرب، وعندها لا مفرّ كذلك من الإلحاح على مطلب إزاحة (عقبات قانونية) وسياسية عربية تحدّ بدورها من تكريس هذا التواصل، حتى على المستوى الفرديّ.. ولعلّ التقصير في هذه المسألة هو تقصير في المسؤولية الجماعية لهؤلاء الفلسطينيين من جهة، وتقصير أشد فداحة في المسؤولية الجماعية القومية العربية من جهة أخرى».
وقال شلحت: «علي أن أشير إلى أن الثقافة كانت مفتاحا رئيسيا في تغذية معركة الهوية القومية للفلسطينيين في الداخل وكذلك في مدّها بالوقود اللازم كي تبقى متقدة. وعلى الرغم من جميع التطورات والمستجدات السياسية، الداخلية والإقليمية والدولية، لا تزال الثقافة محتفظة بهذا الموقع المتقدّم في معركة الهوية، التي لم تضع أوزارها بعد. وليس المقصود التغذية التعبوية، على ما فيها من أهمية، وإنما أساسا التغذية الإدراكية العقلانية الحضارية التي يتعاظم وزنها حاليا في ضوء الهجمة الضارية على الثقافة العربية والإسلامية في العالم طرّا».
وتابع: «مثلما أن الثقافة العربية في حواضرها المختلفة لم تكن غائبة عن معركة الهوية التي خاضها فلسطينيو الداخل طوال الأعوام التي انقضت منذ عام 1948، فإنه ينبغي بهذه الثقافة الآن لا أن تبقى حاضرة فقط، وهي كذلك، وإنما أن تعمّق من التحامها مع مختلف جوانب الحياة الثقافية لدينا.. ويستدعي تعميق اللحمة تعريضنا لمختلف الظواهر الثقافية النوعية التي تعزز الانتماء القومي وتكرّس الأفق الحضاري على قاعدة هذا الانتماء».
وخلص شلحت: «يمكن القول، دون خشية الوقوع في المبالغة، إن حضور الثقافة العربية وإسهامها في وقاية الهوية، نجما حتى الآن، عن قوة الإصرار لدى الغالبية الساحقة من الفلسطينيين في الداخل، وكذلك لدى الغالبية الساحقة من قواهم السياسية منذ ثمانينات القرن الفائت، على الانتماء إلى فلسطين والعروبة، والاعتقاد السائد لدى هؤلاء بأن هذا الحضور مقدّر له أن يتعزز أكثر فأكثر إذا ما وقف في صلب غايات مشاريع ثقافية عربية، تكون المبادرة إليها من خلال التنسيق مع أصحاب القرار العرب أنفسهم».



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.