«دون جوان يحكي عن نفسه» بطريقة مغايرة لما ألفناه سابقاً

ترجمة عربية لرواية بيتر هاندكه الحائز «نوبل للآداب» عام 2019

«دون جوان يحكي عن نفسه» بطريقة مغايرة لما ألفناه سابقاً
TT

«دون جوان يحكي عن نفسه» بطريقة مغايرة لما ألفناه سابقاً

«دون جوان يحكي عن نفسه» بطريقة مغايرة لما ألفناه سابقاً

صدرت عن داري نشر «سرد، وممدوح عدوان» الترجمة العربية لرواية «دون جوان يحكي عن نفسه» للروائي والكاتب النمساوي بيتر هاندكه. وقد نقلها من الألمانية إلى العربية المترجم المصري سمير جريس.
في هذه الرواية، يستعيد هاندكه شخصية دون جوان الأسطورية، ويقدِّمها بطريقة مغايرة لما ألِفْناها سابقاً في مسرحيات وروايات وقصائد وأعمالٍ أوبرالية عالمية لكُتّاب وشعراء وفنانين معروفين أمثال تيرسو دي مولينا، موليير، ألكسندر بوشكين، اللورد بايرن، برتولد برشت، ماكس فريش، وموتسارت وغيرهم من المُبدعين الذين اعتادوا أن يقدّموا دون جوان عاشقاً ماجناً يغوي النساء ثم يولّي الأدبار. أما هاندكه، فيكاد يجرّده من الرغبات الجنسية، ويقدِّمه لنا بوصفه شخصاً مُطارَداً يتنقل بين البلدان، لكنه يبحث دائماً عن «الوصال والتواصل»، ولعل هاندكه يقترب كثيراً من رؤية الكاتب التشيكي جوزيف تومان، الذي قدّم دون جوان بطلاً تراجيدياً، وأسقطَ عنه نزعته الحسيّة الشهوانية.
لا تختلف رواية «دون جوان يحكي عن نفسه» عن بقية روايات هاندكه من ناحية الأسلوب والتجليات اللغوية، غير أن الثيمة المركزية لهذه الرواية قد تكون أخفّ وزْناً من سابقاتها مثل «قلق حارس المرمى عند ضربة الجزاء» و«رسالة قصيرة للوداع الطويل» و«الشقاء العادي» و«المرأة العسراء»، وغيرها من رواياته المعروفة، التي تتميّز بموضوعاتها الرصينة التي تترك أثراً قوياً لدى المتلقين، حتى وإن اختلفوا مع آرائه وطروحاته الفكرية.
ولتسليط الضوء على ثيمة هذه الرواية، لا بد من الإشارة إلى الشرارة التي أوقدت في داخله الحريق ودفعته لكتابة هذا النص السردي. يعترف هاندكه في لقاء معه، أجرته الشاعرة اللبنانية جُمانة حدّاد، بأن شرارة «دون جوان» قد لمعت في ذهنه بينما «كان يتنزّه وحيداً في الغابة كعادته، وفاجأه مشهد اثنين عاشقين بين الأشجار». لعل هذا المشهد المُفاجئ الذي أذهله في تلك اللحظة كان بمثابة الوخزة التي فجّرت في ذهنه ينبوعاً من الانثيالات القصصية التي اتّحدت في قالب روائي يتكئ كثيراً على الفنتازيا والنفس الغرائبي. في هذه الرواية، يروي «دون جوان» حكايته بضمير الغائب للراوي، ثم يقوم هذا الراوي بسردها لنا نحن القرّاء.
ثمة شخصيتان هما الثنائي العاشق في الغابة، يُطاردان دون جوان، لكنهما يكفّان عن المُطاردة، ما إن يدخل إلى أطلال دير «بور رويال دي شون» الشهير، الذي يوفِّر الحماية والأمان لكل منْ يلجه حتى وإن اقترف آثاماً كثيرة. ثم إن نظرة الثنائي العاشق كانت تشي بأنّ هذا الدون جوان ليس هو الرجل الذي يُطاردانه، وأنّ مَنْ يريدان قتله هو شخص آخر.
يتحول طاهي مطعم الدير بعد أن يهجرهُ الزبائن تماماً إلى راوٍ عليم، خصوصاً بعد أن سئم من القراءة وأخذ يروي لنا كل ما سمعه من الدون جوان، خلال الأيام السبعة التي تنقّل فيها في عدة بلدان، وشكّلت نسيج النص الروائي الذي يتمحور حول المحطات السبع التي سبقت وصوله إلى الدير القديم.
ففي الرحلة الأولى، يتحدث عن العروس التي هربت من حفل زفافها في القرية القوقازية والتحقت به. وفي الرحلة الثانية يروي قصة المرأة الدمشقية التي ذهبت معه لمشاهدة الدراويش الراقصين في الجامع الكبير، وفي الرحلة الثالثة يسرد حكاية امرأتين تعرّف إليهما في مدينة سبتة المغربية، ثم يتكلم عن امرأة نرويجية مريضة أو مجنونة تتخلى عن الكنيسة كي تقابله سراً، ثم يلتقي بالمرأة الهولندية التي يطاردها زعيم القوادين. أما السابعة والأخيرة فيلتقيها في بلد لا اسم له. تبدو هذه الحكايات أشبه بقصص «ألف ليلة وليلة»، حيث يتسع مسرح الأحداث لشخصيات مختلفة من عدة بلدان في ثلاث قارات تبدأ بجورجيا، ثم تمتد إلى سوريا والمغرب والنرويج وهولندا، وتنتهي في بلد لا اسم له.
يؤكد الراوي بأنه خلال الأيام السبعة ظهر في حديقة الدير عدة دون جوانات، لكنهم كانوا مزيّفين كلهم باستثناء الدون جوان الذي استقبله في منزله المهجور، الذي يروي حكايات حقيقية لا يتسرّب إليها الكذب والخداع.
يعوِّل هاندكه كثيراً على جمال اللغة وعمقها الأدبي، الذي التفت إليه منذ صباه، ولعل هجومه على «جماعة 47»، التي كانت تضم تحت خيمتها أدباء بسطوا نفوذهم لاحقاً على المشهد الثقافي الألماني، وأصحبوا معروفين في أوروبا والعالم، مثل هاينريش بول وغونتر غراس وأنجيبورغ باخمان وغيرهم، وقد اتهمهم هاندكه بـ«العُنّة اللغوية» و«العجز عن الوصف»، ووصف كتابات البعض منهم بـ«الأدب السخيف»، فهو يُعنى عناية بالغة باللغة التي يكتب فيها نصوصه الأدبية المطرزة بالتماعات فلسفية استلهمها من مارتن هايدغر ولودفيغ فيتغنشتاين، كما يذهب سمير جريس، مترجم الرواية، فلا غرابة أن يركز على ذاته و«أناه العليا» التي يستغورها دائماً علّه يُدرك كُنهها، ويفهم سرّ توحّده واحتفائه بالعزلة الأبدية. إنّ أحد أسباب منحه جائزة نوبل عام 2019 هو «براعته اللغوية، وخصوصية التجربة الإنسانية» في معظم أعماله الأدبية التي راجت منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي حتى يومنا هذا.
أثارت كتب هاندكه ورواياته الكثير من اللغط في الأوساط الثقافية والفكرية، وذلك بسبب مساندته الصرب في حرب البلقان، ومعارضته تدخل الناتو، وانشقاقه عن الكنيسة الكاثوليكية، وإعادته «جائزة بوشنر» لمانحيها الألمان، الأمر الذي دفعه إلى العُزلة والانزواء في بيته الباريسي بعيداً عن وسائل الإعلام التي تضعه في دائرة الحرج والارتباك.
وعلى الرغم من وضوح العنوان، بوصفه عتبة نصيّة يحكي فيها دون جوان عن نفسه، إلا أنّ شبح الاستغلاق يحوم في ذهن القارئ، فقد اقتبس المؤلف جملة وردت على لسان «دون جوفاني» في أوبرا موتسارت يقول فيها: «لن تعرفَ مَنْ أنا»، في إشارة واضحة إلى غموض هذه الشخصية المحيّرة التي تحتاج إلى دأب وصبر ومثابرة كي نفهم الإنسان العميق الذي يترفّع عن الأشياء اليومية والعابرة، ويسعى لتحقيق الأحلام النائية أو ملامستها في أقل تقدير.
لم يسعَ هاندكه لأن يكون كاتباً سياسياً، وربما يدلّنا كتابه «أنا ساكن البرج العاجي» على نفوره من الحياة السياسية التي ترفّع عنها، وتخلّص من أحابيلها في هذه العزلة الفردية التي يبحث فيها كل يوم عن ذاته العصيّة المتوترة التي لا تسترخي إلاّ في سويعات الكتابة الاستكشافية التي تعرّي الذات الإنسانية، وتغوص في الطبيعة التي تحيط بالكائن البشري من كل حدب وصوب.
لا يمكن هضم واستيعاب المنجز الروائي لبيتر هاندكه، ما لم يطلّع القارئ على رواياته الأخرى التي لم تُترجم إلى العربية مثل «تكرار»، التي يروي فيها قصة شخص يتحدر من أصول نمساوية سلوفينية يذهب إلى يوغسلافيا «الشيوعية» بحثاً عن هويته «الضائعة». وكذلك رواية «الشقاء العادي» التي تتمحور على نبأ انتحار والدته، وهي في الحادية والخمسين، ليُمسك بالأطياف التي تركتها هذه الأم وغادرته بهدوء وصمت غريبَين.



مصر: انتقادات تدفع مسؤولين للتراجع عن منع جلوس السيدات بجوار سائقي «الميكروباص»

قرار منع السيدات من الجلوس بجوار السائقين تم إلغاؤه (صفحة إدارة المواقف العامة بمحافظة البحيرة)
قرار منع السيدات من الجلوس بجوار السائقين تم إلغاؤه (صفحة إدارة المواقف العامة بمحافظة البحيرة)
TT

مصر: انتقادات تدفع مسؤولين للتراجع عن منع جلوس السيدات بجوار سائقي «الميكروباص»

قرار منع السيدات من الجلوس بجوار السائقين تم إلغاؤه (صفحة إدارة المواقف العامة بمحافظة البحيرة)
قرار منع السيدات من الجلوس بجوار السائقين تم إلغاؤه (صفحة إدارة المواقف العامة بمحافظة البحيرة)

تسبب القرار الذي صدر بمنع السيدات من الجلوس بجوار سائقي الأجرة بمحافظة البحيرة (شمال مصر) في انتقادات، ما استدعى محافظة البحيرة للتدخل وإلغاء القرار والتأكيد على احترام وتقدير المرأة وتعظيم دورها في المجتمع.

وكان القرار الذي نشرته صفحة بعنوان «مشروع مجمع مواقف البحيرة» بتخصيص الكرسي المجاور للسائق للرجال قد أثار جدلاً وانتقادات وشكاوى، وصلت إلى ديوان محافظة البحيرة، وأصدرت المحافظة بياناً، السبت، يلغي هذا القرار، مؤكدة أنها تكنّ كل التقدير والاحترام لجميع المواطنين على حد سواء، «خصوصاً المرأة البحراوية التي نسعى للحفاظ على كل حقوقها وتعزيز تلك الحقوق، وتعظيم دورها في المجتمع»، وفق ما ورد بالبيان.

مع التأكيد أنه تم إلغاء ما صدر في هذا الشأن، وأن الهدف الأساسي الذي نسعى إليه هو تحقيق بيئة آمنة ومناسبة للجميع مع التركيز والتأكيد على حقوق كل أفراد المجتمع، وتحقيق الصالح العام. وأشار البيان إلى أن «ما تم تداوله على صفحة مشروع مجمع المواقف عقب ورود عدد من الشكاوى، لا يعكس السمة الأساسية للغالبية العظمي من سائقي البحيرة من الشهامة والكفاءة».

وحقوقياً، أبدت مبادرة المحاميات المصريات لحقوق المرأة، وهي مؤسسة نسوية معنية بالدفاع عن حقوق النساء والفتيات وتعزيز مبادئ المساواة وعدم التمييز، عن بالغ قلقها إزاء ما تم تداوله بشأن صدور توجيهات إدارية بمنع السيدات والفتيات من الجلوس بجوار سائقي الميكروباصات ووسائل النقل الجماعي بمحافظة البحيرة، حتى وإن جرى التراجع عنها لاحقاً.

وتؤكد المؤسسة، في بيان، السبت، أن «مثل هذه القرارات، سواء طُبّقت أو لم تُطبّق، تمثل انتهاكاً صريحاً لأحكام الدستور المصري، وتعكس منطقاً تمييزياً خطيراً في إدارة المرافق والخدمات العامة».

وعدّت رئيسة مؤسسة «مبادرة المحاميات المصريات لحقوق المرأة»، هبة عادل، «التذرع بمفهوم الآداب العامة لتبرير مثل هذه القرارات يمثل توسعاً خطيراً في تقييد الحقوق»، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «رغم أن التراجع السريع عن القرار يُعد خطوة صحيحة، فإنه يكشف عن خلل في آليات اتخاذ القرار وغياب المراجعة الدستورية المسبقة، وهو ما يستدعي إصلاحاً مؤسسياً وتشريعياً حقيقياً».

وأكدت ضرورة «إقرار القانون الموحد لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات، بوصفه الإطار التشريعي القادر على منع مثل هذه الانتهاكات»، على حد تعبيرها.

وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي تعليقات متنوعة على هذا القرار، رغم التراجع عنه، وهو ما عدّه المتخصص في علم النفس الدكتور جمال فرويز، قراراً تم اتخاذه نتيجة موقف فردي من سائق تجاه سيدة بجواره، ومثل العادة تم التعميم، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «لقد تم التراجع عن القرار مثل الكثير من القرارات الانفعالية التي تصدر من دون دراسة علمية».

وتوالت التعليقات التي أخذت القرار على محمل قد يتسبب في «وصم غير مفهوم لسيدات وسائقين»، وفق الخبير السوشيالي، معتز نادي، الذي رصد انتشار هذا القرار بشكل واسع، وأرجع ذلك لـ«كونه تصرفاً مثيراً للجدل ويفتح باباً للسخرية والتندر، ويثير علامة تعجب حول اتخاذه والتراجع عنه بسرعة»، وفق تصريحاته لـ«الشرق الأوسط».


هل يصلح النرجسيون للعمل معاً؟

عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)
عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)
TT

هل يصلح النرجسيون للعمل معاً؟

عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)
عادة ما تكون العلاقة بين الأشخاص النرجسيين آسرة ومضرة (رويترز)

يُنظر إلى النرجسية عادةً على أنها صفة فردية. فالنرجسيون، المقتنعون بقدراتهم ومواهبهم، يبدو أنهم مصممون على شق طريقهم بأنفسهم نحو القمة. وعندما يلتقي نرجسيان، قد نتوقع أن يكره كل منهما الآخر بدلاً من السعي إلى التآلف والانسجام معاً. ومع ذلك، تستند نتائج دراسة جديدة إلى كتابات عالم النفس والفيلسوف الألماني الأميركي، إريك فروم، لتُظهر كيف يمكن أن يألف النرجسيون العمل معاً في جماعات.

تأتي الدراسة الجديدة بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى 125 لميلاد فروم، الذى يُعد من أبرز مفكري القرن العشرين الذين مزجوا بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع والفلسفة.

والنرجسية هي سمة شخصية يعاني أصحابها من التركيز المفرط على الذات، وعادة ما يكون ذلك على حساب الآخرين. ويتصف النرجسيون بالأنانية، وبالتوق إلى الإعجاب بأنفسهم، وغالباً ما يُظهرون نقصاً في التعاطف والتواصل مع الآخرين. وبدلاً من ذلك، ينظرون إلى العلاقات على أنها فرص لتعزيز سيطرتهم عليهم.

كتبت الدكتورة سوزان كراوس ويتبرن، الأستاذة الفخرية في العلوم النفسية والدماغية في جامعة ماساتشوستس أمهيرست بالولايات المتحدة، في تعليق لها على نتائج الدراسة، المنشورة الجمعة، على موقع «سيكولوجي توداي»، كان فروم قد تناول في ستينات القرن العشرين ظاهرة أطلق عليها اسم «النرجسية الجماعية»، وربطها بمصطلح نفسي ظهر في منتصف القرن العشرين يُعرف باسم «الشخصية السلطوية». إذ يعارض الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الصفات أي مفاهيم للحرية، ويسعون جاهدين لقمع أي تعبير عن الاستقلالية لدى الآخرين.

يُعيد الباحث فولفغانغ فريندته، من جامعة فريدريش شيلر في ألمانيا، إحياء هذا المصطلح ليُطبّق على ما يعتقده الكثيرون بأنه عودةٌ حاليةٌ للسياسات الاستبدادية، مشيراً إلى أن «الأشخاص ذوي التوجه القوي نحو الهيمنة يُقيّمون الآخرين بناءً على انتمائهم الجماعي، ويعتقدون أن مجموعتهم أفضل أو أكثر قيمةً من مجموعات الآخرين». ومن ثم، ينتقل الارتباط من الاستبداد إلى النرجسية الجماعية عبر مسار توجه الهيمنة الاجتماعية.

ويؤكد فريندته على أن النرجسية الجماعية تندرج ضمن هذا التفسير، إذ إن الرغبة في استمرار وجود المجموعة تضمن بقاء أفرادها. وكما هي الحال في النرجسية الفردية السامة، ينتج عن هذا الشكل من النرجسية الجماعية رغبة في سحق من ليسوا ضمن المجموعة، مما يؤدي إلى التمركز العرقي والقومية المتطرفة.

ووفق الدراسة، تسعى هذه الجماعات إلى قادة يميلون هم أنفسهم إلى النرجسية السامة، ساعين إلى تعزيز شعور المجموعة بالتفوق وقمع الغرباء. فمن خلال التماهي مع جماعتهم، لم يعودوا يشعرون بالوحدة، ولا يضطرون لمواجهة أسئلة مُقلقة حول معنى الحياة.

ويعتمد فريندته على نتائج دراسات سابقة كشفت أيضاً أن مشجعي الفرق الرياضية المتنافسة عادة ما يقعون ضحية لهذا التحيز بسهولة. تخيل حجم العداء الذي قد ينشأ بين أشخاص كان من الممكن أن يكونوا أصدقاء لولا كراهيتهم لفريق كل منهم المفضل.

ويؤكد على أن الخروج من هذه المعضلة يتطلب فهم مفهوم «الحرية الإيجابية»، وهو مصطلح آخر مستوحى من فروم. فالحرية الإيجابية تُمكّنك من رؤية نفسك ككائن مستقل، حتى وإن كنت تُعرّف نفسك من خلال انتمائك إلى جماعة.


داوود عبد السيد... «فيلسوف السينما» صاحب «العلامات» الفريدة

المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)
المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)
TT

داوود عبد السيد... «فيلسوف السينما» صاحب «العلامات» الفريدة

المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)
المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)

منذ حضوره الأول اللافت بفيلم «الصعاليك» عام 1985، أعلن المخرج المصري داوود عبد السيد، الذي غيّبه الموت يوم (السبت)، عن مدرسة إخراجية جديدة رسَّخت لفكرة المخرج المؤلف، لتترك لاحقاً علامات مفعمة بالتميز والتفرد في السينما المصرية.

وأعلنت زوجة المخرج داوود عبد السيد، الكاتبة الصحافية كريمة كمال، وفاته بمنزله ظُهر اليوم بعد معاناة مع المرض منذ إصابته قبل سنوات بالفشل الكلوي؛ ليرحل عن عمر ناهز 79 عاماً، ويودعه محبوه، الأحد، حيث تشييع جنازته من كنيسة مار مرقس.

لم يعتمد الإرث السينمائي للمخرج الراحل على عدد الأفلام التي قدَّمها، وإنما كان رهانه الدائم على نوعية ما يقدِّمه، فعبد السيد المولود في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1946 لم يقدِّم على مدى مسيرته التي بدأت في سبعينات القرن الماضي سوى 9 أفلام روائية طويلة، سبقتها 6 أفلام وثائقية، وامتازت أفلامه منذ عمله الطويل الأول «الصعاليك» وحتى فيلمه الأخير «قدرات غير عادية»، بأنَّها تحمل أفكاراً ورؤى مغايرة للسائد، تدعو المتلقي للتفكير والتأمل، وسرعان ما اجتذبت جمهوراً واسعاً وحصدت جوائز في مهرجانات مصرية وعربية ودولية.

وتميَّزت أفلامه برؤية فكرية وإنسانية عميقة وأسهمت في ترسيخ مكانة الفن السابع بوصفه أداةً للتنوير وبناء الوعي، وفق وزير الثقافة المصري، أحمد فؤاد هنو، في نعيه للمخرج الراحل، مؤكداً أن «اسمه سيبقى حاضراً في الذاكرة الثقافية والفنية المصرية لما قدَّمه من إسهامات رفيعة المستوى، استطاعت أن تحوِّل الشاشة إلى مساحة للتفكير وطرح الأسئلة الكبرى، وأن تعبِّر بصدق عن هموم الإنسان والمجتمع».

داوود عبد السيد (فيسبوك)

داوود الذي عمل مساعداً في بدايته لكبار المخرجين مثل يوسف شاهين في فيلم «الأرض»، وكمال الشيخ في «الرجل الذي فقد ظله»، سرعان ما توقَّف عن القيام بهذا الدور الذي لم يتحمس له، فهو غير قادر على التركيز سوى فيما هو مهموم به مثلما صرَّح من قبل.

استهل عبد السيد مسيرته في مجال الإخراج مع السينما الوثائقية بفيلم «رقصة من البحيرة» عام 1972، ثم توالت أفلامه ومنها «تعمير مدن القناة»، و«وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم»، و«الأمن الصناعي»، و«العمل في الحقل»، و«عن الناس والأنبياء والفنانين».

ووفق مدير التصوير السينمائي، سعيد شيمي، الذي قام بتصوير فيلم «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم»، فإن داوود عبد السيد دعا من خلال الفيلم لأهمية تعليم الفلاحين ليفيدوا المجتمع، ما أحدث اهتماماً بتعليمهم، حسبما يضيف لـ«الشرق الأوسط»، مشيراً إلى أن «داوود مفكر ومؤلف، وله رؤية فلسفية تغلف أفلامه، لا سيما أعماله الروائية التي كتبها وأخرجها».

حملت أفلام داوود عبد السيد نبضه وروحه وعالمه الخاص في رأي الناقد طارق الشناوي، فأعماله الـ9 تعبر عن إحساسه ورؤيته الخاصة. ويضع الشناوي فيلم «أرض الخوف» في مكانة استثنائية، بوصفه «من الأفلام التي حفرت في الوجدان وفي الذاكرة مساحة لا تُمحى»، بينما فيلمه «الكيت كات» أكثر أفلامه نجاحاً جماهيرياً، الذي توقف عنده النقاد كثيراً، أما «رسائل البحر» فيراها حديثاً عن الرسائل التي يقدمها لنا الله، ولا يستطيع سوى بعض البشر قراءتها، وقد حاول داوود من خلال الفيلم أن يجعلنا نسمع ونقرأ معه هذه الرسائل، على حد تعبير الشناوي.

مشهد من فيلم «أرض الخوف» (يوتيوب)

ويعود إلى فيلمه الأول «الصعاليك» الذي يراه «رؤية بها عمق وقراءة مبكرة لمناخ الانفتاح الاقتصادي الذي فتح الباب على مصراعيه لفساد مقنن خارج العدالة»، بينما في «سارق الفرح» عبَّر عن البسطاء الذين لا يجدون وسيلة للسعادة إلا بسرقة لحظات من الفرح حتى لو سرقوها من بعضهم بعضاً. وعَدّ الشناوي آخر أفلام داوود عبد السيد «قدرات غير عادية» بمثابة ومضة له، وكأنه يريد أن يعانق السماء بهذا الفيلم الأخير، لافتاً إلى أن أفلام المخرج الراحل صارت مدرسة لأن كثيراً من المخرجين الشباب تعلموا منها، وقاموا بإهداء أفلامهم الأولى له تأثراً بما قدمه.

اسمان تكرَّرا في أغلب أفلام داوود عبد السيد، هما الموسيقار راجح داوود ابن عمه الذي ألف الموسيقى التصويرية لأفلامه، وفنان الديكور أنسي أبو سيف الذي صمم المناظر لأغلب أفلامه. وقد ذكر في حوار سابق لـ«الشرق الأوسط» أنه تخرج وداوود في الدفعة نفسها بمعهد السينما، وبينهما تفاهم كبير، وجمعتهما صداقة انعكست على أفلامهما، وأنه شاركه في كل أفلامه ما عدا «البحث عن سيد مرزوق».

ولعل أصعب قرار اتخذه المخرج داوود عبد السيد وأثار جدلاً كبيراً وردود فعل واسعة، كان قراره الاعتزال عام 2022، وقد جاء ذلك بعد فترة تَوقَّف فيها تقريباً عن العمل منذ آخر أفلامه «قدرات غير عادية» عام 2015، وفي حوار لـ«الشرق الأوسط» برَّر عبد السيد هذا القرار بأنه «أدى رسالته عبر الأفلام التي قدمها، وأن الأسباب التي دفعته لذلك طبيعية، ومن بينها تقدمه في السن، فضلاً عن تغير الجمهور»، لكنه كشف أيضاً عن كثير من المرارة التي غلفت حديثه قائلاً إنه ظل يبحث 10 سنوات عن تمويل لفيلم «قدرات غير عادية»، وأنه بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم «الكيت كات» ظلَّ ينتظر 5 سنوات بعدها ليقدم فيلماً آخر، مؤكداً أنه لم يغريه في أي وقت الكم على حساب الكيف، بل يسعد بما أنجزه من أفلام، رافضاً أن يرضخ الفنان للجمهور تحت دعوى «الجمهور عايز كده»، قائلاً: «إذا قدمنا عملاً يحترم عقل الجمهور وإنسانيته وعواطفه فسيُقبل عليه».

فيلم «الكيت كات» من أنجح أعمال المخرج الراحل (سينما دوت كوم)

ونعى مخرجون وفنانون المخرج الراحل، وعبَّر الفنان حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي، عن حزنه، قائلاً إنه برحيل داوود عبد السيد تفقد السينما المصرية أحد أهم مبدعيها وأكثرهم صدقاً وخصوصية، مؤكداً أنه «كان صاحب رؤية فلسفية وإنسانية نادرة، وترك أعمالاً ستبقى مرجعاً في الجمال والوعي، وسنظل نحتفي بإرثه، ونتعلم من بصيرته السينمائية العميقة».